صدر للشاعر السوري خلف علي الخلف مجموعة شعرية بعنوان ” قصائد بفردة حذاء واحدة ” عن دار النشر الامريكية لولو بريس للطباعة حسب الطلب. القصائد جاءت بـ 140 صفحة من القطع المتوسط؛ متضمنة تسع باقات شعرية بعناوين (قصائد ترتدي حذاءها بالمقلوب- قصائد تقف على قدم واحدة – رباعيات تنهرُ الأفق- نساء حافيات دون لباس داخلي- كائناتي العارية من شبق الليل- لعابٌ يسيلُ لحفيفِ امرأة- قصائد برائحة امرأة فاطسة – غزل ذريع من زاوية غير مشابهة- قصائد تجلس حافية على العتبات) تندرج تحتها عنوان فرعية لنصوص قصيرة ومن هذه العنواين [جسر الفراغ، البرغي، الصامولة، براكل، هرموكة، قميوعة نساء شارع الثميري، فجرٌ أعور وتفوح منه رائحة المراحيض، زمنٌ اتسختْ ثيابهُ، قميص الشعر، فرويد بقبعة سوداء وكالحة] وقد حفلت النصوص باهداءات الى كتاب وشعراء وآخرين. وقد كتب الشاعر السوري فرزند عمر مقدمة لهذه المجموعة هذا نصها:
نظرة واعية تخترق ستائر الوعي الأخلاقي
بقلم: فرزند عمر
أتذكر تماماً ذلك اليوم الذي قرأت فيه أولى الكلمات من «قصائد بفردة حذاء واحدة» يومها شدني العنوان فآثرت أن أجد ما يدهشني.
كتبت حينها مطولاً عن أربع قصائد أو خمس، منها قصيدتي «البرغي» و«الصامولة» وقصيدة «رباعيات متوالية» وقصيدة «جسر الفراغ»!
أذكر أيضاً أن ذلك كان في جزء كبير منه رد فعل على ما جاء من ردود تشتم بشكل واضح هذا النموذج اللا أخلاقي في الكتابة على حد تعبير الكثيرين.
اضطررت للتوقف عن قراءة النصوص وتفكيكها وذلك لسببين: السبب الأول كثرة اللوم الذي كان جارفاً بكل معنى الكلمة والذي يدعو إلى التنصل من الوقوف بشكل ايجابي مع تلك «الكلمات» التي لا تعني شيئاً؛ والسبب الآخر كان عبارة عن توقف لفترة زمنية محدودة كي أراجع نفسي علّ الأمر فيه جانب من الصحة، خاصة أني على علاقة صداقة بالشاعر ويمكن للمشاعر أن تتدخل بشكل أو بآخر في عملية النقد و هذا ما أحاربه و ما لا أطيقه..إذ كيف يصح أن أنقد الآخرين على أنهم يقرؤون النصوص من منظار أخلاقي كهنوتي وأنا نفسي أنجرف ضمن هذا التيار.
رجعت مراراً و تكراراً لتلك القصائد وما كان يكتب منها وينشر لاحقاً، وفي كل مرة كنت أشعر بنشوة غريبة لم أعهدها من قبل و مراراً وتكراراً عهدت الأمر لأسباب لا شعرية!
قرأتها أمام أشخاص آخرين دون ذكر لاسم الشاعر..الكل أجمع أنّها غريبة نوعاً ما، لكنهم في النهاية لم يعتبروها شعراً لأنها مقززة ومقرفة ومضحكة حتى أسماها أحدهم بقصائد القرف المضحك معتبرا إياها مجرد هرطقات لا أكثر.
اليوم تحديداً وأنا أقرأ النسخة النهائية لهذه «الهرطقات»على حد تعبير الكثيرين وجدتني مضطراً للوقوف بجدية أمام هذه النصوص التي أعتبرها على أقل تقدير حالة جمالية حقيقية ترقى في أضعف الإحتمالات أن تكون قصائد مغردة وإن كانت بفردة حذاء واحدة.
• قصائد بفردة حذاء واحدة ما لها و ما عليها
القصائد تفاجئك منذ العنوان الذي يبدو غير مألوف إلى آخر كلمة من الديوان.
و هي مقسمة إلى عدة أجزاء أو باقات شعرية وغير مرتبة إلا زمنياً كما يدلي الشاعر منذ البداية بدلوه و هذا تأكيد له مبرره من قبل الشاعر كي لا يفاجئ القارئ بكم الفوضى والعبثية الموجودة ضمن القصائد إذ يبدأ الشاعر ديوانه موضحاً بقوله:
[كُتبتْ هذه النصوص بين عامي 2003 و 2009.في الغالب تركتها متسلسلة وفق ترتيبها الزمني؛ رغم ما تقدمه من إغراء لإعادة ترتيبها..وتوزعت أماكن كتابتها بين الرياض وحلب والإسكندرية.أظن «تلك التي ليس فيها إثم» أنها آخر مالدي من الشعر]
وهذه الفوضى هي الخيط الرابط بين كل القصائد والتي يبتغيها الشاعر وعليها يؤسس مرتكزاته الأساسية محاولاً استنباط الكل من العدم إذ أنه يجد في الفراغ جلّ غاياته.
الفراغ هذه الكلمة التي لا تكاد تخلو قصيدة منها فالشاعر يبدأ أولى قصائده بعنوان «جسر الفراغ».
