بقلم:محمود بادلي
دائماً من خلال قراءتنا لأي عمل روائي أو فني إجمالاً، رواية، شعر، قصة، رسم.. نرى بأن الكاتب يدون جزءاً كبيراً أو صغيراً من ذاته وما عايشه وسوف يعايشه وما كان عليه في الماضي أو أن يكتب حاضره وما سيكون عليه مستقبلاً، يخفي ذاته في انتحال شخصية معينة ربما يبرز بمظهر بطل العمل أو شخصية هامشية أو عادية ذلك حسب وجوده ونظرته إلى ذاته في الواقع المعاش وما يدفعه إليه لاشعوره لتكوين شخصيته كما يريد هو أن يكون، تلك الشخصية، الحلم، الرغبة، الطموح، ربما الظروف الحياتية والواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي أصبحت عائقاً أمام تحقيقها.
دائماً من خلال قراءتنا لأي عمل روائي أو فني إجمالاً، رواية، شعر، قصة، رسم.. نرى بأن الكاتب يدون جزءاً كبيراً أو صغيراً من ذاته وما عايشه وسوف يعايشه وما كان عليه في الماضي أو أن يكتب حاضره وما سيكون عليه مستقبلاً، يخفي ذاته في انتحال شخصية معينة ربما يبرز بمظهر بطل العمل أو شخصية هامشية أو عادية ذلك حسب وجوده ونظرته إلى ذاته في الواقع المعاش وما يدفعه إليه لاشعوره لتكوين شخصيته كما يريد هو أن يكون، تلك الشخصية، الحلم، الرغبة، الطموح، ربما الظروف الحياتية والواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي أصبحت عائقاً أمام تحقيقها.
وهذا ما فعله جان بابير في روايته ” كورستان.. فوضى الفوضى “ أخفى ذاته في شخصية كورستان دون أن يبرز ذلك علناً أمام القارئ.
ولكن يبدو أنه لم يستطع أن يستمر في انتحال تلك الشخصية في الجزء الثاني من روايته ” كورستان.. صرير الأحد .. غرفة الأربعاء” التي صدرت في عام 2007، أو ربما أراد أن يصارح قارئه بحقيقة ذاته بما كان عليه وكما هو موجود دون تجميل أو ترميز أو قناع ذلك ليتخلص من صفة الانتحال والازدواجية الشخصية الذي كان يتقاسم من خلالها في لعب الأدوار مع كورستان وأسماء أخرى متعددة..
لذلك كله نراه يتجرأ بفصاحة لغته وصراحته معلناً ذاته للقارئ في مقدمة روايته:” إني قريب جداً من حافة الدمار، وهل في العمر متسع لأسير في طريقين؟ أو ينتحلني أكثر من اسم، كورستان هو أنا هو أنتِ هو أنا الذي كنت هو.. هو أنا لأنه من حبر دمي هو عدنان بن محمد والدته عدلة محل ورقم القيد بوزيك كوباني 28 / 2 / 1972 أو 75 أو 1500 قبل الميلاد والمهرب من المخا… ” ض” جان بابير، الذي هو أصدق منا جميعاً.” ص 11 “
بهذا فهو يزيل القناع عن وجه بطله كورستان ” هو أنا الذي كنت هو” وبعد هذا الاعتراف كان من المفترض أن يكتب في نهاية مقدمته للرواية اسم جان بابير او عدنان شيخ حسن، لكن يبدو ان كورستان أصبح جزءاً من ذاته “هو” ولا يمكن له أن يجاري الأحداث والعيش من دونه، لذلك رغب في أن يبقى في انفصامه ليذيل مقدمة الرواية وعناوينها باسم كورستان ” المقبرة ” .
كورستان توأم العدم في رحم الكون وعلى خارطة كوردستان، هذه البقعة الموجودة في اللاوجود على خارطة الكون، أصبحت ومنذ الخليقة مقبرة احتضنت كل ويلات العالم والحروب والانكسارات والموت والقتل والأسلحة الكيماوية وغاز الخردل والثورات والانتفاضات والأوجاع والأحزان والآلام والأفراح والحب والعشق.. إلى ما لانهاية من الخسارات والانهزامات والانتصارات المدونة وغير المدونة بدم الزهور.
إذاً فليبقى كورستان عنواناً من أجل ولادة جديدة، لكن كيف يمكن لنا خلق هذه الولادة الجديدة ؟ هل نبقى نلف حول خاصرتنا حبل الانعزالية والانطوائية ؟ هل نبقى لنحترق في نار الكبت والحرمان ؟ هل نبقى نخاف من إرهاب التخوين باللاوطنية لأوطان كانت انتمائنا إليها هو جهلنا وتخلفنا بذواتنا وقدرة الله والعالم ومؤامراتهم في أن يلفظونا ويبعثرونا كشظايا روحاً وجسداً ؟
أم أن نعترف بالواقع والوضع الراهن و ننفتح عليه بكليتنا، نلتفت إلى الذات ونتعمق في سيكولوجيتنا وسيكولوجية الآخر، نقرأ الماضي ونتقمص العبرة من الدروس المدونة في ذاكرة الخسوف والكسوف، لنتعامل مع الحاضر بعقول منفتحة ونستخدم المنطق في التفكير والمرونة في التعامل مع بعضنا البعض والآخرين والأمور من حولنا وما يحيط بنا، اعتقد أن الإنسان الكردي لديه القدرة والقابلية على الانفتاح على العالم ويمتلك قدرات وطاقات كامنة من أجل التقدم والتمدن والتطوير.
