-1-
وا قلباه!
حياة قلبي معلقة بك فتقدم بفرسك.
يا لتعاستي في هذا المساء
كأنك لن تنزل مدى الدهر عن صهوة حصانك الأبيض.
هذا الحصان الناصع البياض. المخضب الذيل
لا أدعو على قامة الحبيب بالويل والثبور
في سهوب ماردين، في هضبة (كَبَزي)- كيكي، في الأراض الشاسعة.
فلتشن على الحبيب غارة (هجمة) ]شبيهة بهجوم العرب الشمّر[؟.
وليتألب عليه فرسان (ساقلاوة) الأصيلة تُحلب النعاج؟
في الأراضي الشاسعة حيث أن النعاج تُحلب.
وأن الشباب يساوون ليرة واحدة (يعني أن المعركة حامية وأن المحاربين يدافعون عن الأرض ببسالة مثل فدان الأرض الذي يساوي ليرة ذهبية).
وأن الجبناء يُميزون من الأبطال بالشهود.
وأن أيدي الشباب لا تستطيع أن تمسك باللجام.
وأن أقدام الكرام لا تثبت في الرّكاب (كناية عن حرب ضروس).
-3-
الشهداء على بسالة الحبيب كثيرون
لقد كان حامي القافلة وقطعان الماشية
إن كلمة الهزيمة لدى المحبوب محظورة
هلّم إليّ يا حبيبي فها هي منازلنا
إنك تستطيع مشاهدة أساطين الخيام فهي قريبة.
كل نحري ونهدي أنا الظبية مباحان للحبيب منذ حلول العشاء، لفارس الجواد (السقلاوي).
-4-
هذا المساء حياة قلبي معه
ليت الريح الغربية ما هبت علينا.
الريح الغربية زينة وجه العالم
أنتبهْ، إنني أعاين وأرى زعماء كيكان يغدون إلى “ديوان” أبي بشار[1].
إنه يوم التحاور والتشاور إنه يوم التأهب للرحيل.
-5-
في ذلك المساء يداعب الكرى مقلة الحبيب وهو بين ذراعيّ.
لست أدري إن كانت البرداء أصابته
أو أنه يعاني الحُمّى.
لا لست أدري ان كان عليلاً أو أن “السقلاوي” قد رضّ فخذيه.
أو أن مرابع وديار أبي قد أكل عليها الدهر وشرب فعاثت فيها البراغيث.
-6-
في ذلك المساء، بسبب ضوضاء هضبة جبل كوكب.
دخلت الصفوف والأحمال بين قطعان كيكان.
والناس يقتحمون “المضافة” على ظهور النياق والبعران
نظرت إلى القامة الممشوقة كقامة حصان سقلاوي.
وخيول أبي بشار السقلاوية أمام خيمته دون أعنة وأزمّة.
-7-
في ذلك المساء.
لم يكن صيد الصبيان (الشباب) إلا طيوراً قريبة من البيوت
أما حبيبي فصيده غزلان الجبال
قُمْ أيها الحبيب ضع يدك في يدي وليخطف أحدنا الآخر
ولنذهب إلى ضفة نهر الخابور عند قبيلة (بكارا)
ولتكن قمة جبل (مغركان) لنا ملجأ وملاذاً.
-8-
في هذا المساء.
نزلتُ إلى سهوب ماردين.
يا لتعاستي لقد كنت احبها كسابق عهدها
حيث كانت تزهر هناك زهور المارغريت (زهرة الربيع) وجذور الخردل
في السنة الماضية كنت خطيبة الكائن العزيز.
أما هذه السنة فقد وقعتُ في شِباك رجل بائس.
ففي يوم الرحيل سأمكث في مرابع الراحلين والمهاجرين
فقد غدا لي مهد الرضيع عبئاً
وغدا المنديل الأبيض كجناح عقابٍ.
-9-
في هذا المساء.
اطلقْ حصانك يا صاحب الدرب البعيد
اطلقْ حصانك أيها المرهق الحائر.