والفراغ يأتي مؤسساً إما لرؤيا وهي ما ندر من القصائد أو تشخيصية للواقع الذي يعايشه الشاعر في أغلب الأحيان.
وبهذا يؤكد الشاعر على فلسفته الفوضوية التي تقول بأن الفوضى تخلق نظامها فيما بعد فالفوضوية عجزت عن تأمين ما يجب أن يكون لكنها مهدت وأسست لما سوف يكون.إذ أن الفراغ لا يعنيه إلا الوجود الآن، فلا يدخل الشاعر في متاهات العدمية التي استندت لمفهوم العدم كوحدة متشكلة وبنية لها ماهية في ذاتها فالشاعر معني بالتفكيك أكثر من التركيب.
في إحدى القصائد من الجزء المعنون بـ «لعاب يسيل لحفيف امرأة» و التي جاءت بعنوان «عاهرة الملح الأسود» يكتب:
[الفراغات لا لون لها لكنها تأكل السواد.السواد الملتحي..الذي يسير مثل ليلٍ مربوع القامة.
الرائحة بلا أضراس
الاجتناب سلّم الوقتِ الضرير
والحمّى ترتجفُ من رائحة اليد التي تلمسها]
فالفراغات لدى الشاعر لا لون لها و ليست إلا فراغاً لذاتها لكنها تأكل السواد و بما أنها تأكل السواد فهي مهيأة لأن تتلون وتغدو كائناً له قيمة لونية على الأقل لكنها مازالت تحتفظ بلا لونها لدى الشاعر وهذه إن دلت على شيء فهي تدل على ما أكدنا عليه قبل قليل..وقد يكون استخدام بعض المفردات الناشزة لدى القارئ يؤكد ما نصبو إليه لأن الشاعر يحاول تحطيم كل البنى ومن بينها الذائقة المعتادة المتوارثة وذلك حق له، بما أنها تخدم هدفاً بعينه فهو يصبو إلى الهدم لذاته وليس إلى الخلق؛ والتي اعتدنا عليها في بعض التنظيرات التي تقول بما يسمى الهدم الخلّاق كما نظّر لها أدونيس في معرض تأسيسه للقصيدة الرؤيوية وآخرون كثر من الذين حذو حذوه.لكن الشاعر في هذه القصائد يود أن يختبر مساراً جديداً وأرضاً لم تطأها أقدام كثيرة فهو ضد التقليد ورافض له حتى أنه يبدأ أولى باقاته الشعرية بعنوان «قصائد ترتدي حذائها بالمقلوب».
• البنية الشكلانية للقصائد:
على المستوى الشكلي للقصائد وللوهلة الأولى تعطي القارئ انطباعاً لا شعرياً وهذا ما جعل البعض ينفر منها معتبرا أنها لا تنتمي إلى الشعرية بشيء و هو أمر لا بد التوقف عنده ملياً.
يحاول الشاعر في قصائده دمج آليات لا شعرية وهذا حقيقي لكن السؤال الأكثر أهمية هل أفسدت هذه البنية وهذه الآليات جوهر البنية الشعرية.
– آليات كتابة المقالة والمعنى القسري المضاف
أكثر الآليات الواضحة التبني من قبل الشاعر هي آلية المقالة فالشاعر يستعين استعانة لا بأس بها بتقنيات المقالة وهي حاضرة بقوة خاصة في المجموعة المعنونة بـ «كائناتي العارية من شبق الليل»
والمقالة هي أكثر أنواع الخطابات نثرية! وهذا، على ما يبدو، هو الذي خلق الإرتباك الحاصل للقارئ فكيف يصح الاستعانة بأكثر الآليات بعداً عن الشعرية لكتابة الشعر!.
لكن الواضح أيضاً لمن يقرأ الديوان بأن أكثر القصائد إرباكاً هي تلك المجموعة المعنونة بـ «كائناتي العارية من شبق الليل» فهي تستوقفك لأنها تحمل شحنة حسيّة عالية وانكسارات على المستوى الدلالي لا نجدها في باقي القصائد وتوتراً قلقاً مع دهشة جميلة تبعث على الضحك والقهقهة أحياناً فكيف تمكن الشاعر من ذلك.
يستخدم الشاعر في هذه القصائد أليات كثيرة لكن سأقف عند ما سأسميه بالإغلاق القسري للمعنى وذلك لأن ما تعارف عليه في الشعر هو الفضاء الشعري واتساع الرؤية والتكثيف وتفجير الدلالات وما إلى ذلك من كلمات ودلالات تتجه باتجاه التفكيك والتشظي..بينما هنا يستخدم الشاعر ما هو عكس ذلك تماماً لتوليد دلالات مضافة على دلالات التشظي.
والأمر يبدو أشبه بطفل يفكك لعبته إلى أجزاء صغيرة ويطلب منه على وجه السرعة إحضار لعبته تلك وليس له أي دراية بإرجاعها كما كانت فيركبها كيفما شاء ويحضرها على أنها هي، ولنقل أنها كانت سيارة مثلاً..سوف يضحك الجميع من تلك السيارة وسوف يقترح الحضور كل منهم على حدة تسميتها بمسمى جديد! فهذا التداعي للمعنى بعد التركيب لم يكن يخلق لولا التجميع القسري والسريع لأجزاء السيارة وهذا ما يستخدمه خلف في تلك القصائد فهو يقول على سبيل المثال في قصيدة تنتوفة:
[خاصة عندما تكون نائمة على بطنها
وخاصة أيضا [غير تلك السابقة]
عندما تكون عارية تماما [لا معنى لتماما هنا.]]