إن ما ذكرت أعلاه ليس تبريراً لما سيأتي في محتوى الرواية، بل تمهيداً لفهم محتوى الرواية وإدراكاً للتغييرات الجارية والتي تجري في العالم من حولنا سواء كان على المستوى الفني أو السياسي أو الاجتماعي.
ففي ثنايا الرواية نرى جان بابير يطرح موضوع الرغبة الجنسية وبقوة، لغة وممارسة إلى حد الغوص في اللامنتهى ضمن جدلية فلسفة القبول والاعتراف والرضا المتبادل في لعب الأدوار واحترام الخصوصيات، حتى إذا كان ما جرى معه بفعل الصدفة ” الصدفة هي الحياة “ لكنها تنم عن الحاجة إليها، حاجة الإنسان في أن يتفاعل مع الإنسان أينما كان ومن يكون بغض النظر عن عرقه ودينه وجنسه، طالما هناك عولمة الاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام، فلا ضير في وجود عولمة الحب، لكن بشرط الحفاظ على الوجود وروح الوجود، وهذا ما فعله كورستان في علاقته العاطفية مع “أوهايو”، أنه يحبها إلى حد الجنون والموت، لكنه وفي الوقت نفسه يحب “نازو أو نازنين”، إنها الحب الأول، الوطن الأول. لنتعمق إذاً في قراءة محتوى الرواية ومجريات الأحداث لنرى كيف تم تجسيد لغة الرغبة الجنسية..
جميلة جداً تلك الصدفة التي حدثت مع كورستان، الموظف في إحدى المقاهي بوظيفة عاطل عن العمل، الذي اعتاد وبفعل النضال السري والثورة أن لا يعود من نفس الطريق مرتين، وبتغيير اتجاه طريقه ينقذ حياة فتاة يابانية اسمها أوهايو وهي من أقصى الشرق من طوكيو، ينقذ حياتها من الموت بسحبها من يدها من أمام سيارة يسوقها سائق متهور أو ربما شارد نتيجة الضغوط النفسية والسياسية والمعيشية التي يعاني منها الإنسان السوري بوجه عام.
إنقاذ حياة إنسان أو إنسانة إنه عمل إنساني بامتياز، لكن هل للصدفة دوافع مسبقة أو هل هناك دوافع تسبق الصدفة ؟ لا أظن ذلك، فالصدفة صدفة تقع دون إرادة منا ودون تخطيط مسبق، ودون دوافع لخلقها ولا يمكن لنا أن نحدد الزمان والمكان لخلقها، إذاً فهي صدفة.. ولكن بمقدور المرء أن يرسم ما ينوي عليه في أثناء وقوع الصدفة أو ما بعدها في حال إذا كان لديه دوافع ورغبات وغايات يريد أن يحققها، وهنا يقول الكاتب: ” إذا بحثنا في دوافع هذه الصدفة فهي كثيرة” ص 13، وكان بإمكانه أن يقول إن هذه الصدفة خلقت لدي دوافع كثيرة في كينونتي، وليكن الدافع هو بناء علاقة عاطفية حميمية أو علاقة صداقة أو تعارف أو… الخ، باعتبار انه يقول: ” عيوني كانت تفضحني في تلك اللحظة كنت افحصها وحتى أشتهيها..” ص13، فالدافع هنا كان جنسياً بحتاً.. فهل ثمة شيء هنا يدعو إلى الدهشة والاستغراب؟ بالنسبة لي لا اعتقد ذلك.. فالرجل الشرقي لم يتلقى في حياته أي نوع من أنواع التربية الجنسية، وثقافته الجنسية ضئيلة إلى حد ما، فأغلب الأزواج غير سعيدين مع بعضهم البعض، وكثيراً ما يتم الزواج ضمن عادات وتقاليد قديمة لا يرى الأزواج بعضهم البعض إلا في ليلة الزفاف أو يتم الزواج تحت ضغوط وشروط الأهل.. لذلك كثيراً ما نلمس حالات الطلاق والخلافات والمشاحنات الزوجية في مجتمعاتنا الشرقية، أما بالنسبة للمجتمع الكردي حتى إذا كانت حالات الطلاق نادرة جداً إلا أنه يعاني الكثير من الأمراض الاجتماعية، فالكثير من الأزواج غير سعداء مع بعضهم البعض لكنهم يحاولون جاهداً الحفاظ على البيت الزوجي من الانفكاك بسبب الأولاد وحفاظاً على حرمة العادات والتقاليد الاجتماعية. فحالة الحرمان والكبت الجنسي بكليته تنخر مجتمعاتنا حتى العظم، هناك جوع جنسي لا مثيل له، حيث يعيش الرجل الشرقي القهر والاضطهاد إنسانياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وفكرياً في أجواء قاسية وضاغطة نفسياً وفكرياً وجسدياً لا مثيل له في الكون. إذاً فالاشتهاء في حالة كورستان طبيعية جداً تنم عن حاجة طبيعية إنسانية واجتماعية بغض النظر عن العادات والتقاليد والأخلاقيات والفعل الإنساني الذي قام به في إنقاذ حياة فتاة.