لا تمكث في قيظ الصيف والا أصابتك الحمى والبرداء في هذا الصباح،
سوف تصاب بالصداع،
وسأتحمل اعباءك في هذا البلد الغريب.
-10-
وا قلباه..
في هذا المساء لم أشاهد “شاغربازار” البائسة “المحروقة”.
إني لم أرها بأم عيني بل سمعت عنها. إنها بعيدة عني.
إن صدري ونهديّ في هذا الصباح كروضة من رياض نصيبين.
كمرجٍ من مروج (تل كرم)
كواحة من واحات ضفاف الخابور.
فلتكن حياة قلبي معه.
هلم إلي يا حبيبي.. لتطوف بصدري ونحري
ونهدي، ثم ضع رأسك ونَمْ
فهذه النجمة التي تطل علينا هي نجمة “الشعرى”
ضعْ رأسك ونمْ فنجمة الصباح ما زالت بعيدة.
-11-
اذهبْ أذهب أيها القلب..
حبيبي، إن تخلّيت عني فلن أتخلى عنك.
يا أيها الحزين يا عميق الآهات
اطلق حصانك فالشقة بعيدة.
منذ يومين وأنت محروم من صدري ونهدي، فيا لتعاستي.
آه، لو استطعتُ أن أرى الحبيب.
كما في الأيام الغابرة ضمن فرسان أبي بشار
في سهل ماردين على ظهر الحصان الحمداني.
آه، لو رأيته هذا الصباح في واحة من واحات الخابور.
-12-
في هذا المساء حياة قلبي معه
هذا الصباح يرعى عناقاً وماعزاً على قمة جبل سنجار.
إن ثياب المحبوب بحاجة إلى الغسل
سأخذ لوحاً من صابون حلب
وسأغسلها في ماء (زركان)
سأغسلها وانثر عليها ماء الورد وأنشرها على أشجار القرنفل.
-13-
في أسرتنا هرم طاعن في السن بائس وتعيس
ينتظر يوم الرحيل
كان عندنا ثلاثة إخوة، كان جميعهم مدججين بالسلاح ينتظرون يوم النزال.
إذا لم أعد أرى قدّ حبيبي
فسأتجه إلى مدياد.
سأذهب باهداب ثوبي إلى المعلم (ملكو) ليصبغه بالأسود.
-14-
وا قلباه
لقد رحل حبيبي هذا الصباح إلى بلدٍ غريب
ما من أحدٍ في البيت أستطيع أن أسليّ قلبي معه
أحزان قلبي كثيرة وليالي كانون طويلة
سأنهض لأضع الصبي في المهد
ولكي أداري هموم قلبي سأناغيه.. سأناغيه
وأسكبُ عبرات من الدم على السوالف الكستنائية الثلاث المنسدلة على وجنتيّ
اطلقْ حصانك فإن حياة قلبي معك.
-15-
وا قلباه
قمْ ولْنتّجهْ نحو بلاد كردستان
لنذهب نحو دياربكر البائسة، خندق البؤساء
سأذهب هذا الصباح وانتزع صخرة من سور سجن الجناة “القتلة”.
سأضع هذه الحجرة بين قلبي وبين نفسي
وفي البلد الغريب سأسليّ قلبي معها. “بعد رحيل حبيبي”
انطلق يا من حياة قلبي معه
انطلق يا صاحب الدرب البعيد يا جمّ الهموم
-16-
في ذلك المساء، بين ذُرى الجبال وعلى ذروة جبل (كيدش)،
كان حبيبي يمتطي صهوة جوادٍ أصيل.
متوجّهاً نحو سفح سهوب الجنوب
تصطدم حوافر مُهر المحبوب بالحجارة
لا أدري لعلّ السائس التعيس لم يحسن صناعة حدوته
لذا فإن جسدي يحترق وقلبي يتألم معه.
