وفي البدايات جاء الـ : د . ولات محمد على ملاحظات في اشتغال الروائيّين العرب على / وانشغالهم بالنصّ الروائيّ ، وذلك بقصد إنجاز رواية تتسم بالجدّة والفرادة ، مُركّزاً في صلب موضوعته – أي الحرية – على سياقين ، الحرية الداخلية كسياق حر نابع من الذات ، والحريّة الخارجية كسياق ممنوح من الخارج ، مُنيطاً بالأولى الأفكار والطروحات ، في إطار التفرّد ، ناهيك عن مفهوم المُخالفة ، وصلة التجريب الوثيقة بالحرية ، فيما حمّل الثانية عبء الأشكال التعبيريّة واللغوية ، وأكّد – في المُجتبى – على أنّ كتابة الرواية – في مُجملها – هي كتابة تجريبيّة ّ، فاجتمعت له في هذا السياق نقاط سبع ، أولاها الانتقال من السرد بوساطة السارد الكليّ الهيمنة – أي باعتماد الفعل الماضي في إحالاته إلى ضمير الغائب الشهير ” هو ” ، وذلك بدلالة زمن فيزيائيّ تقليديّ ، تسير سيالته من الماضي إلى الحاضر فالمُستقبَل ، ما حرم الشخصيات – في كثير من الأحيان – من النموّ الحرّ وفق منطقها الداخليّ ، ولوى عنق الأحداث وفق مشيئة هذا السارد ، بشكل ذهب بها بعيداً عن السياق – إلى السرد المُتعدّد الأصوات ، ثمّ جاء الاشتغال على تيار الوعي ، ليقوم بتحرير لغة الشخصيّة تحريراً كاملاً ، بعيداً عن تدخل السارد لتنسال على الورق في المقام الثاني ، في ما بعد حضرت الأسطورة لتُؤسّس لتجاوز السائد والمألوف ، فانهمك بعض الروائيين في الاشتغال على أسطورة أساس ، بينما لجأ البعض الآخر إلى اجتراح أسطورته الخاصة به ، ولأكثر من سبب – قد يجمع الفنيّ إلى السياسيّ – حضر المكان الافتراضيّ ، حتى لكأنّ الروائيّ كان يترسّم مبدا التقيّة خوف السلطان أو لأسباب فنيّة ، فنأى بنفسه عن تحديد مكان واقعيّ ، كما في ” عالم بلا خرائط ” لجبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن مُنيف ، لتليه تقنيّة الرواية داخل الرواية ، فحضر الروائيّ كشخصيّة داخل المتن ، ولنا في ” شكاوى المصري الفصيح ” ليوسف القعيد خير مثال على هذا الحضور ، ولم يكن المُتكّأ التاريخيّ بعيداً عن الذهن ، إذْ تمّ استلهام الموروث في هذا الجانب ، كما في ” الزيني بركات ” لجمال الغيطاني ، الذي استلهم ما جاء على لسان ابن إياس في ” بدائع الدهور ” !
استخدام الوثيقة كوسيلة وبرهان هي الأخرى لم تكن بعيدة عن مُتناول الروائيّين ، ربّما بهدف ” وقعنة ” العمل أو للتنويع والتجديد في أساليب السرد كما في ” بيت الخلد ” لوليد إخلاصي ، ، وهكذا اجتمع للـ : د . ولات محمد التسلسل المُمنهج ، فقدّم ورقة بحث مُفيدة للمُتخصّصين والقراء معاً !
فيما جاءت الـ : د . رفيف صيداوي – في سياق موضوعها عن ” الإبداع الروائيّ والمرأة والحريّة ” – على الحريّة كمبدأ يلازم العمل الروائيّ ، مُركّزة – في ذلك – على دور الرواية في التجريب وخوض غمار المتحوّل وخلخلة الثوابت والبديهيات ، وهكذا قسّمت الرواية إلى فضاء خارجيّ حرّ تتحرّك فيه ، وحريّة داخليّة تنشىء ما تشاء من العوالم في علاقات الكتابة ، ناهيك عن فردية الإنسان وفرادته إذْ يتنصّب مرجعاً لذاته !
ولأنّ الرواية ديموقراطية في روحها انبنت علاقة جدليّة بين الحريّة والإبداع ، ترافقت مع نشأة الرواية في الغرب وتطوّرها ، إلاّ أنّ ّ الرواية العربيّة نمت في شروط تاريخيّة مُغايرة لا ترحّب بها كثيراً على حدّ تعبير الـ : د . فيصل دراج ، وفي هذا السياق خضعت الرواية المُنتجة من قبل الروائيات العربيات للمنطق التاريخي ذاته في شقّه السياسي ، إضافة إلى المنظور الاجتماعيّ البطريركي ، فحمّلت الروائيات العربية وزر العام ، ناهيك عن الانشغال بالخاص ، أي الانشغال بوعي جديد لقضايا المرأة !
ثمّ عرّجت الـ : د . الصيداوي على الإبداع الروائي كفعل حداثويّ حرّ ، فأشارت إلى أنّها – أي الحداثة العربية – على تأثرها بالغرب ، جاءت لتجيب على أسئلة تخصّ المجتمع والثقافة العربيتين ، وقد يكون الخروج عن المثال الأوروبي – في حدّ ذاته – إجازة مرور للقول بتلك الحداثة ، لتتجلى مفاهيم الابتكار والاستلهام والنقد بدل مفاهيم التقليد والاقتباس والنقل ، هذا بالإضافة إلى التفاعل الحيّ مع الحداثة الغربية بدل المُحاكاة العمياء أو الرفض الأكثر عماءً لها !
