اختتام فعاليات مهرجان الرواية الأول في محافظة الحسكة

محمد باقي محمد

     إذن وغبّ جلسة عمل طويلة ومُضنية ، اختتم القائمون على مهرجان الرواية الأول في الحسكة فعاليات اليوم الأخير من هذه التظاهرة ، فعلى مدار أيام ثلاثة ” 25 – 27 / 10 / 2009 ” شهدت مدينتي الحسكة والقامشلي عملاً دؤوباً في ما يُشبه ورشة عمل ، حاولت أن تفكفك عنواناً فضفاضاً ومُغوياً ، شكّل المحور الرئيس للتظاهرة ، تحت يافطة ” الإبداع الروائي والحريّة ” كراية وثيمة في إحالاته التي لا تحصى ، فمن حرية التجريب الروائيّ إلى حريّة المرأة شاغلة – أي روائيّة – أ ومشغول عليها –  أي شخصيّة روائيّة داخل المتن – مروراً بمثلث الدين والجنس والسياسة ، بما هي ” طابوات ” ، تحيلنا إلى المسكوت عنه ، فرواية التحرير كنصّ مهموم بالحريّة تباينت المُداخلات ، واشتطت الآراء حدّ التضاد ، حول قضيّة خلافيّة في مُبتدئها هي قضيّة الأدب !
     الناقدة الـ : د . رفيف صيداوي ” لبنان ” ، والناقد الـ : د . ولات محمد ” سوريا ” ، والروائي الأستاذ ممدوح عزام ” سوريا ” كانوا ضيوف  الجلسة الأخيرة تلك ، فيما كان القاصّ والروائيّ محمد باقي محمد –  مدير المهرجان  ” سوريا ” يُديرها !

    وفي البدايات  جاء الـ : د . ولات محمد على ملاحظات  في اشتغال الروائيّين العرب على / وانشغالهم بالنصّ الروائيّ ،  وذلك بقصد إنجاز رواية تتسم بالجدّة والفرادة ، مُركّزاً في صلب موضوعته –  أي الحرية – على سياقين ، الحرية الداخلية كسياق حر نابع من الذات ، والحريّة الخارجية كسياق ممنوح من الخارج ، مُنيطاً بالأولى الأفكار والطروحات ، في إطار التفرّد ، ناهيك عن مفهوم المُخالفة ، وصلة التجريب الوثيقة بالحرية ، فيما حمّل الثانية  عبء الأشكال التعبيريّة واللغوية ، وأكّد –  في المُجتبى – على أنّ كتابة الرواية –  في مُجملها – هي كتابة تجريبيّة ّ، فاجتمعت له في هذا السياق نقاط سبع ، أولاها الانتقال من السرد بوساطة السارد الكليّ الهيمنة –  أي باعتماد الفعل الماضي في إحالاته إلى ضمير الغائب الشهير ” هو ” ، وذلك بدلالة زمن فيزيائيّ تقليديّ ، تسير سيالته من الماضي إلى الحاضر فالمُستقبَل ، ما حرم الشخصيات – في كثير من الأحيان – من النموّ الحرّ وفق منطقها الداخليّ ، ولوى عنق الأحداث وفق مشيئة هذا السارد ، بشكل ذهب بها بعيداً عن السياق  – إلى السرد المُتعدّد الأصوات ، ثمّ جاء الاشتغال على تيار الوعي ، ليقوم بتحرير لغة الشخصيّة تحريراً كاملاً ، بعيداً عن تدخل السارد لتنسال على الورق في المقام الثاني ، في ما بعد حضرت الأسطورة لتُؤسّس لتجاوز السائد والمألوف ، فانهمك بعض الروائيين في الاشتغال على أسطورة أساس ، بينما لجأ البعض الآخر إلى اجتراح أسطورته الخاصة به ، ولأكثر من سبب – قد يجمع الفنيّ إلى السياسيّ – حضر المكان الافتراضيّ ، حتى لكأنّ الروائيّ كان يترسّم مبدا التقيّة خوف السلطان أو لأسباب فنيّة ، فنأى بنفسه عن تحديد مكان واقعيّ ، كما في ” عالم بلا خرائط ” لجبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن مُنيف ، لتليه تقنيّة الرواية داخل الرواية ، فحضر الروائيّ كشخصيّة داخل المتن ، ولنا في ” شكاوى المصري الفصيح ” ليوسف القعيد خير مثال على هذا الحضور ، ولم يكن المُتكّأ التاريخيّ بعيداً عن الذهن ، إذْ تمّ استلهام الموروث في هذا الجانب ، كما في ” الزيني بركات ” لجمال الغيطاني ، الذي استلهم ما جاء على لسان ابن إياس في ” بدائع الدهور ” !