-17-
كانت الفتاة تقول: يا حبيبي: أنا لست بامرأةً، ولست متزوجة
أنا شقيقة سبعة إخوة يشبهون الأسود
أنا ابنة عم اثني عشر ابن عم جميعهم فرسان الجياد.
فإذا لم تعد عيناي قامة الحبيب
سأذهب إلى أسفل نصيبين.
وكل واحد من الإخوة السبعة ومن أبناء العم الإثني عشر سأدفنهم.
-18-
في هذا المساء
واقلباه.. واحسرتاه، وحسرة ” تل كرم”،
لقد امتطى حبيبي الفرس في هذا اليوم القائظ
لست قلقة بسبب عطر الحبيب
بل لأنه يلبس (البنطال) الأبيض والقميص الحريري
وقد ذهب إلى رأس الينبوع في هذا الطقس المتقلب بين الحر والبرد.
-19-
وا قلباه
كنت أذهب نحو الباب ولكنه لم ينفتح لي
صعدتً إلىسطح البيت فلم يكن هناك أي طريق
نزلتُ من جانب الباحة وانتبهتُ،
كانت حبيبتي تحت النافذة نائمة
كان النسيم العليل يهب من جهة الغرب
الذي أثقلَ عينيّ
فلم أستيقظ
ذهبتُ إلى كعبة الصدر والنهدين
كانت الابواب موصدة بالقفل والمفتاح
يا أحمد فرمان لا أدري ما إذا كان ذلك فألي، في ذلك الصباح أو حظك.
-20-
إذهب يا حبيبي…
في هذا المساء/ يا إلهي، لا أطلب منك شيئاً سوى
خيمة ذات أربعة عمد و رواق شكاكي
ومدقة من خشب “بناف”
لأضرب أطنابها في سهوب ماردين على ذروة هضبة
رأس عين في وسط “عبدالسلام” (أفديسلامي)
-21-
يا ظبيتي…
في هذا المساء، أنت ظبيتي، أنت غزال في أسفل السهوب.
فمك في المرعى وعينك على العشب وأذناك تترصدان،
يا ظبيتي….
-22-
هذا الصباح، لو أتم الله نذري ونذر الحبيب”حقق أمنيات”، في سهوب ماردين
لصمت صوماً بعد صوم في شهري تموز وآب.
آه لو صرتُ رُمحاً ذا اثنتى عشرة عقدة
وحللت على منكب فارس الجواد الحمداني
-23-
في ذلك المساء، كانت الفتاة تقول: قلبي كرمال الفرات
اقسم بمجمع كيكان، عامودة المشرقة عمود الوطن
لن أتخلى عن القامة الرشيقة
حتى يذهب رأسي إلى دياربكر أمام (مقصلة) الجلاّد.
-24-
وا قلباه..
وا حبيباه حتى لحظة الموت،
حتى يوم القتل والمنازلة، دوماً يا حبيبي..
في هذا الصباح لا أخشى سوى أن
سأموت في بلاد الغربة قبل أن أشيخ
وأقول يا حبيبي…يا حبيبي… بما فيه الكفاية.
*-مجلة هاوار- العدد:/24/،السنة/2/، تاريخ 1/4/1934، ص4-5، مطبعة الترقي- دمشق.
*-نقلاً عن المطرب الشعبي أحمد فرمان الكيكي.
من هو المغني أحمد فرمان الكيكي!
أسمه أحمد فرمان ينتمي إلى قبيلة كيكان عشيرة نجاران فرع (مير-ممان). وُلِد أحمد في قرية (ميلبي) الواقعة في جبال مازي في منطقة ماردين، عاش والده حياةً هادئة وكان يملك الحقول وقطعان الماشية وكان محترماً في عشيرته حيث كان له سبعة أولاد كلُّهم ذكور، وكان أحمد هو البكر حيث رعى الأغنام وهو صبي، وكما هي العادة ومنذ اليوم الأول زوّد بمزمار الراعي وهنا ندع أحمد ليروي لنا حياته ومغامراته:
“كنتُ شاباً حينما بدأت برعي قطعاننا عبر السهول والجبال، حملت السلاح منذ الأيام الأولى، وكان ذلك سيفاً ومسدساً (كرمانجي) وكنتُ أقضي سهراتي في غرفة الآغا. كنتُ شاباً خجولاً أجلس في زاوية وأستمع بشغف إلى المغنّين الذين كانوا يغنّون، كنتُ أعجب بالموسيقى وبدأت أقلدهم شيئاً فشيئاً.
