رستم محمود
بعد أن هاجروا من مدينتنا المشتركة، في أقصى شمال البلاد. أعود، في دمشق، لألتقي الدكتور حامد السوادي وعائلته، واكتشف أنهم يسكنون بالقرب من منزلي الجديد. أكلمه ونلتقي دونما مواعيد، فكلانا يعتبر الآخر من «أهل البيت». نعود لتجديد تواصلنا، وليعود بيننا «الجدال» الخالد بين أي كردي والآخر العربي. حوار عن مستقبل كركوك وباقي المناطق المتنازع عليها وتموضع الأكراد في العراق الحديث، عن النخبة العراقية القومية والإسلامية وموقفها من الحالة ومن الفيدرالية إلى… الخ. من هذه الأحاديث التي لا يكل ويمل منها، أي منا كلينا، الدكتور حامد وأنا، لا نمل من إعادة تدويرها وتفكيكها وتحليلها منذ سنوات خلت وإلى الآن.
فالدكتور حامد يعتبر نفسه ملزما بالدفاع عن موقف القوميين العرب. وهو كأمين عام لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق (تنظيم سوريا) يعتبر تلك القضايا تمس راهن العراق ومستقبله وجوهره. بالمقابل أبدو أنا في الحوار ككردي شاب يدافع عما يعتبره غبنا تاريخيا لحق بأبناء جلدته الأكراد. وفي سبيل الغايتين، يتصاعد الحوار كل مرة، وتحمر وجنتا كل منا. يعلو الصراخ وتتشنج قبضة اليد وتقطب الحواجب وتعلو الشكوك وتسود الظنون، إلى أن تتدفق الغرائز القومية والمناطقية والجماعاتية، وطوال ذلك الوقت تكون زوجته «الخالة أم عروبة» تنظرنا كلينا، وتوزع ابتساماتها علينا لتهدئ من روعنا، ولتعيد الحديث إلى نصابه الحق، فهو في الأخير حديث ليس إلا. لكن هيهات أن ندرك أن الأساس في الحوار هو أن فكرة ما تقابل فكرة نظيرة لها. فبلمح البصر نتبيّن أن النقاش هو عبارة عن ندّ مقابل ندّ آخر. فكيف بالمواضيع التي تتعلق بذاكرتنا وحاضرنا والأوهام التي تسمى «هوياتنا». أودعهم، بعد جلسة مليئة بالتشنج، في الممر قبل الخروج، تبتسم الخالة أم عروبة وتقول بلهجة عراقية:« ياولّدي، أنت وحدك ساكن هنا، وباوع (لاحظ) أمانة الله، آني متل والدتك، وأي شي يلزمك، أبشر، ويا وليدي آني طابخة اليوم بآجة (أكلة شعبية في العراق والجزيرة السورية) ومجهزة صحن منشان تاخدو معك للبيت، أعرف يمى أنكون شباب ومليتو من أكل المطاعم…الخ» أسير. أتذكر حواراتي التي لم تبرد يوما مع الدكتور حامد، أنظر لصحن طبخة البآجة، أبتسم، ولا أنتبه لبلاهة ما كنا نتحادث بشأنه أنا والدكتور، إلا حين أشم رائحة طبخة الخالة أم عروبة!.
في المنزل ألاحظ أن بلوزتي الخضراء القاتمة التي كنت أترتديها لم تكن لتناسب مجمل ما ألبسه البتة، وكل مرة أقول ذلك في نفسي، لكن لتلك البلوزة عندي مكانة لا تعلى، وهاكم حكايتها. قبل عام بالضبط من هذا الكانون، كنت عائدا من العراق عبر الأراضي التركية. وفي مدينة سلوبي على الحدود بين البلدين، ركبت الحافلة المغادرة إلى مدينة ديار بكر، لأجالس رجلا بحجم ضخم وأنف طويل أحمر وشعر أشعث وعينين مستديرتين.. الخ. ولكسر وحشة الطريق، نتبادل الأحاديث، بانكليزية مكسرة من كلينا. وحين يعلم أوندر (جليسي) أني كردي سوري وقادم من العراق، يرمقني ويقول بأكثر من نصف جاد:« ربما أنت قادم من زيارة الإرهابيين في معسكر قنديل في شمال العراق، وربما أنت واحد منهم.الخ). استشطت غضباً من عبارته تلك، وخصوصاً حينما علمت أنه ضابط في القوات الخاصة التركية. ومنذ تلك اللحظة تعالى الصراخ وانتصبت السبابات وجحظت الأعين. أوندر يقول:«هؤلاء الذين من حزب العمال الكردستاني إرهابيون ويريدون تقسيم بلادنا، ثم أنهم ماركسيون كفرة، وتدعمهم إسرائيل..لو بقي يوم من حياتنا سنحاربهم….الخ» وبين كل جملة من تلك وأخرى، أقاطعه وارد عليه قائلا:« عليك ان تعرف إن الإرهاب ليس في أن يخرج الشباب للقتال في أعالي الجبال، إنما هو في أن لا تعترف الدولة بهوية مواطنيها، وتمنعهم من التكلم بلغتهم الأم، ولا تنمي مناطقهم. أما اتهام العمال الكردستاني بالعمالة فهو غبن بالغ، انظر إلى تركيا، أليست هي الدولة الإسلامية الأولى التي اعترفت بإسرائيل، عليكم أن تعرفوا بأن هذه البلاد هي لغيركم كما هي لكم.. الخ» ويسمع كل الذين في الحافلة صراخنا، وهم يستغربون ما نتحدث به بالإنكليزية، حتى أن أوندر يطلب مني أن يغير مكان جلوسه، وهو فعل. في الاستراحة اقتربت منه بحذر، وطلبت منه أن نتحادث لدقائق بغير السياسة كي لا يفهم الآخرون ما حصل بيننا على غير ما هو. وافق الرجل بود بالغ، وبدأ يحادثني عن زوجته وأبنته المصابة بالتوحد منذ ست سنوات وعزلته مع زوجته عن محيطهما بسب مرض أبنته…الخ. شيئاً فشيئاً أجر الحديث لأكلمه عن حالة الأكراد المزرية في عموم البلاد، أحدثه عن الوضع الاقتصادي والسياسي والضغوط الأمنية وقلق الهوية، وأجره إلى نوع من التضامن حينما أخبره بتفضيل عموم الأكراد لدولة حديثة وقوية كتركيا على أي نظير كإيران أو نظام صدام.