     استخدام الوثيقة كوسيلة وبرهان هي الأخرى لم تكن بعيدة عن مُتناول الروائيّين ، ربّما بهدف ” وقعنة ” العمل أو للتنويع والتجديد في أساليب السرد كما في ” بيت الخلد ” لوليد إخلاصي ، ، وهكذا اجتمع للـ : د . ولات محمد التسلسل المُمنهج ، فقدّم ورقة بحث مُفيدة للمُتخصّصين والقراء معاً !
     فيما جاءت الـ : د . رفيف صيداوي –  في سياق موضوعها عن ” الإبداع الروائيّ والمرأة والحريّة ” –  على الحريّة كمبدأ يلازم العمل الروائيّ ، مُركّزة –  في ذلك – على دور الرواية في التجريب وخوض غمار المتحوّل وخلخلة الثوابت والبديهيات ، وهكذا قسّمت الرواية إلى فضاء خارجيّ حرّ تتحرّك فيه ، وحريّة داخليّة تنشىء ما تشاء من العوالم في علاقات الكتابة ، ناهيك عن فردية الإنسان وفرادته إذْ يتنصّب مرجعاً لذاته !
    ولأنّ الرواية ديموقراطية في روحها انبنت علاقة جدليّة بين الحريّة والإبداع ، ترافقت مع نشأة الرواية في الغرب وتطوّرها ، إلاّ أنّ ّ الرواية  العربيّة نمت في شروط تاريخيّة مُغايرة لا ترحّب بها كثيراً على حدّ تعبير الـ : د . فيصل دراج ، وفي هذا السياق خضعت الرواية المُنتجة من قبل الروائيات العربيات للمنطق التاريخي ذاته في شقّه السياسي ، إضافة إلى المنظور الاجتماعيّ البطريركي ، فحمّلت الروائيات العربية وزر العام ، ناهيك عن الانشغال بالخاص ، أي الانشغال بوعي جديد لقضايا المرأة !
     ثمّ عرّجت الـ : د . الصيداوي على الإبداع الروائي كفعل حداثويّ حرّ ، فأشارت إلى أنّها – أي الحداثة العربية – على تأثرها بالغرب ، جاءت لتجيب على أسئلة تخصّ المجتمع والثقافة العربيتين ، وقد يكون الخروج عن المثال الأوروبي –  في حدّ ذاته –  إجازة مرور للقول بتلك الحداثة ، لتتجلى مفاهيم الابتكار والاستلهام والنقد بدل مفاهيم التقليد والاقتباس والنقل ، هذا بالإضافة إلى التفاعل الحيّ مع الحداثة الغربية بدل المُحاكاة العمياء أو الرفض الأكثر عماءً لها !
     وعطفاً على العنوان ، فقد لا تسمح المرحلة الأولى من الحداثة العربيّة في انشغالها بأسئلة النهضة ببنية نسائية خالصة ، لذلك انشغل النقد الأدبي –  إذاك – بالكيفيّة التي وظّف بها الروائيون القوانين الفنية المُشكّلة لرؤية ما ، من غير أن تغيب خصوصية المرأة تماماً ، ربّما لاختلاف في التجربة الاجتماعيّة بينها وبين الرجل ، وحتى إذا كان الوقت مبكراً للقول برواية تخييل في هذه المرحلة ، إلاّ أنّها أتاحت لها –  أي للمرأة –  الإعلان عن حضور جديد ومُختلف !