إن الجملتين الاعتراضيتين التفسيريتن التي قام بحشرهما هنا تستوقف القارئ بشكل مفاجئ غير منتظر وتقفل بشكل قسري استرسال المعنى لدى القارئ لتضعه أمام معنى مضاف ليس هو تماماً المعنى الأصلي للكلمة وليس هو ما يتولد من دلالاتها المعتادة بل إنه معنىً جديد مضاف، قسري، وهذا ما سنسميه بالمعنى المضاف القسري.
وكمثال آخر يوضح الفكرة بشكل أدق، يقول في قصيدة بعنوان «السلنبوحة»:
[ ومنهم من أصدر فتوى تحلل(…) وهذه النقاط بالتأكيد لا تدل على دمها كما سيتوهم البعض، لكنها تدل على مفردة أخرى؛ أقرب ما يكون لها«الزواج منها»[يا لهذا الذكاء الرقابي للشاعر]]
إن التفسير القسري للمعنى الذي أقحمه الشاعر للفتوى والتعقيب الذي جاء فيما بعد عن الذكاء الرقابي أعطت الدلالات بعداً آخر فلو توقفنا عند أصدر فتوى تحلل (…) كانت البنية الدلالية ستكون مفتوحة بكل الاتجاهات؛ الدم- القتل- الاغتصاب- الزواج- إلخ..لكن التفسير النثري الذي جاء فيما بعدها قيد المعنى لا شك، لكنه خلق صورة جديدة من خلال المقارنة بين الدم الذي تم نفيه و الزواج (أو الأقرب إليه!) الذي تم تأكيده ثم التداعيات التي تنشأ من المفردتين ( دم/ زواج) بالاضافة للجملة المضافة عن الذكاء الرقابي والتي أضفت على المفردتين ( دم / زواج ) بعداً آخر.
إن المعنى المضاف القسري من قبل الشاعر يخدم هنا مسألتين البعد الدلالي والذي تحدثنا عنه، إضافة إلى البعد الحسي المتولد نتيجة التوتر القائم على أساس انكسار المعنى المفاجئ والتي تأتي بشكل دوري متواتر بكل قصيدة بحيث تساهم في إيصال إيقاع فكري تتضح معالمه عندما يخبرك القارئ أنها تشكل حالة من الضحك أو إحساس من القرف أو إلى ما هنالك من أحاسيس.
– توليد الأفق الدلالي للنكرة بصيغ المعرفة
ما يستوقف القارئ أيضاً أن الشاعر يستخدم صيغ المعرفة بشكل كبير وهي لا تخدم المجال الشعري على حد التنظيرات الكثيرة لأغلب النقاد؛ إلا أنه ومع ذلك نجد أن القارئ لا يمسك على شيء بعينه أو لا يستطيع الإحاطة الكاملة بحدود المعنى فهي تفلت من بين أصابعه على الرغم من كل هذا التحديد فكيف حصل ذلك!.
في هذه القصائد نجد صيغ النفي أكثر سيطرة من صيغ التوكيد حتى أنه يفاجئك في مطلع بعض من القصائد بصيغة نافية فهو يقول على سبيل المثال في قصيدة «العاشقة شبه الدائرية» مبتدئاً القصيدة بـ:
[التي
ليس لها أسلاك
وكلما جاء البرق وخربط ثوب السماء الرصين
أخاف، أرتعب، أتوارى عن اللهاث؛ كأني مفصل تخثر في الزمن الدائري]
أو عندما يبدأ قصيدة «فراغ الانتباه» بـ:
[لم يكن الانتباه يلعب بذكورته حين فاجأته الدهشة
لم يكن…
كان منزوع التفاصيل
الأسنان، الضحكات الورقية، الـ…
لم يكن…]
وهذه المفاجئة مربكة للقارئ فالنفي مؤسس على الفراغ ليس من قبله أي إشارة إخبارية تنضد المكان استعداداً لخوض أدوات النفي معركتها لنفي ما هو موجود فالنفي هنا يتأسس على ما هو غير موجود أو مضمر وغير حاضر..
فهنا نجد أن الشاعر يستخدم كل صيغ المعرفة كشكل لغوي للكلمات والجمل من أل التعريف إلى المضاف إليه إلى ما هنالك من صيغ تعريفية لكن المعنى غير مهيأ وغير متاح فالمعنى الدلالي نكرة لأنها مبنية على النفي وليس التوكيد وهذا بالتأكيد يخلق لدى المتلقي صدمة إخبارية فهي مرتبة على نمط معين لكنها تخدم نمطاً مختلفاً بل معارضاً له
و يقول خلف في قصيدة أخرى بعنوان «هرموكة»:
[ليس عباءة
وليس غطاء للرأس
وليس عصا تقود الأعمى
وليس مرآة للعروس
وليس كحلاً جيء به من الهند كي يوسع عينيها
حزنها غالباً يأخذ ملامح تشبه نعجة مجترة في آآآخر القطيع
حزنها ليس أرمل بل إنه تزوج مثنى وثلاث ورباع
حزنها أيضاً له جدة تعيد له الحكايا كلما أرادته أن ينام.
