ظاهرةُ الانتحارِ فضيحةٌ بكلِّ المعايير! ؟

  آمال عوّاد رضوان

بينَ زهرةِ الحياةِ المُذهلةِ، وشوكةِ الموتِ الخاذلةِ، تنغلقُ بتلاتُ الانتحارِ على كثيرٍ مِنَ الأسرارِ المُبهَمةِ، كأنّما المنتحرُ يحاولُ أن يدفعَ بأنفاسِهِ الخلاّبةِ، صوْبَ مرآةِ واقعٍ مريرٍ تحطّمتْ فيهِ رؤاهُ الذّابلة كي يُجمِّلها، أو كأنّما يحاولُ بأنفاسِهِ أنْ يُباغتَ مخاوفَهُ ويهزمَها، ويخلّصَ تلك الّتي زلزلتْ عتمةَ فِكْرهِ المتأرجحِ على حافّةِ هاويةِ الإنسانيّة، أو كأنّما يُعبّئُ بأنفاسِهِ ذاكَ الفراغَ الفاجعَ الّذي خلقتْهُ تناقضاتُ الحياةِ العصريّةِ، فيخلقُ فلسفةً أخرى ضدَّ واقع الحياةِ المقيتِ!
فكرةُ الانتحارِ تتسلّقُ سلالمَ اللاّمنطق لدى الكثيرين بنبْذِها وإسقاطِها من علٍ، لكنّها تتعربشُ بجنونٍ لا محدودٍ نفوسَ بعضِ المتعَبين وحاملي الأثقال النفسيّة، فتتمكّنُ من السّيطرةِ عليهم بإحكامٍ مطبَق، قد ينجحُ تنفيذُها أو يفشلُ بعزيمة المُقدِمينَ عليها، فهناكَ محاولاتُ انتحارٍ تنجحُ وأخرى تفشل، وتقفُ أنتَ بذهولِكَ، فاغرًا فاهَ استغرابِكَ لحقائقَ تُشابهُ الأكاذيب، وبعينيْكَ المشدوهتيْن المشدودتيْن لحقيقةٍ تقول:
 الأردن يشهد “6” حالات انتحار في 12 يومًا في الأسبوعيْن الأوّليْن من  العام الجديد 2010.
 انتحار!؟ وابلٌ مِن الأسئلةِ اللاّسعةِ يهطلُ على الرّوحِ المُستهْجِنة مآلَها، وتَشْرُدُ إلى عالم الإحصائيّات القاسي بأرقامِهِ، وكلُّكَ ينتفضُ وجعًا.
هل هو نفسُهُ الموتُ الإراديّ، أم فضيحةٌ اجتماعيّةٌ كما يقولُ الطّبيبُ النّفسيّ رولف ديتر هرسش ” Rolf Dieter Hirsch”؟
هل هو لحظةُ صدقٍ مع الذّاتِ، أم فكرةٌ جريئةٌ للخروجِ مِن دائرةِ الحياةِ ومسارِها، بعدَ أن أخذتْ تنوسُ نجومُ الآمال، وينطفئُ وهْجُها، فسارعتْ تُلبّي نداءَ الموتِ والأفول؟
هل هو خلاصٌ مِن بريقِ عذابٍ يَضجُّ في رفاهيّةٍ منافقةٍ، تتفكّكُ ألوانُها، فلا تواريه ولا تُوارِبُ موتَهُ البطيء؟ أم شكلٌ مِن أشكالِ التّعبيرِ عن الضّياعِ والعبثيّة، وسلبيّةِ الضّدّيّة والتّناقضات؟
هل هو لحظةُ توهّجِ الطّاقةِ في قبضةِ المنتحِرِ، بعدَ أن خَفَتَ عصبُ الرّغبةِ بالحياةِ؟ أم جُبنٌ وهروبٌ نحوَ العدَم، بعدَ اعتمارِ قبّعة الإيمانِ بمستحيلٍ، قد يُغيّرُ إلى الأفضل؟
هل يحدُّ الانتحارَ مكانٌ أو زمانٌ؟
في كلِّ 40 ثانية، هناك شخصٌ ينتحرُ في مكان ما مِن هذا العالم!
هل للانتحار أبعادٌ اجتماعيّةٌ وثقافيّةُ، واقتصاديّةُ ودينيّةٌ ونفسيّة؟ 
هل هناكَ تفسيرٌ وتعريفٌ معيّنٌ للانتحار، أم تتعدّدُ التّعريفاتُ والتّفسيراتُ وتتلوّن كلٌّ مِن منظور؟
التّعريفُ الموضوعيُّ للانتحار: “هو قرارٌ يتّخذُهُ شخصٌ لإنهاءِ حياتِهِ”!
لكن، هل الحياةُ مُلكُ فردٍ بعيْنِهِ، أم مُلكُ كلِّ مَن يرتبطُ بهِ مِن أهلٍ وأصدقاءٍ وأحبّةٍ، وهو جزءٌ مِن حياةِ جمْعٍ يعبقُ بالإنسانيّة؟ وهَل تتشفّعُ التّبريراتُ في تخفيفِ هوْلِ الصّعقةِ على ذوي المنتحِر، أم تُذكي قلوبَهُم بالذّنب والحسرة؟