ثم يقول: ” هل كان سبب ذلك الفراغ الذي أعيشه.. الحاجة اللجوجة في داخلي، أن انتزع منها ليلة.. ليلة مختلفة. “ ص14، بهذا الإفصاح يريد الكاتب أن يبرر للقارئ فعل كورستان، هل هذا الفعل نتيجة الفراغ الذي يعيشه.. أم بسبب حاجة ملحة في داخله..؟، والتبرير هنا من الوسائل الدفاعية اللاشعورية أراد الكاتب بها تبرير موقف كورستان طبعاً بسبب تابو الاخلاقيات الدينية والتقاليد الاجتماعية السائدة، ولكن اعتقد أن الموقف لم يكن بحاجة لهذا التبرير، حيث كان بإمكانه أن يترك ما وراء تفكير كورستان للقارئ نفسه دون أن يفصح عنها.
يبدو أن كورستان مخلوق بشري غير عادي أبداً، يملك طاقة وقوة جنسية حيوية ما فوق العادية، ففي روايته ” فوضى الفوضى ” يقيم علاقات عاطفية حميمية مع “تارا ” و ” نيلوفر ” ويدخل معهن في معارك جنسية ساخنة، ويبحث في نفس الوقت عن حبه الأول، عن وجوده، عن وطنه، عن فتاة أحلامه “نازو أو نازنين “، وهنا في ” صرير الأحد.. غرفة الأربعاء “ يجعل من صدفة اللقاء مع “أوهايو” صدفة حيوية خارقة يمارس معها الحب بكل حميمية ونشاط، وفي نفس الوقت يستجيب لرغبة جارته “هيفاء” ويمارس الجنس معها بكل ما لديه من طاقة، إضافة إلى ذلك نراه يبحث عن نازو، ويتأمل في لوحتها المعلقة في غرفته الكئيبة، ويسترجع ذكرياته معها منذ أيام الطفولة والمراهقة والثورة، ” عندما يولد الحب، بل يكبر الحب في أجواء كهذه (أجواء الثورة والجبال)، تفترش الحياة الدم وتلتحف بالموت، لابد أن يكون الحب مختلفاً عن كل قصص الحب، والجزء الناضج من حكايتي، بدأ مع نازو في تلك الجبال، التي لم نكن نستطيع أن نسرق منها سوى لحظات، عبر ابتسامة فرح أو قبلة مختلسة….” ص 61 .
إن حياة الثورة التي عاشها كورستان في الجبال كانت قاسية جداً، حيث أن البقاء كان يترنح ما بين لحظات الحياة والموت، فقدان الرفاق وغيابهم بعد كل عملية من بين الصفوف كان فاجعة بالنسبة له، ” كأن الفاجعة تم ترويضها، أو روضت الفاجعة في داخلي..” ص 60 .
إذاً حياة الثورة القاسية وفقدان الرفاق وحب نازو وغيابها الطويل وجروحه وانكساراته الخارجية والداخلية والظروف المعيشية والسياسية السيئة، جعله في حالة إحباط شديدة يعاني القلق والاضطراب واللاستقرار العاطفي ما بعد الثورة.
” أعتقد أنني مصاب بجرب إنساني أهرب من نفسي ومدني إلى مدن ونساء أخريات لكي أشفى من تلك الذاكرة اللعينة، الواقفة قبالتي لتزلزل روحي المثقلة بضغط الماضي الذي لا أجد حيلة للفكاك منه”.ص 61
وهنا يوضح لنا الكاتب بأن تلك العلاقات العاطفية ( الجنسية ) ( تارا، نيلوفر، أوهايو، هيفاء ) ليس إلا نوع من الهروب من الذات في استحالة المواجهة والعيش في الماضي الثقيل بهمومه ومعاناته، وكأنه نوع من التنفيس مع أنه في الحقيقة ليس تنفيساً بل حاجة جنسية نتيجة الكبت والحرمان وانه نوع من التمرد والفوضى والعبثية للتعويض عن مما هو مكبوت نتيجة حرمانه منها أيام الثورة وربما بسبب قضائه لفترة المراهقة في الثورة دون أن يعيشها كما يجب باعتبار أن مرحلة المراهقة مرحلة حساسة وخطيرة تتطلب الانسجام مع متغيراتها وتأمين احتياجاتها والتكيف والتوافق مع ما يناسب الإمكانات والقدرات والحاجات الذاتية للفرد والبيئة الاجتماعية.
وعلاقته مع أوهايو بالصدفة والتي تحولت فيما بعد إلى حالة عشق غير طبيعية برومانسيتها وشاعريتها، ليصل في النهاية إلى اختراق الحدود الفاصل ما بين العذرية واللاعذرية، ذلك برضا الطرفين في انتهاك تابو أخلاقيات كافة الديانات من زرادشتية مروراً بالتاوية إلى المحمدية.
ثم ممارسته للجنس مع جارته هيفاء في حدود رغبتها وحاجتها، المقيمة في نفس البناء وهي أيضاً مستأجرة تسكن غرفة لوحدها بعيداً عن أهلها من السلمية، حيث أن الوحدة والانعزال والحرمان والحاجة دفعهما إلى ممارسة الجنس، ” أخذتني إلى السرير قربت فمها من فمي، قبلة، اثنان، ثلاثة وأخرى طويلة، ويدها تعمل على مهل تحت، أخرجته (…) دلكته، سال لعاب الشهوة، ونزلت أوهايو من صورتها، وصفعتني لذة نازو، وأكملت هيفاء حلم أوهايو، والتي كانت سبب تعاستي، نازو أمسكتني بقوة وتشدني إليها، وصرير يخرج من السرير…”.