هرموكة
كائن يسكن الدمعة في الشتاء
وفي الصيف يسكنها الاختناق
فتعوي مثل كثيرٍ من الناس
رغم أنها بلا ذيل…]
إن هذه الصدمة الإخبارية إن جاز التعبير تضيف إلى انكسارات المعنى بعداً توترياً آخر ضمن المجال الحسي للمتلقي وتجعله أكثر انتباهاً وإثارة نتيجة آلية الشحن والتفريغ التي تحدثنا عنها في أماكن أخرى والتي تفيد في نقل القلق بين ذات الشاعر والمتلقي.وما الشعر في أحد أهم جوانبه إلا أداة لنقل التوتر من الشاعر باتجاه المتلقي.
• البنية الفلسفية :
أكثر ما يلفت الانتباه في القصائد هي البنية الفوضوية للقصائد من حيث الشكل والدلالة؛ فانتشال الرث والهامشي ووضعه ضمن دائرة الضوء هو المحرك الأساسي للكتابة واعتماد الشكل اللا تصنيعي هو المسيطر، حيث يخيّل إليك أن القصيدة كتبت كما هي في لحظاتها الأولى فالشاعر لم يتدخل كثيراً ولم ينقح منها إلا ما ندر.
إذ في كثير من الأحيان نتيجة الاشتغال على القصيدة وخاصة إن كانت البنى النقدية هي المنارة التي في ظلها يشتغل الشاعر تفقد أغلب القصائد حيويتها وتواصلها السلس عبر القنوات الحسية بين الكاتب والمتلقي.هنا في هذه القصائد نجد أن هذه القنوات الحسية مفتوحة بكل طاقتها فهي تنقل الإحساس كما جاء في لحظات الكتابة الأولية.
فالشاعر في قصيدة النثر عليه أن يحافظ على هذا التوازن الدقيق فلا العفوية بحالتها الهلامية يمكن لها أن تؤلف نصاً جيداً وذلك لما تحمله تلك العفوية من مطبات الانجرار نحو المباشرة والخطابية ولا الاشتغال الغارق في الذهنية يؤدي بالشاعر إلى مرافئ قصيدة آمنة لأنها تعطي جسداً فاقد الروح.
في هذه النصوص نجد اقتراباً من الموافقة بين هذين الضدين والتي ربما أتت بشكل عفوي وإن كانت كذلك فهي تبرز أهمية التوافق المعرفي الوجداني عند الشاعر.
إن تبني فلسفة الفوضى وهي فلسفة كان لها الأثر الكبير في أغلب الفلسفات التي جاءت بعدها برأينا لم تأت بشكل اعتباطي إنما جاءت عن دراية كاملة لهذه الفلسفة فهو يقول في أحد القصائد:
[أيُّها المُدببُ
ذو المسنناتِ الأيونية
تأكل لحمي
كلما داهمتك خيول المفاتيح
أو المطرقة المتجانسة]
إن النظرة الفوضوية للتجانس هي نظرة سلبية ويعتبر التجانس في الفلسفة الفوضوية هو أصل كل الشرور إذ أن مبدأ الاستقرار يكمن ضمن عدم التجانس وهو الذي يخلق التوازن في النهاية فهذا البرغي الذي يحبه الشاعر لصغره المتناهي والذي يجعل منه مهمشاً و غائباً عن النظر هو في أساسه جميل لكنه يتحول إلى ناهش للحم الشاعر عندما تداهمه تلك المطرقة المتجانسة.
و يقول الشاعر في موقع آخر في قصيدة بعنوان «الصامولة»:
[المسننات الحلزونية التي يحتلها البرغي بذكورته
المستديرة كأمنا الأرض
المستديرة كزمن مكرور
المستديرة كبكرة
أو أفق مخروم
الجهة الأخرى لا تُرى إلا عبرها
[لكل صامولة برغي واحد]]
إن هذه النظرة للأنثى هي نظرة فوضوية باقتدار فالأنثى تحمل الجزء الأكبر من الفوضى لأنها بقيت على ارتباط أشد مع الطبيعة نتيجة تكوينها الفيزيولوجي وارتباطاتها بالولادة حتى أن الشاعر يعتبر نفسه كتركيبة نفسية أنثوياً إلى حد بعيد ونجد ذلك من خلال تلازم التشبيهين الذي أوكلهما الشاعر للبرغي حيث أنه يحتل الصامولة بذكورته تلك الصامولة التي بلا شك تذكره بالأرض، بينما البرغي ذاته يغزو جسد الشاعر عندما تداهمه المطرقة المتجانسة كما مرّ معنا فيما سبق.
و هو يؤكد وعيه القائم من خلال تلك النظرة عندما يقول:
[ أو أفق وحيد مخروم
الجهة الأخرى لا ترى إلا عبرها]
فهو يرى الآخر أو بمعنى أدق العالم الخارجي من خلال تلك الصامولة والتي أحدى إحالتها هي الأنثى أو الأرض كما وضحها الشاعر فيما سبق.