يُطالعُنا التّعريفُ من المنظور النّفسيّ الدّيناميّ:
“الانتحارُ يشبهُ اللّغزَ أو الأحجية، لأنّهُ عدوانٌ أثيمٌ على الغريزةِ القويّةِ للحياة، فهو نوعٌ مِنَ العقابِ الذّاتيِّ والانتقامِ مِن الذّات، وإلحاقِ الأذى بها”.
يقول فرويد: “الانتحارُ هو عدوانٌ تجاهَ الذّات، لأنّ المنتحرَ لا يستطيعُ أن يوجّهَ عدوانيّتَهُ باتّجاهِ شخصٍ آخر، ولا عنفَهُ باتّجاهِ المجتمع، إنّما تجاهَ حبيبٍ توحّدَ فيه”.
 أمّا إريك فروم فيقول: “هو صراعٌ بينَ الدّاخلِ والخارج”!
ويقولُ علماءُ الهندسةِ الوراثيّة: “الانتحارُ هو نقصُ هرمون السّيروتونين؛ المسؤول عن الشعور بالسّعادة ضدّ الاكتئاب”!
أمّا المدرسةُ المعرفيّةٌ فتقول: هو “تفكيرٌ غيرُ مَرِنٍ بمواجهةِ الحياة، وتعبيرٌ عن البكاءِ الرّمزيِّ للفتِ الانتباه”.
لكن إميل دوركايم عالم الاجتماع الفرنسيّ فيقول: “الانتحارُ هو تكسُّرُ الرّوابطِ الاجتماعيّةِ والانعزال”، فحين تغدو الحياةُ بالمكتئبِ مجرّدَ مقامرةٍ تلهو به، جاعلةً منهُ أحدَ كراتِها الزّجاجيّةِ، تتقاذفُها الأرجلُ في ملعبِ الظّروفِ المستحيلةِ، وبعدما يفقدَ كلَّ التّعزيزاتِ المستقبليّةِ السّامية، في أجواءِ الأسرةِ والعمل والصّحّةِ والحُبِّ وما إلى ذلك، يلجأ إلى صوتِهِ المقموعِ المُعلّبِ في الرّغبةِ بالانتحارِ، إمّا للتّكفيرِ عن ذنبٍ ما، أو للانتقامِ مِن آخرينَ ليجعلَهم يشعرونَ بالذّنب، أو للهربِ مِنَ الضّغوطِ والألم الّذي لا يُطاق، إلى حياةٍ أفضل!
لكن، هل في الانتحار تعزيزٌ إيجابيٌّ لِما هو سلبيّ، من خلال تدميرِ الذّاتِ، والانتقال  المُحدّدِ في النّمطِ الشّخصيِّ للتّعزيزات، كما قال  “أولمان” وَ “كراسنر” عام 1975؟   
هل الانتحارُ هو شكلٌ مِن أشكالِ التّمرّدِ، من أجل الحصولِ على حقِّ الحياةِ بمعناها الواسع؟ وإن يكنْ، فهل الموتُ هو الّذي يمنحُ الفردَ حياةً حقيقيّةً مطلقةً، كما افترضَ مي  (May) عام 1958؟
يقولُ الشّاعرُ المعرّي في لزوميّاتِهِ:
لو لم تكنْ طُرُقُ هذا الموتِ موحشةً مخشيّةً لاعتراها النّاسُ أفواجا
وكلُّ مَن ألقتِ الدّنيا عليهِ أذًى يَؤُمُّها تاركًا للعيشِ أمواجا
كأسُ المنيّةِ أوْلى بي وأرْوَحُ لي مِن أن أعالجَ إثراءً وإحواجا
وأخيرًا: هل الانتحارُ هو حيلةُ الأنا في إنقاذِ نفسِها مِن همومِ الحياة والمجهول أم …؟