     من الماضوية والنقلية إلى الكشف والتجريب والإبداع إذن ، ومن المُطلق إلى التاريخيّ –  ما أعاد الاعتبار إلى الواقع المعيش –  كان الجيل الحالي من الروائيات قد قطع طريقاً طويلاً ، افتتحه الرعيل الأول –  لبيبة هاشم وبنت الشاطىء ، على سبيل المثال –  للتعبير عن خصوصيّة في الخطاب النسويّ ، فاكتسب هذا المُنتج حساسيّته المُتباينة عن حساسية الرجل بسبب اختلاف الشرط الاجتماعي ، وقطع شأواً كبيراً على طريق النضج الفنيّ ، ولهذا تبدّت حداثة النصّ الروائيّ إلى حدّ كبير في نتاجات هذا الجيل – هدى بركات وعلوية صبح وميراي طحاوي مثالاً –  سواء أكان ذلك على مُستوى العلاقات الكلية بين عناصر اللغة والزمان والمكان والشخوص ، أو على مُستوى العلاقات الجزئيّة داخل كلّ عنصر ، بهذا المعنى –  ربّما –  أضحى الكلام عن إبداع المرأة مرهوناً بالبنية الروائية العامة وشروطها الفنية ، على ارتباطها بالخبرات الحياتية للأنوثة والذكورة في سياقها التاريخيّ ، وبهذا المعنى –  أيضاً –  لم تكن المسألة برمّتها بعيدة عن تحقيق الذات الفردية والاجتماعية بكلّ ما تنطوي عليه من جرأة وتحدّ !
     أمّا مسك الختام فكان مع الروائيّ ممدوح عزام ، وفي شهادة مؤثرة عنونها بـ ” زمن الرواية في زمن الوصاية ” قال العزام بأنّ تجربة الكتابة هي خبرته الوحيدة في الحرية ، وأنّ معرفته بها تقتصر على التعاريف التي جاءت عليها الموسوعات السياسيّة ، ذلك أنّه –  والكلام ما يزال لعزام –  مُذْ وُلد لم يتسنّ له معرفة الوضع البشري الموسوم بالحرية ، سواء أكان ذلك بالخبرة أو بالممارسة ، ثمّ اضاف ما يفيد بأنّه وعلى الورقة البيضاء يستطيع الروائيّ أن يُحرّر الحرية نفسها من ضوابطها !
     ولا نظنّ بانّ العزام كان بصدد تعريف الرواية عندما قال بأنّها سرد للحكايات مكتوب على الورق ، بمقدار ما كان يريد أن يشير إلى مأزقها المُتمثل في أن العالم ما يزال يرى في ما ترويه من قصص حقيقة ثابتة لا مراء فيها !
     أمّا عن مفهوم العدالة في النصّ ، فلقد أفاد بانّنا لا يمكن أن نكتب عن المساواة في رواية لا يعدل كاتبها بين شخوصها ، مُضيفاً بأنّ العدالة في الرواية هي اكتمال الشخصيات والأحداث ، ثمّ اختتم ورقته بالقول بأنّ كل قراءة مُطابقة هي عسف ، أي أنّها قسر للحرية .. حرية الرواية في الكتابة وفي اختيار الموضوع –  ما يذهب جهات التأكيد على حريّتين . حرية الكتابة وحرية التعبير ، ربّما لأن جانباً من النقد .. وبخاصة السوري منه ما يزال يناقش العمل الروائي بالقياس إلى مُطابقته للواقع ، أو دقته الواقعية ، ليُشير –  من ثمّ –  إلى أنّ الدقة ليست هي الحقيقة على حدّ تعبير ” ماتيس ” !
وفي خطوة أخرى لتعميم الفائدة ، وإلقاء حجر في المياه الراكدة ، قامت الجهات الناظمة للمهرجان بنقل فعالياته – يوماً بيوم –  إلى مُدرّج جامعة المأمون في القامشلي ، فكان الضيوف على موعد مع الطلبة ، إلى جانب جمهور المدينة المتشوّف لمثل هذه التظاهرات ، تبدّى في لقاء حافل بالأسئلة والمسرات ، ما أضاف على المُلتقى قواماً ومذاقاً جديدين ، أمّا هل سيُقيّض للقائمين عليه تنزيل فعالياته كلها للقراء ة ، فهذا ما ستقرّره الأيام القليلة القادمة !

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…