نهدأ قليلا، فيحدثني عن أيام الجامعة والصراع بين اليسار واليمين الذي كان، وكيف أنه كان من حزب الجمعية الوطنية اليميني المتشدد وزوجته كانت من حزب العمال اليساري. أحدثه عن صديقتي التي بدأ الغرام بيننا منذ شهور قليلة، ثم أجهد في إيصال بعض النكات عن اليسار في الثقافة العربية. وما أن يلتقط بعضاً من معانيها، حتى يغرق في الضحك، ثم يحدثني عن معاناة الزواج ومتطلباته الاقتصادية والاجتماعية، حتى نصل إلى ديار بكر. هناك يمازحني:«هل تريدون هذه المدينة عاصمة لدولتكم المتخيلة» أرد:« نريدها فقط مدينة جميلة ولكل الناس» يهز رأسه ويقول: « يا ليتني أصدق نواياكم»… وقبيل أن يودع أحدنا الآخر أقول له:« أوندر آبه لقد أجلبت معي من العراق بعض الحلوى التي تسمى «المن» وهي صناعة يدوية، هل تأخذ علبة منها لابنتك، وربما تكون إحدى أمهات «الإرهابيين» قد صنعته، فهؤلاء ماهرون في أشياء كثيرة ومنها صناعة الحلوى. «يهز رأسه رافعا أحد جنبيه ويرد: «آخذها، لكن مقابل أن تقبل مني هذه البلوزة، ففي الجيش يعطوننا في كل شتاء إثنتين منها، وها قد قدم الربيع ولم أستعمل سوى واحدة، وهي من صناعة مؤسسة الجيش وبالغة الجودة». أقبلها وأسلمه الحلوى. يغادر أوندر وأنا أردد له تلك العبارة التركية التي ربما لا أعرف غيرها (sevenler olmez abe) (الذي يعشق لا يموت). يبتسم ويختفي بجسمه الضخم بين جيش من البشر….
حينما كنت أكتب هذه الكلمات، كان منبه موبايلي يرن. كان قد حان موعد لقائي المؤرخ الفلسطيني المعروف حمدان حمدان، هذا الأخير الذي يحبذ أن يعرّف نفسه بأنه مع صدام حسين في كل ما فعله، حتى بحضور كردي مثلي، وهذا الأخير أيضا تجمعني به صداقة منذ عدة سنوات، وهو في هذا اللقاء الأخير سيهدينني الحقيبة الوحيدة التي جلبها معه من مؤتمر القوميين العرب الذي حضره في السودان!.