• أخيراً
تبدو القصائد في هذا الديوان مختلفة من ناحية الذائقة والشكل والدلالات لكنها تحمل شيئاً حقيقياً جديراً بالقراءة والتمعن لأنها برأينا لم تأت بشكل اعتباطي بل كانت وراءها روح مرحة تحاول تنضيد العالم وفق أسس مختلفة عن ذائقتنا المعتادة، معتبرة الكتابة جزء من اللعب! وهي تمهد الطريق للولوج أكثر ضمن الهوامش المرمية – بكل معانيها- على أطراف وعينا تلك الهوامش التي تستحق منا الوقوف عندها ملياً.
عفرين 25/10/2009
هنا رابط لتحميل المجموعة ككتاب إلكتروني
http://jidar.net/books/qasaeed.pdf
بقلم: فرزند عمر
أتذكر تماماً ذلك اليوم الذي قرأت فيه أولى الكلمات من «قصائد بفردة حذاء واحدة» يومها شدني العنوان فآثرت أن أجد ما يدهشني.
كتبت حينها مطولاً عن أربع قصائد أو خمس، منها قصيدتي «البرغي» و«الصامولة» وقصيدة «رباعيات متوالية» وقصيدة «جسر الفراغ»!
أذكر أيضاً أن ذلك كان في جزء كبير منه رد فعل على ما جاء من ردود تشتم بشكل واضح هذا النموذج اللا أخلاقي في الكتابة على حد تعبير الكثيرين.
اضطررت للتوقف عن قراءة النصوص وتفكيكها وذلك لسببين: السبب الأول كثرة اللوم الذي كان جارفاً بكل معنى الكلمة والذي يدعو إلى التنصل من الوقوف بشكل ايجابي مع تلك «الكلمات» التي لا تعني شيئاً؛ والسبب الآخر كان عبارة عن توقف لفترة زمنية محدودة كي أراجع نفسي علّ الأمر فيه جانب من الصحة، خاصة أني على علاقة صداقة بالشاعر ويمكن للمشاعر أن تتدخل بشكل أو بآخر في عملية النقد و هذا ما أحاربه و ما لا أطيقه..إذ كيف يصح أن أنقد الآخرين على أنهم يقرؤون النصوص من منظار أخلاقي كهنوتي وأنا نفسي أنجرف ضمن هذا التيار.
رجعت مراراً و تكراراً لتلك القصائد وما كان يكتب منها وينشر لاحقاً، وفي كل مرة كنت أشعر بنشوة غريبة لم أعهدها من قبل و مراراً وتكراراً عهدت الأمر لأسباب لا شعرية!
قرأتها أمام أشخاص آخرين دون ذكر لاسم الشاعر..الكل أجمع أنّها غريبة نوعاً ما، لكنهم في النهاية لم يعتبروها شعراً لأنها مقززة ومقرفة ومضحكة حتى أسماها أحدهم بقصائد القرف المضحك معتبرا إياها مجرد هرطقات لا أكثر.
اليوم تحديداً وأنا أقرأ النسخة النهائية لهذه «الهرطقات»على حد تعبير الكثيرين وجدتني مضطراً للوقوف بجدية أمام هذه النصوص التي أعتبرها على أقل تقدير حالة جمالية حقيقية ترقى في أضعف الإحتمالات أن تكون قصائد مغردة وإن كانت بفردة حذاء واحدة.
• قصائد بفردة حذاء واحدة ما لها و ما عليها
القصائد تفاجئك منذ العنوان الذي يبدو غير مألوف إلى آخر كلمة من الديوان.
و هي مقسمة إلى عدة أجزاء أو باقات شعرية وغير مرتبة إلا زمنياً كما يدلي الشاعر منذ البداية بدلوه و هذا تأكيد له مبرره من قبل الشاعر كي لا يفاجئ القارئ بكم الفوضى والعبثية الموجودة ضمن القصائد إذ يبدأ الشاعر ديوانه موضحاً بقوله:
[كُتبتْ هذه النصوص بين عامي 2003 و 2009.في الغالب تركتها متسلسلة وفق ترتيبها الزمني؛ رغم ما تقدمه من إغراء لإعادة ترتيبها..وتوزعت أماكن كتابتها بين الرياض وحلب والإسكندرية.أظن «تلك التي ليس فيها إثم» أنها آخر مالدي من الشعر]
وهذه الفوضى هي الخيط الرابط بين كل القصائد والتي يبتغيها الشاعر وعليها يؤسس مرتكزاته الأساسية محاولاً استنباط الكل من العدم إذ أنه يجد في الفراغ جلّ غاياته.
الفراغ هذه الكلمة التي لا تكاد تخلو قصيدة منها فالشاعر يبدأ أولى قصائده بعنوان «جسر الفراغ».
والفراغ يأتي مؤسساً إما لرؤيا وهي ما ندر من القصائد أو تشخيصية للواقع الذي يعايشه الشاعر في أغلب الأحيان.
وبهذا يؤكد الشاعر على فلسفته الفوضوية التي تقول بأن الفوضى تخلق نظامها فيما بعد فالفوضوية عجزت عن تأمين ما يجب أن يكون لكنها مهدت وأسست لما سوف يكون.إذ أن الفراغ لا يعنيه إلا الوجود الآن، فلا يدخل الشاعر في متاهات العدمية التي استندت لمفهوم العدم كوحدة متشكلة وبنية لها ماهية في ذاتها فالشاعر معني بالتفكيك أكثر من التركيب.