فكافة هذه العلاقات العاطفية جنسية بحتة هدفها تحقيق اللذة الجنسية وإشباعها وهي ناجمة عن عدم الاستقرار العاطفي وعن الكبت والحرمان والجوع العاطفي.
كورستان هذا الإنسان المتمرد الذي دفعه حلمه وحبه لوطنه في أن يكون إنساناً حراً في وطن حر إلى الجبال والثورة، عاد خائباً من الثورة بأعطاب في يده وقدمه دون أن يحقق حلمه وبعشرات الاعطاب في داخله مما رآه في أيام الثورة.
كورستان أبن تلك القرية النائية ” كوباني ” المتخلفة بحكم العلاقات العشائرية والمهووسة بالسياسة التحزبية والمغمورة بعادات وتقاليد دينية متخلفة “مدينة محكومة بالسمسرة، نحمل فيها جوعنا في حقيبة وديننا في حجاب، وتشردنا في صرة، وجهلنا في خلايانا.. ” ص 115.. يرى نفسه بعد العودة من الثورة في المدينة ” دمشق “، لذلك نرى كيف أن الجهات تختلط عليه وتصيبه حالة شلل وجمود وإحباط نتيجة اصطدامه بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد، حيث رأى نفسه موظفاً قزماً في احد المقاهي بشهادة عاطل عن العمل من أجل أن يستمر في البقاء، ووطن يرثى له وهو ما يسميه بجمهورية الباص ” سوريا ” الذي بقي على حاله دون أن يهب فيه رياح التغيير “وطن ينتشي بفوضاه إلى وطن يعتنق الحلم للهروب من الواقع وتضييق الطرق المهلكة بالوطن لدفة قيادة لا تتقن سوى توزيع الأوسمة وإكراه شعوبها على الجوع، وتعصف بضفاف مدنه الاستخبارات الأمنية من كل الجهات.. أيها الوطن المتجلي في حلقات الجشع، وحدقات المحبين على طول المدى. يا وطن الضباط والصفقات المشبوهة يا وطن القحاب والرشوة والأنذال يا ضروعاً حلوبة بأصابع الأوغاد، ويا وطناً ينسى اللحمة الداخلية ويخلع السروال للضغوط الخارجية” ص114.
ثم المعارضة السورية الضعيفة بفعاليتها وعددها وعجزها عن الانخراط في المجتمع حيث يقول “لو قدر لي أن اجمع كل عشيقاتي في مكان واحد لفاق عددهم المعارضة السورية” ص 111 . هذه المقارنة بين عدد المعارضين وعدد العشيقات، أبداً ليست في مكانها لأني ألمس فيها نوع من أنواع التقليل بمكانة المرأة والاستهتار بعاطفتها وعقلها، علماً أن ما يقوله الكاتب في وصف المعارضة السورية بأنها ضعيفة وقليلة العدد وليست لها أي فاعلية في الشارع السوري، بلا شك هي حقيقة واقعية نشهدها ونعيشها يومياً، ويمكن أن أضيف هنا بأن بعض المعارضين في إعلان دمشق متناغمين مع السلطة في الكثير من المواقف.
إذاً هذا القروي والثوري والجبلي والمتشائم من الحياة ينخرط بكليته في حياة المدينة، يصارع الحياة ويحاول أن يكون مدنياً وحضارياً أكثر من أبناء المدينة أنفسهم، يكره الحدود والحواجز بين البشر، يعترف فقط بلغة واحدة بين البشر وهي لغة الجسد ” لغة الرغبة ” وحدوداً واحدة هو أن تجتمع السرة مع السرة والأنفاس تتشابك وأن ينطق الجسدان في جسد واحد، أن يسكب ماءه العظيم ولذته الأعظم، وأن يرتوي العطش الأعظم..وتتدحرج اللذة والرعشة الكبرى، تتقن طقوساً بوذية، زرادشتية، إسلامية، وبكل اللغات تنطق الأعضاء في الأبدان وتتقن الشفاه فك الطلاسم والأحاجي..العانة تغوص عميقة في العانة، وتشتبك الأيدي والأقدام، هذه هي اللغة الواضحة التي تأخذ رضاب العشق الأبدي.
هل حقاً ما يذكره الكاتب هو ما تأخذ على عاتقه رضاب العشق الأبدي، وهل العشق السرمدي يكتمل من دون العشق الروحي ؟ هل لغة الجسد وحدها كافية من أجل كمال العلاقات العاطفية ( الإنسانية والاجتماعية ) ؟ وهل هذه الفوضى في تعدد العلاقات الجنسية التي انغمس فيها كورستان تندرج في قائمة الحب الأبدي ؟
إن الحب حتى يكون صادقاً وحقيقياً يجب أن لا يكون من اجل شيء معين، بل من أجل كل شيء، باعتبار أنه نشاط نفسي واجتماعي وجسدي في آن واحد، وإقامة العلاقة العاطفية الغرامية يجب أن يكون متجهاً نحو شخص واحد لا عدة أشخاص في نفس الوقت، فالعلاقات المتعددة لا توحي بصدق العلاقة والحب الحقيقي، ومن المؤكد سيكون أحدها غير حقيقية ومؤقتة يمكن يكون ذلك من أجل منفعة كالمال أو الرغبة الجنسية أو أي شيء آخر من هذا القبيل، والنظر إلى الحياة والعلاقات الإنسانية بمنظار لغة الرغبة وحدها- بالرغم من ضرورتها وأهميتها- ستكون نهاية وخيمة لبني البشر وجماليته وطاقاته وقدراته الخلاقة في مناحي الحياة الأخرى.
