قصّة حبّ مجوسيّة

  عبدالرحمن عفيف

قيل لي هذا، وقال لي بعدئذ صديق لي لم يكن يعرف أنّني أحبّك، قال لي إنّه في الطّريق اغتنم فرصة الهرج والمرج والفوضى والمطرِ، اغتنم أنني لم أكن هناك، اغتنم أن النيروز لم يمكن ادامته؛ اغتنم أنّني كنتُ أبحث عنكِ في بقعة أخرى يقام عليها النيروز، ليس في ” عوينيكي” بل في عامودا، لم أكن أستطيع مطلقا أن أخمّن أنّك ستذهبين إلى نوروز ” عيوينيكي”. لا يقام هناك نوروز في العادةِ. اغتنم الصّديق أنّني أحبّك فأحبّك هوأيضا لأنّني كنت أحبّك، هكذا جرّه حبّي لك إليكِ. أمّا أنا فكنتُ على أطرافِ ذلك الشارعِ الفرعيّ الضيّق بين خطي الحسكة والقامشلي.
 كنت أعدّ أيّام الضفادع، وأنظرُ إلى الآلة السّوداء التي رصف الطّريق بها ثم تعطّلت فتركوها هناك. قبّلك صديقي الذي ادّعى أنّه لم يكن يعرف بحبّي لك وأنت لم تمانعي حسبما هو وصف الأمرَ. أشجارُ عامودا أشجارُ توت، توت عامودا من التوت الطيّب، شفتك ممتلئة ومراهقة، وجهكِ بين نورٍ وظلٍّ في المساء حين أتيتُ أسأل، لنا ” آشي علاّوي”، هذه الطّاحونة التي لم تعد تطحن شيئا منذ زمنٍ بعيدٍ، باتّجاه الدرباسيّة تلال” القلاج”، تلالٌ منخفضةُ الارتفاع، عليها شجيرات العنبِ الأصفر الصغير. يأتي الشتاء، يقلب يوم النوروز، يأتي الصيف فيقلب الغبار ويرفعه فوق البيوت والشّوارعِ، لا أراكِ، فأقولُ إنّني نسيتكِ وأنّني لم أكن أحبّك أو أقول لم يؤثر فيّ أنّ صديقي قبّلكِ في يوم النوروز.