في إحدى القصائد من الجزء المعنون بـ «لعاب يسيل لحفيف امرأة» و التي جاءت بعنوان «عاهرة الملح الأسود» يكتب:
[الفراغات لا لون لها لكنها تأكل السواد.السواد الملتحي..الذي يسير مثل ليلٍ مربوع القامة.
الرائحة بلا أضراس
الاجتناب سلّم الوقتِ الضرير
والحمّى ترتجفُ من رائحة اليد التي تلمسها]
فالفراغات لدى الشاعر لا لون لها و ليست إلا فراغاً لذاتها لكنها تأكل السواد و بما أنها تأكل السواد فهي مهيأة لأن تتلون وتغدو كائناً له قيمة لونية على الأقل لكنها مازالت تحتفظ بلا لونها لدى الشاعر وهذه إن دلت على شيء فهي تدل على ما أكدنا عليه قبل قليل..وقد يكون استخدام بعض المفردات الناشزة لدى القارئ يؤكد ما نصبو إليه لأن الشاعر يحاول تحطيم كل البنى ومن بينها الذائقة المعتادة المتوارثة وذلك حق له، بما أنها تخدم هدفاً بعينه فهو يصبو إلى الهدم لذاته وليس إلى الخلق؛ والتي اعتدنا عليها في بعض التنظيرات التي تقول بما يسمى الهدم الخلّاق كما نظّر لها أدونيس في معرض تأسيسه للقصيدة الرؤيوية وآخرون كثر من الذين حذو حذوه.لكن الشاعر في هذه القصائد يود أن يختبر مساراً جديداً وأرضاً لم تطأها أقدام كثيرة فهو ضد التقليد ورافض له حتى أنه يبدأ أولى باقاته الشعرية بعنوان «قصائد ترتدي حذائها بالمقلوب».
• البنية الشكلانية للقصائد:
على المستوى الشكلي للقصائد وللوهلة الأولى تعطي القارئ انطباعاً لا شعرياً وهذا ما جعل البعض ينفر منها معتبرا أنها لا تنتمي إلى الشعرية بشيء و هو أمر لا بد التوقف عنده ملياً.
يحاول الشاعر في قصائده دمج آليات لا شعرية وهذا حقيقي لكن السؤال الأكثر أهمية هل أفسدت هذه البنية وهذه الآليات جوهر البنية الشعرية.
– آليات كتابة المقالة والمعنى القسري المضاف
أكثر الآليات الواضحة التبني من قبل الشاعر هي آلية المقالة فالشاعر يستعين استعانة لا بأس بها بتقنيات المقالة وهي حاضرة بقوة خاصة في المجموعة المعنونة بـ «كائناتي العارية من شبق الليل»
والمقالة هي أكثر أنواع الخطابات نثرية! وهذا، على ما يبدو، هو الذي خلق الإرتباك الحاصل للقارئ فكيف يصح الاستعانة بأكثر الآليات بعداً عن الشعرية لكتابة الشعر!.
لكن الواضح أيضاً لمن يقرأ الديوان بأن أكثر القصائد إرباكاً هي تلك المجموعة المعنونة بـ «كائناتي العارية من شبق الليل» فهي تستوقفك لأنها تحمل شحنة حسيّة عالية وانكسارات على المستوى الدلالي لا نجدها في باقي القصائد وتوتراً قلقاً مع دهشة جميلة تبعث على الضحك والقهقهة أحياناً فكيف تمكن الشاعر من ذلك.
يستخدم الشاعر في هذه القصائد أليات كثيرة لكن سأقف عند ما سأسميه بالإغلاق القسري للمعنى وذلك لأن ما تعارف عليه في الشعر هو الفضاء الشعري واتساع الرؤية والتكثيف وتفجير الدلالات وما إلى ذلك من كلمات ودلالات تتجه باتجاه التفكيك والتشظي..بينما هنا يستخدم الشاعر ما هو عكس ذلك تماماً لتوليد دلالات مضافة على دلالات التشظي.
والأمر يبدو أشبه بطفل يفكك لعبته إلى أجزاء صغيرة ويطلب منه على وجه السرعة إحضار لعبته تلك وليس له أي دراية بإرجاعها كما كانت فيركبها كيفما شاء ويحضرها على أنها هي، ولنقل أنها كانت سيارة مثلاً..سوف يضحك الجميع من تلك السيارة وسوف يقترح الحضور كل منهم على حدة تسميتها بمسمى جديد! فهذا التداعي للمعنى بعد التركيب لم يكن يخلق لولا التجميع القسري والسريع لأجزاء السيارة وهذا ما يستخدمه خلف في تلك القصائد فهو يقول على سبيل المثال في قصيدة تنتوفة:
[خاصة عندما تكون نائمة على بطنها
وخاصة أيضا [غير تلك السابقة]
عندما تكون عارية تماما [لا معنى لتماما هنا.]]
إن الجملتين الاعتراضيتين التفسيريتن التي قام بحشرهما هنا تستوقف القارئ بشكل مفاجئ غير منتظر وتقفل بشكل قسري استرسال المعنى لدى القارئ لتضعه أمام معنى مضاف ليس هو تماماً المعنى الأصلي للكلمة وليس هو ما يتولد من دلالاتها المعتادة بل إنه معنىً جديد مضاف، قسري، وهذا ما سنسميه بالمعنى المضاف القسري.