أخيراً يمكن القول أن شخصية كورستان نموذج لمئات الآلاف من الشخصيات الموجودة في مجتمعنا، وهي من نتاج المجتمع والدولة، ذلك المجتمع المقهور من كافة النواحي عاطفياً ونفسياً وفكرياً واجتماعياً وسياسياً ودينياً واقتصادياً…الخ.
لذلك كله نراه يتجرأ بفصاحة لغته وصراحته معلناً ذاته للقارئ في مقدمة روايته:” إني قريب جداً من حافة الدمار، وهل في العمر متسع لأسير في طريقين؟ أو ينتحلني أكثر من اسم، كورستان هو أنا هو أنتِ هو أنا الذي كنت هو.. هو أنا لأنه من حبر دمي هو عدنان بن محمد والدته عدلة محل ورقم القيد بوزيك كوباني 28 / 2 / 1972 أو 75 أو 1500 قبل الميلاد والمهرب من المخا… ” ض” جان بابير، الذي هو أصدق منا جميعاً.” ص 11 “
بهذا فهو يزيل القناع عن وجه بطله كورستان ” هو أنا الذي كنت هو” وبعد هذا الاعتراف كان من المفترض أن يكتب في نهاية مقدمته للرواية اسم جان بابير او عدنان شيخ حسن، لكن يبدو ان كورستان أصبح جزءاً من ذاته “هو” ولا يمكن له أن يجاري الأحداث والعيش من دونه، لذلك رغب في أن يبقى في انفصامه ليذيل مقدمة الرواية وعناوينها باسم كورستان ” المقبرة ” .
كورستان توأم العدم في رحم الكون وعلى خارطة كوردستان، هذه البقعة الموجودة في اللاوجود على خارطة الكون، أصبحت ومنذ الخليقة مقبرة احتضنت كل ويلات العالم والحروب والانكسارات والموت والقتل والأسلحة الكيماوية وغاز الخردل والثورات والانتفاضات والأوجاع والأحزان والآلام والأفراح والحب والعشق.. إلى ما لانهاية من الخسارات والانهزامات والانتصارات المدونة وغير المدونة بدم الزهور.
إذاً فليبقى كورستان عنواناً من أجل ولادة جديدة، لكن كيف يمكن لنا خلق هذه الولادة الجديدة ؟ هل نبقى نلف حول خاصرتنا حبل الانعزالية والانطوائية ؟ هل نبقى لنحترق في نار الكبت والحرمان ؟ هل نبقى نخاف من إرهاب التخوين باللاوطنية لأوطان كانت انتمائنا إليها هو جهلنا وتخلفنا بذواتنا وقدرة الله والعالم ومؤامراتهم في أن يلفظونا ويبعثرونا كشظايا روحاً وجسداً ؟
أم أن نعترف بالواقع والوضع الراهن و ننفتح عليه بكليتنا، نلتفت إلى الذات ونتعمق في سيكولوجيتنا وسيكولوجية الآخر، نقرأ الماضي ونتقمص العبرة من الدروس المدونة في ذاكرة الخسوف والكسوف، لنتعامل مع الحاضر بعقول منفتحة ونستخدم المنطق في التفكير والمرونة في التعامل مع بعضنا البعض والآخرين والأمور من حولنا وما يحيط بنا، اعتقد أن الإنسان الكردي لديه القدرة والقابلية على الانفتاح على العالم ويمتلك قدرات وطاقات كامنة من أجل التقدم والتمدن والتطوير.
إن ما ذكرت أعلاه ليس تبريراً لما سيأتي في محتوى الرواية، بل تمهيداً لفهم محتوى الرواية وإدراكاً للتغييرات الجارية والتي تجري في العالم من حولنا سواء كان على المستوى الفني أو السياسي أو الاجتماعي.
ففي ثنايا الرواية نرى جان بابير يطرح موضوع الرغبة الجنسية وبقوة، لغة وممارسة إلى حد الغوص في اللامنتهى ضمن جدلية فلسفة القبول والاعتراف والرضا المتبادل في لعب الأدوار واحترام الخصوصيات، حتى إذا كان ما جرى معه بفعل الصدفة ” الصدفة هي الحياة “ لكنها تنم عن الحاجة إليها، حاجة الإنسان في أن يتفاعل مع الإنسان أينما كان ومن يكون بغض النظر عن عرقه ودينه وجنسه، طالما هناك عولمة الاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام، فلا ضير في وجود عولمة الحب، لكن بشرط الحفاظ على الوجود وروح الوجود، وهذا ما فعله كورستان في علاقته العاطفية مع “أوهايو”، أنه يحبها إلى حد الجنون والموت، لكنه وفي الوقت نفسه يحب “نازو أو نازنين”، إنها الحب الأول، الوطن الأول. لنتعمق إذاً في قراءة محتوى الرواية ومجريات الأحداث لنرى كيف تم تجسيد لغة الرغبة الجنسية..
جميلة جداً تلك الصدفة التي حدثت مع كورستان، الموظف في إحدى المقاهي بوظيفة عاطل عن العمل، الذي اعتاد وبفعل النضال السري والثورة أن لا يعود من نفس الطريق مرتين، وبتغيير اتجاه طريقه ينقذ حياة فتاة يابانية اسمها أوهايو وهي من أقصى الشرق من طوكيو، ينقذ حياتها من الموت بسحبها من يدها من أمام سيارة يسوقها سائق متهور أو ربما شارد نتيجة الضغوط النفسية والسياسية والمعيشية التي يعاني منها الإنسان السوري بوجه عام.