آخ، نحن غير موجودين إلاّ حين نتحدّث عن ” شرمولا” وعن ” آشي علاّوي”، عن ” السبع بحرات” التي شوّهت بوضع الصّنم الكبير عليها. مع أنّ لنا أشياء أخرى صغيرة لم تعطّ حقّها. كان ينبغي عليّ ألاّ أحبّك، فها أطرق الباب يوميّا، ولا تأتين أنتِ لفتحه كما كنتُ أتوقع. وأتأمل مثل عادتي في الضفادع وأراقبُ كسلها والشتاء قطع حذائي الرخيص. قيل لي:” ذهبتِ مع الذّاهبين إلى نيروز ” عوينيكي”، وهناك هطلَ الماء بركا بركا من السّماء؛ خرّب النيروز وقلب ملابسكم المزركشة رأسا على عقب وحملتم أغراضكم وجمعتم شملكم ولم تعد تستطيع الباصات والبيكابات التي حملتكم إلى هناك أن ترجعكم، فركضتم وركبتم في التريلاّت التي جرّتها التركتوراتُ، عائدين إلى بيوتكم.” يأتي الخريف فتتغيّر ملامح تلّ ” شرمولا”، يتجدّد الماء على عظام مسيحيّي عامودا، الحمّالون لا يفكّرون إلا في عرقهم الهابطِ كمطر النوروز في تلك السّنة، لا يفكّر الفقراء إلاّ في ربطة خبزهم. لا يفكّر الأولاد إلاّ بالرّكضِ والعصافيرِ.
أحببتك حين رأيت خدودكِ المحمرّة ونسيت أنْ أسلّم عليك وودت بعدها أن أطرق بابكم يوميّا لأنسى أن أسلّم عليك. لأنسى أنّني لا يجب أن أحبّ. ولكي لا يكون هناكَ أحدٌ فأذهب إلى البريّة، أقفز على حفر المياهِ التي تكاثرت فيها الضّفادعُ بغزارة وصارت مولّهة الحسدِ واللمز والغمز والنميمة خلال بساطِ الرّبيع الممدّد على الطّريق الفرعيّ الواصلِ بين الطريق العامّ المنطلقِ إلى القامشلي والآخر المنطلقِ إلى الحسكة. رأيتِ بالتأكيد تلّ ” شرمولا” أصبح صغيراً مع الزّمن، أُخذَ ترابه وشيّدت به البيوتُ القريبةُ منه، كلّ الحاراتِ القريبةُ من المقبرةِ ومن ” شرمولا” هي حاراتٌ جديدةٌ، ففي الماضي كان النّاس يحذرون من بناء البيوت في جوار الأمواتِ؛ شاهدة ” شرمولا” مالت بقامتها أيضا إلى الأرضِ وفي الأسفل من التلّ أكياس نايلونٍ مرميّة، تدخلها الرّيح وإن صعدتِ إلى قمّة ” شرمولا”، ستبصرين جيّدا التخطيط الفرنسيّ لعامودا، الشوارعُ مستقيمة إلى أنْ تنتهي المدينة، كتلُ البيوتِ متراصّة إلى جانبِ بعضها البعضِ وستبصرين أنّ العاموديّين يحبّون الأخضر، بيوتهم تعلوها مسحة من فروع الأشجارِ، هي أشجارُ التوتِ على الغالبِ، أحيانا من الممكن أن يصادفَ المرء أيضا شجرة تين، وإن نظرتِ إلى شجرةِ التين في الصّيف، فإنّ أوراقها الكبيرة مغطّاة بالغبارِ. أتعرفين، أوراقُ أشجارِ التين كبيرةٌ وشجرة التين كبيرةٌ وفي الصيف يستريح الغبارُ على الأوراق الكبيرة.. تأتي الرّيح من الشّمال ومن الشّرق أحيانا، وهكذا وهكذا.

وقيلَ لي: ” علقت دواليب تريلاّت التراكتوراتِ في الوحل الكثيف؛ و” بطِخت” حتى التراكتوراتُ ذوات الإطاراتِ الألمانيّة، تلك التي كانت قد صارت على شكلِ قطارٍ أمام بيت أبناء “علي بك”. صيغة كلمة ” بطّخي” هي ” بطخت” أي تعلقت في مكانِها من الوحل ولم تستطع بعد حراكا إلاّ الدوران حول المحاورِ في المكانِ ذاتهِ. وحبّي لكِ كان جديداً، مشيتُ شارعا وعدّة شوارعَ وحملتُ وردة ووردة أخرى لأضعها على شعرك، شعركِ طريّ من المطرِ الذي هطلَ، كان غير متوقع البارحة، واليوم فتحتِ السّماء مزاريبها، كلّها دفعة ربيعيّة بلا هوادة، أين يدك لألمسها، كما ذات يوم خلال المصافحة البريئةِ؟ بلى، كنتُ قد وقعتُ في حبّك، دون أن أعرفكِ، اعتقدتُ أنّك ابنة إحدى أخواتِ صديقي، جاءت لزيارةِ جدّتها عندنا في عامودا. أتعلمين، شوارعنا موحلة في عامودا في معظمِ أيّام الشّتاء، ويهطلُ المطرُ فيكتسح وجوه العشّاق، فلا نعرف طعم الدموع من طعمه. ولنا أحيانا ثلج وكفنا نبسطها ليستريح عصفور كنّا أوّل من لاحظه يزقزق في حارتنا، منذ الفجرِ تقريبا. نملك شجرة رمّان، رمّاناتها متشقّقة، بالقرب من بئر تعطّلت مياهها….

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…