وكمثال آخر يوضح الفكرة بشكل أدق، يقول في قصيدة بعنوان «السلنبوحة»:
[ ومنهم من أصدر فتوى تحلل(…) وهذه النقاط بالتأكيد لا تدل على دمها كما سيتوهم البعض، لكنها تدل على مفردة أخرى؛ أقرب ما يكون لها«الزواج منها»[يا لهذا الذكاء الرقابي للشاعر]]
إن التفسير القسري للمعنى الذي أقحمه الشاعر للفتوى والتعقيب الذي جاء فيما بعد عن الذكاء الرقابي أعطت الدلالات بعداً آخر فلو توقفنا عند أصدر فتوى تحلل (…) كانت البنية الدلالية ستكون مفتوحة بكل الاتجاهات؛ الدم- القتل- الاغتصاب- الزواج- إلخ..لكن التفسير النثري الذي جاء فيما بعدها قيد المعنى لا شك، لكنه خلق صورة جديدة من خلال المقارنة بين الدم الذي تم نفيه و الزواج (أو الأقرب إليه!) الذي تم تأكيده ثم التداعيات التي تنشأ من المفردتين ( دم/ زواج) بالاضافة للجملة المضافة عن الذكاء الرقابي والتي أضفت على المفردتين ( دم / زواج ) بعداً آخر.
إن المعنى المضاف القسري من قبل الشاعر يخدم هنا مسألتين البعد الدلالي والذي تحدثنا عنه، إضافة إلى البعد الحسي المتولد نتيجة التوتر القائم على أساس انكسار المعنى المفاجئ والتي تأتي بشكل دوري متواتر بكل قصيدة بحيث تساهم في إيصال إيقاع فكري تتضح معالمه عندما يخبرك القارئ أنها تشكل حالة من الضحك أو إحساس من القرف أو إلى ما هنالك من أحاسيس.
– توليد الأفق الدلالي للنكرة بصيغ المعرفة
ما يستوقف القارئ أيضاً أن الشاعر يستخدم صيغ المعرفة بشكل كبير وهي لا تخدم المجال الشعري على حد التنظيرات الكثيرة لأغلب النقاد؛ إلا أنه ومع ذلك نجد أن القارئ لا يمسك على شيء بعينه أو لا يستطيع الإحاطة الكاملة بحدود المعنى فهي تفلت من بين أصابعه على الرغم من كل هذا التحديد فكيف حصل ذلك!.
في هذه القصائد نجد صيغ النفي أكثر سيطرة من صيغ التوكيد حتى أنه يفاجئك في مطلع بعض من القصائد بصيغة نافية فهو يقول على سبيل المثال في قصيدة «العاشقة شبه الدائرية» مبتدئاً القصيدة بـ:
[التي
ليس لها أسلاك
وكلما جاء البرق وخربط ثوب السماء الرصين
أخاف، أرتعب، أتوارى عن اللهاث؛ كأني مفصل تخثر في الزمن الدائري]
أو عندما يبدأ قصيدة «فراغ الانتباه» بـ:
[لم يكن الانتباه يلعب بذكورته حين فاجأته الدهشة
لم يكن…
كان منزوع التفاصيل
الأسنان، الضحكات الورقية، الـ…
لم يكن…]
وهذه المفاجئة مربكة للقارئ فالنفي مؤسس على الفراغ ليس من قبله أي إشارة إخبارية تنضد المكان استعداداً لخوض أدوات النفي معركتها لنفي ما هو موجود فالنفي هنا يتأسس على ما هو غير موجود أو مضمر وغير حاضر..
فهنا نجد أن الشاعر يستخدم كل صيغ المعرفة كشكل لغوي للكلمات والجمل من أل التعريف إلى المضاف إليه إلى ما هنالك من صيغ تعريفية لكن المعنى غير مهيأ وغير متاح فالمعنى الدلالي نكرة لأنها مبنية على النفي وليس التوكيد وهذا بالتأكيد يخلق لدى المتلقي صدمة إخبارية فهي مرتبة على نمط معين لكنها تخدم نمطاً مختلفاً بل معارضاً له
و يقول خلف في قصيدة أخرى بعنوان «هرموكة»:
[ليس عباءة
وليس غطاء للرأس
وليس عصا تقود الأعمى
وليس مرآة للعروس
وليس كحلاً جيء به من الهند كي يوسع عينيها
حزنها غالباً يأخذ ملامح تشبه نعجة مجترة في آآآخر القطيع
حزنها ليس أرمل بل إنه تزوج مثنى وثلاث ورباع
حزنها أيضاً له جدة تعيد له الحكايا كلما أرادته أن ينام.
هرموكة
كائن يسكن الدمعة في الشتاء
وفي الصيف يسكنها الاختناق
فتعوي مثل كثيرٍ من الناس
رغم أنها بلا ذيل…]
إن هذه الصدمة الإخبارية إن جاز التعبير تضيف إلى انكسارات المعنى بعداً توترياً آخر ضمن المجال الحسي للمتلقي وتجعله أكثر انتباهاً وإثارة نتيجة آلية الشحن والتفريغ التي تحدثنا عنها في أماكن أخرى والتي تفيد في نقل القلق بين ذات الشاعر والمتلقي.وما الشعر في أحد أهم جوانبه إلا أداة لنقل التوتر من الشاعر باتجاه المتلقي.