إنقاذ حياة إنسان أو إنسانة إنه عمل إنساني بامتياز، لكن هل للصدفة دوافع مسبقة أو هل هناك دوافع تسبق الصدفة ؟ لا أظن ذلك، فالصدفة صدفة تقع دون إرادة منا ودون تخطيط مسبق، ودون دوافع لخلقها ولا يمكن لنا أن نحدد الزمان والمكان لخلقها، إذاً فهي صدفة.. ولكن بمقدور المرء أن يرسم ما ينوي عليه في أثناء وقوع الصدفة أو ما بعدها في حال إذا كان لديه دوافع ورغبات وغايات يريد أن يحققها، وهنا يقول الكاتب: ” إذا بحثنا في دوافع هذه الصدفة فهي كثيرة” ص 13، وكان بإمكانه أن يقول إن هذه الصدفة خلقت لدي دوافع كثيرة في كينونتي، وليكن الدافع هو بناء علاقة عاطفية حميمية أو علاقة صداقة أو تعارف أو… الخ، باعتبار انه يقول: ” عيوني كانت تفضحني في تلك اللحظة كنت افحصها وحتى أشتهيها..” ص13، فالدافع هنا كان جنسياً بحتاً.. فهل ثمة شيء هنا يدعو إلى الدهشة والاستغراب؟ بالنسبة لي لا اعتقد ذلك.. فالرجل الشرقي لم يتلقى في حياته أي نوع من أنواع التربية الجنسية، وثقافته الجنسية ضئيلة إلى حد ما، فأغلب الأزواج غير سعيدين مع بعضهم البعض، وكثيراً ما يتم الزواج ضمن عادات وتقاليد قديمة لا يرى الأزواج بعضهم البعض إلا في ليلة الزفاف أو يتم الزواج تحت ضغوط وشروط الأهل.. لذلك كثيراً ما نلمس حالات الطلاق والخلافات والمشاحنات الزوجية في مجتمعاتنا الشرقية، أما بالنسبة للمجتمع الكردي حتى إذا كانت حالات الطلاق نادرة جداً إلا أنه يعاني الكثير من الأمراض الاجتماعية، فالكثير من الأزواج غير سعداء مع بعضهم البعض لكنهم يحاولون جاهداً الحفاظ على البيت الزوجي من الانفكاك بسبب الأولاد وحفاظاً على حرمة العادات والتقاليد الاجتماعية. فحالة الحرمان والكبت الجنسي بكليته تنخر مجتمعاتنا حتى العظم، هناك جوع جنسي لا مثيل له، حيث يعيش الرجل الشرقي القهر والاضطهاد إنسانياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وفكرياً في أجواء قاسية وضاغطة نفسياً وفكرياً وجسدياً لا مثيل له في الكون. إذاً فالاشتهاء في حالة كورستان طبيعية جداً تنم عن حاجة طبيعية إنسانية واجتماعية بغض النظر عن العادات والتقاليد والأخلاقيات والفعل الإنساني الذي قام به في إنقاذ حياة فتاة.
ثم يقول: ” هل كان سبب ذلك الفراغ الذي أعيشه.. الحاجة اللجوجة في داخلي، أن انتزع منها ليلة.. ليلة مختلفة. “ ص14، بهذا الإفصاح يريد الكاتب أن يبرر للقارئ فعل كورستان، هل هذا الفعل نتيجة الفراغ الذي يعيشه.. أم بسبب حاجة ملحة في داخله..؟، والتبرير هنا من الوسائل الدفاعية اللاشعورية أراد الكاتب بها تبرير موقف كورستان طبعاً بسبب تابو الاخلاقيات الدينية والتقاليد الاجتماعية السائدة، ولكن اعتقد أن الموقف لم يكن بحاجة لهذا التبرير، حيث كان بإمكانه أن يترك ما وراء تفكير كورستان للقارئ نفسه دون أن يفصح عنها.
يبدو أن كورستان مخلوق بشري غير عادي أبداً، يملك طاقة وقوة جنسية حيوية ما فوق العادية، ففي روايته ” فوضى الفوضى ” يقيم علاقات عاطفية حميمية مع “تارا ” و ” نيلوفر ” ويدخل معهن في معارك جنسية ساخنة، ويبحث في نفس الوقت عن حبه الأول، عن وجوده، عن وطنه، عن فتاة أحلامه “نازو أو نازنين “، وهنا في ” صرير الأحد.. غرفة الأربعاء “ يجعل من صدفة اللقاء مع “أوهايو” صدفة حيوية خارقة يمارس معها الحب بكل حميمية ونشاط، وفي نفس الوقت يستجيب لرغبة جارته “هيفاء” ويمارس الجنس معها بكل ما لديه من طاقة، إضافة إلى ذلك نراه يبحث عن نازو، ويتأمل في لوحتها المعلقة في غرفته الكئيبة، ويسترجع ذكرياته معها منذ أيام الطفولة والمراهقة والثورة، ” عندما يولد الحب، بل يكبر الحب في أجواء كهذه (أجواء الثورة والجبال)، تفترش الحياة الدم وتلتحف بالموت، لابد أن يكون الحب مختلفاً عن كل قصص الحب، والجزء الناضج من حكايتي، بدأ مع نازو في تلك الجبال، التي لم نكن نستطيع أن نسرق منها سوى لحظات، عبر ابتسامة فرح أو قبلة مختلسة….” ص 61 .