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حيدر عمر

تمهيد.

الأدب المقارن منهج يعنى بدراسة الآداب بغية اكتشاف أوجه التشابه والتأثيرات المتبادلة بينها، ويكون ذلك بدراسة نصوص أدبية، كالقصة أو الرواية أو المقالة أو الشعر، تنتمي إلى شعبين ولغتين أو أكثر، و تخضع لمقتضيات اللغة التي كُتبت بها. ترى سوزان باسنيت أن أبسط تعريف لمصطلح الأدب المقارن هو أنه “يعنى بدراسة نصوص عبر ثقافات…

نابلس، فلسطين: 2/7/2025

في إصدار ثقافي لافت يثري المكتبة العربية، يطل كتاب:

“Translations About Firas Haj Muhammad (English, Kurdî, Español)”

للكاتب والناقد الفلسطيني فراس حج محمد، ليقدم رؤية عميقة تتجاوز العمل الأدبي إلى التأمل في فعل الترجمة ذاته ودوره الحيوي في بناء الجسور الثقافية والفكرية. يجمع هذا الكتاب بين النصوص الإبداعية المترجمة ومقاربات نقدية حول فعل الترجمة في…

سربند حبيب

صدرت مؤخراً مجموعة شعرية بعنوان «ظلال الحروف المتعبة»، للشاعر الكوردي روني صوفي، ضمن إصدارات دار آفا للنشر، وهي باكورة أعماله الأدبية. تقع المجموعة الشعرية في (108) صفحة من القطع الوسط، و تتوزّع قصائدها ما بين الطول والقِصَر. تعكس صوتاً شعرياً، يسعى للبوح والانعتاق من قيد اللغة المألوفة، عبر توظيف صور شفّافة وأخرى صعبة، تقف…

عبد الجابر حبيب

 

أمّا أنا،

فأنتظرُكِ عندَ مُنحنى الرغبةِ،

حيثُ يتباطأُ الوقتُ

حتّى تكتملَ خطوتُكِ.

 

أفرشُ خُطايَ

في ممرّاتِ عشقِكِ،

أُرتّبُ أنفاسي على إيقاعِ أنفاسِكِ،

وأنتظرُ حقائبَ العودةِ،

لأُمسكَ بقبضتي

بقايا ضوءٍ

انعكسَ على مرآةِ وجهِكِ،

فأحرقَ المسافةَ بيني، وبينَكِ.

 

كلّما تغيبين،

في فراغاتِ العُمرِ،

تتساقطُ المدنُ من خرائطِها،

ويتخبّطُ النهارُ في آخرِ أُمنياتي،

ويرحلُ حُلمي باحثاً عن ظلِّكِ.

 

أُدرِكُ أنّكِ لا تُشبهينَ إلّا نفسَكِ،

وأُدرِكُ أنَّ شَعرَكِ لا يُشبِهُ الليلَ،

وأُدرِكُ أنَّ لكلِّ بدايةٍ…