المستقبل – الاحد 28 شباط 2010 – العدد 3580 – نوافذ – صفحة 12
في المنزل ألاحظ أن بلوزتي الخضراء القاتمة التي كنت أترتديها لم تكن لتناسب مجمل ما ألبسه البتة، وكل مرة أقول ذلك في نفسي، لكن لتلك البلوزة عندي مكانة لا تعلى، وهاكم حكايتها. قبل عام بالضبط من هذا الكانون، كنت عائدا من العراق عبر الأراضي التركية. وفي مدينة سلوبي على الحدود بين البلدين، ركبت الحافلة المغادرة إلى مدينة ديار بكر، لأجالس رجلا بحجم ضخم وأنف طويل أحمر وشعر أشعث وعينين مستديرتين.. الخ. ولكسر وحشة الطريق، نتبادل الأحاديث، بانكليزية مكسرة من كلينا. وحين يعلم أوندر (جليسي) أني كردي سوري وقادم من العراق، يرمقني ويقول بأكثر من نصف جاد:« ربما أنت قادم من زيارة الإرهابيين في معسكر قنديل في شمال العراق، وربما أنت واحد منهم.الخ). استشطت غضباً من عبارته تلك، وخصوصاً حينما علمت أنه ضابط في القوات الخاصة التركية. ومنذ تلك اللحظة تعالى الصراخ وانتصبت السبابات وجحظت الأعين. أوندر يقول:«هؤلاء الذين من حزب العمال الكردستاني إرهابيون ويريدون تقسيم بلادنا، ثم أنهم ماركسيون كفرة، وتدعمهم إسرائيل..لو بقي يوم من حياتنا سنحاربهم….الخ» وبين كل جملة من تلك وأخرى، أقاطعه وارد عليه قائلا:« عليك ان تعرف إن الإرهاب ليس في أن يخرج الشباب للقتال في أعالي الجبال، إنما هو في أن لا تعترف الدولة بهوية مواطنيها، وتمنعهم من التكلم بلغتهم الأم، ولا تنمي مناطقهم. أما اتهام العمال الكردستاني بالعمالة فهو غبن بالغ، انظر إلى تركيا، أليست هي الدولة الإسلامية الأولى التي اعترفت بإسرائيل، عليكم أن تعرفوا بأن هذه البلاد هي لغيركم كما هي لكم.. الخ» ويسمع كل الذين في الحافلة صراخنا، وهم يستغربون ما نتحدث به بالإنكليزية، حتى أن أوندر يطلب مني أن يغير مكان جلوسه، وهو فعل. في الاستراحة اقتربت منه بحذر، وطلبت منه أن نتحادث لدقائق بغير السياسة كي لا يفهم الآخرون ما حصل بيننا على غير ما هو. وافق الرجل بود بالغ، وبدأ يحادثني عن زوجته وأبنته المصابة بالتوحد منذ ست سنوات وعزلته مع زوجته عن محيطهما بسب مرض أبنته…الخ. شيئاً فشيئاً أجر الحديث لأكلمه عن حالة الأكراد المزرية في عموم البلاد، أحدثه عن الوضع الاقتصادي والسياسي والضغوط الأمنية وقلق الهوية، وأجره إلى نوع من التضامن حينما أخبره بتفضيل عموم الأكراد لدولة حديثة وقوية كتركيا على أي نظير كإيران أو نظام صدام.
نهدأ قليلا، فيحدثني عن أيام الجامعة والصراع بين اليسار واليمين الذي كان، وكيف أنه كان من حزب الجمعية الوطنية اليميني المتشدد وزوجته كانت من حزب العمال اليساري. أحدثه عن صديقتي التي بدأ الغرام بيننا منذ شهور قليلة، ثم أجهد في إيصال بعض النكات عن اليسار في الثقافة العربية. وما أن يلتقط بعضاً من معانيها، حتى يغرق في الضحك، ثم يحدثني عن معاناة الزواج ومتطلباته الاقتصادية والاجتماعية، حتى نصل إلى ديار بكر. هناك يمازحني:«هل تريدون هذه المدينة عاصمة لدولتكم المتخيلة» أرد:« نريدها فقط مدينة جميلة ولكل الناس» يهز رأسه ويقول: « يا ليتني أصدق نواياكم»… وقبيل أن يودع أحدنا الآخر أقول له:« أوندر آبه لقد أجلبت معي من العراق بعض الحلوى التي تسمى «المن» وهي صناعة يدوية، هل تأخذ علبة منها لابنتك، وربما تكون إحدى أمهات «الإرهابيين» قد صنعته، فهؤلاء ماهرون في أشياء كثيرة ومنها صناعة الحلوى. «يهز رأسه رافعا أحد جنبيه ويرد: «آخذها، لكن مقابل أن تقبل مني هذه البلوزة، ففي الجيش يعطوننا في كل شتاء إثنتين منها، وها قد قدم الربيع ولم أستعمل سوى واحدة، وهي من صناعة مؤسسة الجيش وبالغة الجودة». أقبلها وأسلمه الحلوى. يغادر أوندر وأنا أردد له تلك العبارة التركية التي ربما لا أعرف غيرها (sevenler olmez abe) (الذي يعشق لا يموت). يبتسم ويختفي بجسمه الضخم بين جيش من البشر….
حينما كنت أكتب هذه الكلمات، كان منبه موبايلي يرن. كان قد حان موعد لقائي المؤرخ الفلسطيني المعروف حمدان حمدان، هذا الأخير الذي يحبذ أن يعرّف نفسه بأنه مع صدام حسين في كل ما فعله، حتى بحضور كردي مثلي، وهذا الأخير أيضا تجمعني به صداقة منذ عدة سنوات، وهو في هذا اللقاء الأخير سيهدينني الحقيبة الوحيدة التي جلبها معه من مؤتمر القوميين العرب الذي حضره في السودان!.
المستقبل – الاحد 28 شباط 2010 – العدد 3580 – نوافذ – صفحة 12