إن حياة الثورة التي عاشها كورستان في الجبال كانت قاسية جداً، حيث أن البقاء كان يترنح ما بين لحظات الحياة والموت، فقدان الرفاق وغيابهم بعد كل عملية من بين الصفوف كان فاجعة بالنسبة له، ” كأن الفاجعة تم ترويضها، أو روضت الفاجعة في داخلي..” ص 60 .
إذاً حياة الثورة القاسية وفقدان الرفاق وحب نازو وغيابها الطويل وجروحه وانكساراته الخارجية والداخلية والظروف المعيشية والسياسية السيئة، جعله في حالة إحباط شديدة يعاني القلق والاضطراب واللاستقرار العاطفي ما بعد الثورة.
” أعتقد أنني مصاب بجرب إنساني أهرب من نفسي ومدني إلى مدن ونساء أخريات لكي أشفى من تلك الذاكرة اللعينة، الواقفة قبالتي لتزلزل روحي المثقلة بضغط الماضي الذي لا أجد حيلة للفكاك منه”.ص 61
وهنا يوضح لنا الكاتب بأن تلك العلاقات العاطفية ( الجنسية ) ( تارا، نيلوفر، أوهايو، هيفاء ) ليس إلا نوع من الهروب من الذات في استحالة المواجهة والعيش في الماضي الثقيل بهمومه ومعاناته، وكأنه نوع من التنفيس مع أنه في الحقيقة ليس تنفيساً بل حاجة جنسية نتيجة الكبت والحرمان وانه نوع من التمرد والفوضى والعبثية للتعويض عن مما هو مكبوت نتيجة حرمانه منها أيام الثورة وربما بسبب قضائه لفترة المراهقة في الثورة دون أن يعيشها كما يجب باعتبار أن مرحلة المراهقة مرحلة حساسة وخطيرة تتطلب الانسجام مع متغيراتها وتأمين احتياجاتها والتكيف والتوافق مع ما يناسب الإمكانات والقدرات والحاجات الذاتية للفرد والبيئة الاجتماعية.
وعلاقته مع أوهايو بالصدفة والتي تحولت فيما بعد إلى حالة عشق غير طبيعية برومانسيتها وشاعريتها، ليصل في النهاية إلى اختراق الحدود الفاصل ما بين العذرية واللاعذرية، ذلك برضا الطرفين في انتهاك تابو أخلاقيات كافة الديانات من زرادشتية مروراً بالتاوية إلى المحمدية.
ثم ممارسته للجنس مع جارته هيفاء في حدود رغبتها وحاجتها، المقيمة في نفس البناء وهي أيضاً مستأجرة تسكن غرفة لوحدها بعيداً عن أهلها من السلمية، حيث أن الوحدة والانعزال والحرمان والحاجة دفعهما إلى ممارسة الجنس، ” أخذتني إلى السرير قربت فمها من فمي، قبلة، اثنان، ثلاثة وأخرى طويلة، ويدها تعمل على مهل تحت، أخرجته (…) دلكته، سال لعاب الشهوة، ونزلت أوهايو من صورتها، وصفعتني لذة نازو، وأكملت هيفاء حلم أوهايو، والتي كانت سبب تعاستي، نازو أمسكتني بقوة وتشدني إليها، وصرير يخرج من السرير…”.
فكافة هذه العلاقات العاطفية جنسية بحتة هدفها تحقيق اللذة الجنسية وإشباعها وهي ناجمة عن عدم الاستقرار العاطفي وعن الكبت والحرمان والجوع العاطفي.
كورستان هذا الإنسان المتمرد الذي دفعه حلمه وحبه لوطنه في أن يكون إنساناً حراً في وطن حر إلى الجبال والثورة، عاد خائباً من الثورة بأعطاب في يده وقدمه دون أن يحقق حلمه وبعشرات الاعطاب في داخله مما رآه في أيام الثورة.
كورستان أبن تلك القرية النائية ” كوباني ” المتخلفة بحكم العلاقات العشائرية والمهووسة بالسياسة التحزبية والمغمورة بعادات وتقاليد دينية متخلفة “مدينة محكومة بالسمسرة، نحمل فيها جوعنا في حقيبة وديننا في حجاب، وتشردنا في صرة، وجهلنا في خلايانا.. ” ص 115.. يرى نفسه بعد العودة من الثورة في المدينة ” دمشق “، لذلك نرى كيف أن الجهات تختلط عليه وتصيبه حالة شلل وجمود وإحباط نتيجة اصطدامه بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد، حيث رأى نفسه موظفاً قزماً في احد المقاهي بشهادة عاطل عن العمل من أجل أن يستمر في البقاء، ووطن يرثى له وهو ما يسميه بجمهورية الباص ” سوريا ” الذي بقي على حاله دون أن يهب فيه رياح التغيير “وطن ينتشي بفوضاه إلى وطن يعتنق الحلم للهروب من الواقع وتضييق الطرق المهلكة بالوطن لدفة قيادة لا تتقن سوى توزيع الأوسمة وإكراه شعوبها على الجوع، وتعصف بضفاف مدنه الاستخبارات الأمنية من كل الجهات.. أيها الوطن المتجلي في حلقات الجشع، وحدقات المحبين على طول المدى. يا وطن الضباط والصفقات المشبوهة يا وطن القحاب والرشوة والأنذال يا ضروعاً حلوبة بأصابع الأوغاد، ويا وطناً ينسى اللحمة الداخلية ويخلع السروال للضغوط الخارجية” ص114.
