هذا الدم المراق

عمر كوجري

لكأنني والكلام الحلو عن آذار ، واستعطاف ربة الشعر لتصب في عروق القلم جميل الكلام في خصام لا وئام، فكلما تطلُّ أوراق آذار بوشاحها الأخضر على الناس جميعاً ليحتفلوا بالجمال، ويصدحوا مع الطيور وهي تعلن فرح الربيع الذي لا يأتي إلا ضاحكاً متكلما، أرى أوراقه وقد لفت كلماتي بوشاح أسود، وكفنتها بنَصيعِ الكفنِ وثلجيته المارقة.

كلما أوشوش في أذن الكلمات، وأجهد لأقنعها أنني وإياها على موعد في آخر المساء على الوداعة والصفاء والسهر الحميم لأهندسها على مزاجي، وأصوغها سبائك ذهب لأجل عيون نوروزي العظيم، وأمجّد مَن عجن – بكردية شامخة – الحديد يوماً، وجعل منها وردة لليوم الجديد .. للنوروز الذي يأبى أن تبهت ألوانه منذ آلاف السنين وإلى آخر المدى..
كلما ارتكب ” معصية” تمجيد الجمال تأتيني الكلمات في آذار، وفي نوروز، وفي كل لحظة أرجوها حلوة لكل الناس مهيضة الجناح مكسورة الخاطر، وقد علا جبينها الدم، وهطلت من عيونها مدرار الدموع، وعلى محيّاها الهلع الشديد، أن: اليوم أيضاً .. اليوم أيضاً ثقبت أذني لعلعةُ الرصاص.
تقول الكلمة .. العروس ذات الجمال القاااااتل: استيقظت صباحاً، فطرتُ مع عصفور الدوري قمحَ الفرح، ارتديت ثيابي، وتوجهت إلى فرح الكرد في رقة الرشيد، وفي الطريق رقص قلبي فرحاً، وكنت أسابق الريح، وألوم قدميَّ العاجزتين عن حمل سروري بهذا النوروز الأبي.. وقلت سأثبت لكل المحتفلين بأنني ” ميديا” اسم على مسمى، ميديا الكرد الموغلة في القدم، والتي لن يصل إلى مفرقيها الغبار.. ما كانت هذه الحياة، وسأثبت لأحبتي إن من سمّاني ميديا كان في غاية الألق والنشوة حينما بذرني في أرض الخير .. أمي.
هناك في ساحة الاحتفال لم ألمح أحداً مُتجهّم الوجه.. متغضِّن الجبهة، لقد قرر الجميع أن يأتي بوروده، وكلَّ ما يملك من حبور ليوزعها على المحتفلين، ويفرح، ويغني، ويرقص متناسياً أنه حين يعود ربما نام أحبته على أسى وحزن في أعماق المآقي دفين.. وربما نام الملائكة.. الصغار على خواء بطونهم. لكن اليوم ليس يوماً لإسالة نهر الغم، إنه نوروز بكامل ياسمينه وألقه وبهائه.. فلنؤجل الدموع إلى آخر المساء هكذا قال الجموع في رقة الرشيد!!!!
وبينما كانت الكلمة الطيبة التي نبتت في أرض طيبة، ومثواها الآن السماءُ .. بينما كانت منهمكة في تقبيل هذا وذاك، ورسم البسمة وإعادة الروح حتى إلى جماد المكان.. سقطت.. سقطت مضرَّجة بلون أحمر قان.. يا إلهي!! إنَّهم ثانية.
ياه كم حزنتُ على الكلمة!! كم حزنتُ على ميديا التي كانت تنثر الرياحين والورود على رؤوس  الطيبين، لكنها تشربت بذاك الأحمر، ومازال صدرها مليئاً بحديقة الورود، ميديا أدخلت الفرح إلى قلب من ظفر بوردها، لكنها أدمت عيونهم عندما نامت طويلاً، وما حيلة من لم يظفر بورد ميديا؟؟
ميديا ليتني كنت هناك، ليتني رأيت أصابعك النحيلة، وهي تمدُّ لي أيضاً بحرَ حبها!!
ياه كم أنا حزين في اللحظة ياميديا!!
كم أذوب حنيناً للقاك.. لكن، ميديا كانوا أسرع .. وسريعاً أردوك وردة قتيلة على صدر العاشق الوسيم.
كانت تنظر ميديا وعشاقها الكثر.. الكثر أن يرد من رأى ميديا تقفز مهتاجة توزع الورد على  الجميع دون استثناء.. كانت ميديا تنتظر رد التحية بأحسن منها، لكن.. طاخ طيخ.. سقطت ميديا.
ألا شلت أيدي من قطفك في غير أوان القطف ياميديا.. ألا شلّت.
ميديا الآن هناك ناصعة .. مازالت توزع كرديتها ورداً وحبقاً .. ميديا الكلمة.. النابتة في كبد السماء.
انظروا إليها .. انظروا إليها هي ليست ميتة.. إنها ميديا التي تأبى الأفول.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

كاوا درويش

 

صغاراً كُنّا وكان بيتنا العتيق يستقر هناك معانقاً تخوم تلَّة الهلالِية، على مرمى البصر من مستوصفها الوحيد…

نهرب بأرواحنا في كل ليلةٍ من ليالي صيف القامشلي الساخنة نحو أسطح بيوتنا، نجتمع حول جدّاتنا كما تجتمع الأرواح المختنقة حول النسائم المعتَّقة برائحة الياسمين المنعشة ليلاً، نسمع منهنَّ قصصاً وحكايا عن عذاباتٍ كرديةٍ لا تنتهي… نستيقظ…

عن دار الحوار ” اللاذقية ” صدركتاب ” علم الأخلاق ومأساة الكينونة ” لعام ” 2025″ للفيلسوف إيمانويل ليفيناس” 1906-1995 “، عن الفرنسية، بترجمة كل من الباحثين: عزيز توما وإبراهيم محمود، وفي ” 336 ” صفحة من القطع الوسط، والعنوان الأصلي للكتاب هو ” الأخلاق واللامتناهي ” عبارة عن حوارات مع الفيلسوف ليفيناس من قبل…

مصطفى عبد الوهاب العيسى

 

تُعد الرواية من أبرز الأشكال الأدبية التي تعكس واقع المجتمع وتُعبِّر عن قضاياه بعمق ، وهي لا تقتصر على سرد وقائع وقصص ، بل تُسلِّط الضوء على مشكلات فعلية ، وتطرح تساؤلات فكرية وأخلاقية تمس القارئ وتدفعه للتفكير ، ومن خلال الأحداث والصراعات تعالج الرواية موضوعات مصيرية مثل الهوية ، والعدالة…

إبراهيم سمو

في إشْكال الناشر كمعضلة ثقافية وأرشيفية :

في طبعة ” سعيد تحسين: الأعمال الشعرية الكاملة“، يبرز خللٌ بنيويّ لا يمكن تجاوزه بسهولة، يتمثل في غياب الإشارة الصريحة إلى دار نشر محددة. والسؤال هنا: هل “رقم الإيداع” المثبت في العمل هو ذاته الرقم المعياري الدولي (ISBN)؟ وإن لم يكن كذلك، فما الذي يمنح هذه الطبعة…