في الريف وبجانب قطيعي كنت أقضي وقتي بغناء كل ما سمعته في المساء في مجلس الآغا ولم يتردّد رفاقي في أن ينقلوا ذلك إلى آغواتنا وأنني أصبحت أغني، فألحّ الآغوات عليّ وأُجبرت على أن أغني أمامهم. وهكذا بدأت أدخل في مهنة الغناء وأن أُعرفَ جيداً.
أما الأغنية التي ذاع بها صيتي وجعلت الناس تعرفني هي الأغنية (دلال)”.
بعد بضع سنوات اختلف المغني أحمد مع أبيه وغادر المنزل الأبوي، حَصَلَ على بندقية ثم جمع بعض الرفاق ونظّم عصابات وقطّاع طرق فسلب المارّين. بحث رشيد بيك زعيم كيكان عن أحمد ووضعه في خدمته فأصبح حينئذٍ مغنياً شهيراً وقديراً لدى الزعيم. أما أحمد الذي وُهِبَ نفس فنانٍ حقيقي، فقد اختلف أيضاً مع سيّده وتوجّه إلى مدينة “ويران شهر”. وهنا ندع أحمد يروي لنا حادثته المزعجة في “ويران شهر”.
“غضب رشيد بك مني فغادرته وذهبتً إلى “ويران شهر”. كنتُ أنوي الدخول في خدمة إبراهيم باشا كمغنٍ.
في “ويران شهر” كان هناك مواطن أعرفه فذهبت إلى بيته وكان علينا أن نذهب معاً إلى بيت الباشا. وفي غضون ذلك أخبرَ شخصٌ ما الباشا قائلاً له بأنني (كيكي) ومن جوار رشيد بك وأنني قدمتُ إلى هنا للتجسس. وكان رشيد بك والباشا عدوين فأوقفوني وأخذوني إلى الباشا وهو بدوره سلّمني إلى عبد زنجي يُسمى (أوات) الذي كان سجاناً فأعطاني (أوات) أفضل مكان في سجنه وبطحني على بطني ووضع قيداً ثقيلاً في رقبتي.
امرأة الباشا (خنسة) كانت ابنة أحد آغوات (كيكان) يسمى (داود آغا)، وجد مضيفي الوسيلة لإخبار (خنسة) بأن أحد الكيكيين في السجن فتدخّلت (خنسة) وأطلق (أوارت) سراحي. حينئذ عدْتُ إلى قبيلتي وتابعت عملي في خدمة سيدي”.
بعد أن بقي أحمد بضع سنوات أخرى عند رشيد بك قرّر مغادرته من جديد وذهب إلى (عمر) بك زعيم قبيلة (ديميليان) في شمال ماردين وأصبح مطربه.
كان أحمد يملك جواداً جميلاً فقام عمر بك ذات يوم بإهداء ذلك الجواد لأحد ضيوفه وأعطى نقوداً لأحمد ليذهب ويشتري جواداً آخر. فغادر أحمد الجبل وجاء إلى السهل ليبحث عن راحلة جديدة وهناك زارَ عائلته.
إن قبيلة (كيكان) كانت تجهّز نفسها للحرب ضد إبراهيم باشا وقالوا لأحمد: أين تريد الذهاب؟ نحن في حالة حرب، فبقي أحمد واشترك في الحرب. ومن جهة أخرى لم يكن الكيكيون والميلانيون على علاقة طيبة.