ثم المعارضة السورية الضعيفة بفعاليتها وعددها وعجزها عن الانخراط في المجتمع حيث يقول “لو قدر لي أن اجمع كل عشيقاتي في مكان واحد لفاق عددهم المعارضة السورية” ص 111 . هذه المقارنة بين عدد المعارضين وعدد العشيقات، أبداً ليست في مكانها لأني ألمس فيها نوع من أنواع التقليل بمكانة المرأة والاستهتار بعاطفتها وعقلها، علماً أن ما يقوله الكاتب في وصف المعارضة السورية بأنها ضعيفة وقليلة العدد وليست لها أي فاعلية في الشارع السوري، بلا شك هي حقيقة واقعية نشهدها ونعيشها يومياً، ويمكن أن أضيف هنا بأن بعض المعارضين في إعلان دمشق متناغمين مع السلطة في الكثير من المواقف.
إذاً هذا القروي والثوري والجبلي والمتشائم من الحياة ينخرط بكليته في حياة المدينة، يصارع الحياة ويحاول أن يكون مدنياً وحضارياً أكثر من أبناء المدينة أنفسهم، يكره الحدود والحواجز بين البشر، يعترف فقط بلغة واحدة بين البشر وهي لغة الجسد ” لغة الرغبة ” وحدوداً واحدة هو أن تجتمع السرة مع السرة والأنفاس تتشابك وأن ينطق الجسدان في جسد واحد، أن يسكب ماءه العظيم ولذته الأعظم، وأن يرتوي العطش الأعظم..وتتدحرج اللذة والرعشة الكبرى، تتقن طقوساً بوذية، زرادشتية، إسلامية، وبكل اللغات تنطق الأعضاء في الأبدان وتتقن الشفاه فك الطلاسم والأحاجي..العانة تغوص عميقة في العانة، وتشتبك الأيدي والأقدام، هذه هي اللغة الواضحة التي تأخذ رضاب العشق الأبدي.
هل حقاً ما يذكره الكاتب هو ما تأخذ على عاتقه رضاب العشق الأبدي، وهل العشق السرمدي يكتمل من دون العشق الروحي ؟ هل لغة الجسد وحدها كافية من أجل كمال العلاقات العاطفية ( الإنسانية والاجتماعية ) ؟ وهل هذه الفوضى في تعدد العلاقات الجنسية التي انغمس فيها كورستان تندرج في قائمة الحب الأبدي ؟
إن الحب حتى يكون صادقاً وحقيقياً يجب أن لا يكون من اجل شيء معين، بل من أجل كل شيء، باعتبار أنه نشاط نفسي واجتماعي وجسدي في آن واحد، وإقامة العلاقة العاطفية الغرامية يجب أن يكون متجهاً نحو شخص واحد لا عدة أشخاص في نفس الوقت، فالعلاقات المتعددة لا توحي بصدق العلاقة والحب الحقيقي، ومن المؤكد سيكون أحدها غير حقيقية ومؤقتة يمكن يكون ذلك من أجل منفعة كالمال أو الرغبة الجنسية أو أي شيء آخر من هذا القبيل، والنظر إلى الحياة والعلاقات الإنسانية بمنظار لغة الرغبة وحدها- بالرغم من ضرورتها وأهميتها- ستكون نهاية وخيمة لبني البشر وجماليته وطاقاته وقدراته الخلاقة في مناحي الحياة الأخرى.
أخيراً يمكن القول أن شخصية كورستان نموذج لمئات الآلاف من الشخصيات الموجودة في مجتمعنا، وهي من نتاج المجتمع والدولة، ذلك المجتمع المقهور من كافة النواحي عاطفياً ونفسياً وفكرياً واجتماعياً وسياسياً ودينياً واقتصادياً…الخ.
هامش :
رواية كورستان “صرير الأحد… غرفة الأربعاء”، للشاعر والروائي جان بابير، إصدار خاص، عام 2007م ، 214 صفحة من القطع المتوسط .
رواية كورستان “صرير الأحد… غرفة الأربعاء”، للشاعر والروائي جان بابير، إصدار خاص، عام 2007م ، 214 صفحة من القطع المتوسط .
صدر للمؤلف :
1ـ شطحات في الجحيم ( شعر ) باللغة العربية 1998 دمشق .
2ـ Gewriya helbestê Za أي ( مخاض حنجرة القصيدة )( شعر ) باللغة الكردية ، 2001 بيروت .
3ـ الأوتاد ( رواية ) باللغة العربية 2002 بيروت .
4ـ قرارات الخطيئة ( ما يشبه النصوص )باللغة العربية – نص مشترك .
5- كورستان “فوضى الفوضى” ( رواية) باللغة العربية ، إصدار خاص بيروت ، عام 2005م ، 306 صفحات من القطع المتوسط .
2ـ Gewriya helbestê Za أي ( مخاض حنجرة القصيدة )( شعر ) باللغة الكردية ، 2001 بيروت .
3ـ الأوتاد ( رواية ) باللغة العربية 2002 بيروت .
4ـ قرارات الخطيئة ( ما يشبه النصوص )باللغة العربية – نص مشترك .
5- كورستان “فوضى الفوضى” ( رواية) باللغة العربية ، إصدار خاص بيروت ، عام 2005م ، 306 صفحات من القطع المتوسط .