وعطفاً على العنوان ، فقد لا تسمح المرحلة الأولى من الحداثة العربيّة في انشغالها بأسئلة النهضة ببنية نسائية خالصة ، لذلك انشغل النقد الأدبي – إذاك – بالكيفيّة التي وظّف بها الروائيون القوانين الفنية المُشكّلة لرؤية ما ، من غير أن تغيب خصوصية المرأة تماماً ، ربّما لاختلاف في التجربة الاجتماعيّة بينها وبين الرجل ، وحتى إذا كان الوقت مبكراً للقول برواية تخييل في هذه المرحلة ، إلاّ أنّها أتاحت لها – أي للمرأة – الإعلان عن حضور جديد ومُختلف !
من الماضوية والنقلية إلى الكشف والتجريب والإبداع إذن ، ومن المُطلق إلى التاريخيّ – ما أعاد الاعتبار إلى الواقع المعيش – كان الجيل الحالي من الروائيات قد قطع طريقاً طويلاً ، افتتحه الرعيل الأول – لبيبة هاشم وبنت الشاطىء ، على سبيل المثال – للتعبير عن خصوصيّة في الخطاب النسويّ ، فاكتسب هذا المُنتج حساسيّته المُتباينة عن حساسية الرجل بسبب اختلاف الشرط الاجتماعي ، وقطع شأواً كبيراً على طريق النضج الفنيّ ، ولهذا تبدّت حداثة النصّ الروائيّ إلى حدّ كبير في نتاجات هذا الجيل – هدى بركات وعلوية صبح وميراي طحاوي مثالاً – سواء أكان ذلك على مُستوى العلاقات الكلية بين عناصر اللغة والزمان والمكان والشخوص ، أو على مُستوى العلاقات الجزئيّة داخل كلّ عنصر ، بهذا المعنى – ربّما – أضحى الكلام عن إبداع المرأة مرهوناً بالبنية الروائية العامة وشروطها الفنية ، على ارتباطها بالخبرات الحياتية للأنوثة والذكورة في سياقها التاريخيّ ، وبهذا المعنى – أيضاً – لم تكن المسألة برمّتها بعيدة عن تحقيق الذات الفردية والاجتماعية بكلّ ما تنطوي عليه من جرأة وتحدّ !
أمّا مسك الختام فكان مع الروائيّ ممدوح عزام ، وفي شهادة مؤثرة عنونها بـ ” زمن الرواية في زمن الوصاية ” قال العزام بأنّ تجربة الكتابة هي خبرته الوحيدة في الحرية ، وأنّ معرفته بها تقتصر على التعاريف التي جاءت عليها الموسوعات السياسيّة ، ذلك أنّه – والكلام ما يزال لعزام – مُذْ وُلد لم يتسنّ له معرفة الوضع البشري الموسوم بالحرية ، سواء أكان ذلك بالخبرة أو بالممارسة ، ثمّ اضاف ما يفيد بأنّه وعلى الورقة البيضاء يستطيع الروائيّ أن يُحرّر الحرية نفسها من ضوابطها !
ولا نظنّ بانّ العزام كان بصدد تعريف الرواية عندما قال بأنّها سرد للحكايات مكتوب على الورق ، بمقدار ما كان يريد أن يشير إلى مأزقها المُتمثل في أن العالم ما يزال يرى في ما ترويه من قصص حقيقة ثابتة لا مراء فيها !
أمّا عن مفهوم العدالة في النصّ ، فلقد أفاد بانّنا لا يمكن أن نكتب عن المساواة في رواية لا يعدل كاتبها بين شخوصها ، مُضيفاً بأنّ العدالة في الرواية هي اكتمال الشخصيات والأحداث ، ثمّ اختتم ورقته بالقول بأنّ كل قراءة مُطابقة هي عسف ، أي أنّها قسر للحرية .. حرية الرواية في الكتابة وفي اختيار الموضوع – ما يذهب جهات التأكيد على حريّتين . حرية الكتابة وحرية التعبير ، ربّما لأن جانباً من النقد .. وبخاصة السوري منه ما يزال يناقش العمل الروائي بالقياس إلى مُطابقته للواقع ، أو دقته الواقعية ، ليُشير – من ثمّ – إلى أنّ الدقة ليست هي الحقيقة على حدّ تعبير ” ماتيس ” !
وفي خطوة أخرى لتعميم الفائدة ، وإلقاء حجر في المياه الراكدة ، قامت الجهات الناظمة للمهرجان بنقل فعالياته – يوماً بيوم – إلى مُدرّج جامعة المأمون في القامشلي ، فكان الضيوف على موعد مع الطلبة ، إلى جانب جمهور المدينة المتشوّف لمثل هذه التظاهرات ، تبدّى في لقاء حافل بالأسئلة والمسرات ، ما أضاف على المُلتقى قواماً ومذاقاً جديدين ، أمّا هل سيُقيّض للقائمين عليه تنزيل فعالياته كلها للقراء ة ، فهذا ما ستقرّره الأيام القليلة القادمة !