• البنية الفلسفية :
أكثر ما يلفت الانتباه في القصائد هي البنية الفوضوية للقصائد من حيث الشكل والدلالة؛ فانتشال الرث والهامشي ووضعه ضمن دائرة الضوء هو المحرك الأساسي للكتابة واعتماد الشكل اللا تصنيعي هو المسيطر، حيث يخيّل إليك أن القصيدة كتبت كما هي في لحظاتها الأولى فالشاعر لم يتدخل كثيراً ولم ينقح منها إلا ما ندر.
إذ في كثير من الأحيان نتيجة الاشتغال على القصيدة وخاصة إن كانت البنى النقدية هي المنارة التي في ظلها يشتغل الشاعر تفقد أغلب القصائد حيويتها وتواصلها السلس عبر القنوات الحسية بين الكاتب والمتلقي.هنا في هذه القصائد نجد أن هذه القنوات الحسية مفتوحة بكل طاقتها فهي تنقل الإحساس كما جاء في لحظات الكتابة الأولية.
فالشاعر في قصيدة النثر عليه أن يحافظ على هذا التوازن الدقيق فلا العفوية بحالتها الهلامية يمكن لها أن تؤلف نصاً جيداً وذلك لما تحمله تلك العفوية من مطبات الانجرار نحو المباشرة والخطابية ولا الاشتغال الغارق في الذهنية يؤدي بالشاعر إلى مرافئ قصيدة آمنة لأنها تعطي جسداً فاقد الروح.
في هذه النصوص نجد اقتراباً من الموافقة بين هذين الضدين والتي ربما أتت بشكل عفوي وإن كانت كذلك فهي تبرز أهمية التوافق المعرفي الوجداني عند الشاعر.
إن تبني فلسفة الفوضى وهي فلسفة كان لها الأثر الكبير في أغلب الفلسفات التي جاءت بعدها برأينا لم تأت بشكل اعتباطي إنما جاءت عن دراية كاملة لهذه الفلسفة فهو يقول في أحد القصائد:
[أيُّها المُدببُ
ذو المسنناتِ الأيونية
تأكل لحمي
كلما داهمتك خيول المفاتيح
أو المطرقة المتجانسة]
إن النظرة الفوضوية للتجانس هي نظرة سلبية ويعتبر التجانس في الفلسفة الفوضوية هو أصل كل الشرور إذ أن مبدأ الاستقرار يكمن ضمن عدم التجانس وهو الذي يخلق التوازن في النهاية فهذا البرغي الذي يحبه الشاعر لصغره المتناهي والذي يجعل منه مهمشاً و غائباً عن النظر هو في أساسه جميل لكنه يتحول إلى ناهش للحم الشاعر عندما تداهمه تلك المطرقة المتجانسة.
و يقول الشاعر في موقع آخر في قصيدة بعنوان «الصامولة»:
[المسننات الحلزونية التي يحتلها البرغي بذكورته
المستديرة كأمنا الأرض
المستديرة كزمن مكرور
المستديرة كبكرة
أو أفق مخروم
الجهة الأخرى لا تُرى إلا عبرها
[لكل صامولة برغي واحد]]
إن هذه النظرة للأنثى هي نظرة فوضوية باقتدار فالأنثى تحمل الجزء الأكبر من الفوضى لأنها بقيت على ارتباط أشد مع الطبيعة نتيجة تكوينها الفيزيولوجي وارتباطاتها بالولادة حتى أن الشاعر يعتبر نفسه كتركيبة نفسية أنثوياً إلى حد بعيد ونجد ذلك من خلال تلازم التشبيهين الذي أوكلهما الشاعر للبرغي حيث أنه يحتل الصامولة بذكورته تلك الصامولة التي بلا شك تذكره بالأرض، بينما البرغي ذاته يغزو جسد الشاعر عندما تداهمه المطرقة المتجانسة كما مرّ معنا فيما سبق.
و هو يؤكد وعيه القائم من خلال تلك النظرة عندما يقول:
[ أو أفق وحيد مخروم
الجهة الأخرى لا ترى إلا عبرها]
فهو يرى الآخر أو بمعنى أدق العالم الخارجي من خلال تلك الصامولة والتي أحدى إحالتها هي الأنثى أو الأرض كما وضحها الشاعر فيما سبق.
• أخيراً
تبدو القصائد في هذا الديوان مختلفة من ناحية الذائقة والشكل والدلالات لكنها تحمل شيئاً حقيقياً جديراً بالقراءة والتمعن لأنها برأينا لم تأت بشكل اعتباطي بل كانت وراءها روح مرحة تحاول تنضيد العالم وفق أسس مختلفة عن ذائقتنا المعتادة، معتبرة الكتابة جزء من اللعب! وهي تمهد الطريق للولوج أكثر ضمن الهوامش المرمية – بكل معانيها- على أطراف وعينا تلك الهوامش التي تستحق منا الوقوف عندها ملياً.
عفرين 25/10/2009
هنا رابط لتحميل المجموعة ككتاب إلكتروني
http://jidar.net/books/qasaeed.pdf
إيلاف