الفنان التشكيلي احمد عكو، وحرارة التماهي مع لوحاته المعبرة… دراسة نقدية فنية

  خالص مسور

الفنان التشكيلي احمد عكو يظهر  نفسه باقتدار فناناً يعبر بصدق عن تجربته الفنية وبعمق عن حالة من التفاعلية والتماهي الشخصي مع لوحاته الريفية الساحرة،، فمن يشاهد صورته التي نشرها إلى جانب لوحاته الإنترنيتية التي رسمها بخبرة فنان متمرس، فسوف يراه معها قطعة واحدة بمعطفه الأبيض الذي يحاكي الحطاطات البيضاء على رؤوس الفلاحات اللائي رسمهن بلغة تراجيدية معبرة عن عمق مأساة المرأة الكردية الريفية في مجتعها الأبوي، وحيث تطغى الملامح الكردية على فلاحاته مع مسحة من الحزن الشفيف الذي ارتسم على وجوههن بجلاء ظاهر. 

الفنان يجيد استخدام الفرشات في لوحاته جامعاً بين الإنطباعية والتعبيرية والرمز في وحدة عضوية مع فضاءات اللوحة الشاعرية بوحدة وانسجام. مظهراً براعة وذكاء كبيرين في تصوير أحلام أوبؤس وشقاء المرأة الريفية الكردية، وفي تركيز واضح على العيون الواسعة الملفتة للنظر مع حلمات الأثداء المتهدلة البارزة تحت أثواب نصف شفيف، ليدلل على عمق معاناتهن في المجتمع الذكوري الأبوي والإضهاد السياسي معاً. وتبدو في مآقي عيونهن الواسعة ملامح إيقونية كنسية بلواحظ متخمة بشراهة التعبير وجماليته، وهو ما ينم عن حالة من اليقظة والحيرة والتساؤل في مشهد مثير لقراءة حالة المرأة الإجتماعية، مع مسحة من الحزن والجمال الريفي الساحرين على الوجوه المرهقة، بالترادف مع اللباس الريفي غير الأنيق في العادة والعيون النجلاء الواسعة والأنف الدقيق والشفاه القروية الخالية من احمر الشفاه.
كما استطاع الفنان بفرشاته المثيرة إبراز قسمات الوجه الحنطي المحاط باللون الأبيض الصارخ لحطاطة بيضاء على رأس المرأة والتي جاءت متنافر مع لون الخلفية مما أكسب الوجه المزيد من الوضوح والتعبيرية، هذه الحطاطة وكما هي معطف الفنان الأبيض كأنما تعمد أن يتماهى مع لوحاته باللون والصورة والتعبير معاً، هذا رغم عدم خلو الأوجه من نوع من التفاؤل البازغ على وجوه النسوة في بعض لوحاته التشكيلية.
وفي غالبية اللوحات أضفت باقة الورد في أيدي النسوة الفلاحات جمالية ووضوحاً ظاهرين مع  الألوان الرهيفة التي أضفت بدورها مسحة من الفنية والجمال وانسجاماً وتناسقاً كبيرين، هذه اللوحات الفنية التي تتداعى بلمسات سحرية سريعة وبوميض ريفي جميل، وبالتضافر مع آثار ضربات الفرشاة اللونية حيث أفلح الفنان في رسم تضاريس العديد من لوحاته الإنطباعية والتعبيرية وتزويدها بالثراءات الدلالية الموحية وبجمالية فنية مغرية.
نعم، عن هذه اللوحات التي نشرها الفنان في الإنترنيت، تمثل جانباً هاماً من تجربة الفنان احمد عكو الفنية المتفردة على الساحة التشكيلية في سورية، ليجمع فيها بين الأرض الطبيعة والبشر ضمن صيغة تعبيرية تمتاز بالكثير من الإثارة والإدهاش والتلقائية المتماهية مع خبرته الفنية الواضحة، وهنا كأني بالفنان يؤكد الرابطة العضوية بين الفلاحات الكرديات والأرض واهبة الحياة والاستمرارية، وقد تحولت معها الملامح الأنثوية إلى رموز موحية بالخصوبة والتفاني والعطاء، مستعيناً في ذلك بمخزون ذاكرته المليئة بصور الحقول الكردية وملامح نسائها وناسها، في لوحات ماهت بسوية فنية عالية بين الأرض والإنسان، ثم التماهي بين الألوان والأرض التي سخرها للتعبير عن حساسية اجتماعية مدهشة تتراءى في التعابير الوجهية الناطقة والصارمة أحياناً،  وبإبراز التقاطيع الجسدية والطبيعية بألوان كامدة، والتركيز على اللباس الريفي والتفاصيل الوجهية والجسدية الدقيقة، استطاع أن يعبر عن الأجواء الريفية الكردية بجدارة واقتدار، حيث تمثل اللوحات الطبيعة الجبلية الكردية ووجوه نساء كرديات وجميعهن في سنوات الكهولة أو الشباب، وقد عبر عن معاناتهن اليومية والحياتية من خلال قسمات وجوههن وإحاطتها بقماطات بيضاء فصلتها عن الخلفية وأبرزتها بسوية تعبيرية عالية. حيث تتوفر في اللوحات المنشورة لونين للجسد بالإضافة إلى ألوان الزهور المتناسقة أو المختلفة ألوانها في نفس الوقت، ولكنها في انسجام تام مع عناصر اللوحة، حيث الحقول الزراعية والبيوت الحجرية وأجزاء من الحيطان التي تبرز قطعها الحجرية بوضوح تام، ومناظر لفلاحين مدبرين نحو البيوت لتطغى على جو الحقول مشهد الحالة النسائية والمرأة الريفية العاملة بامتياز.
وهناك لوحة المرأة الحسناء التي تعتمر طاقية كردية وتبدو مستغرقة في بحر زاخر بالخيالات البشرية، تحيط بها ما ينم عن أمواج بحرية هادئة في حالة من الإنسجام بين التعابير الوجهية والمحيط الخارجي، ثم منظر الرجل النصفي الضخم الذي يبدو هو الآخر وقد استغرق في بحر من الخيالات في انسجام مع اللوحة الخلفية، تزيدها ثراء قوة ووضوح ضربات الفرشاة المثبتة للونين الأزرق والأبيض اللذان يعطيان انطباعاً عن فضاءات من الخيالات والاحلام النسائية العميقة الموحية، بالإضافة إلى ما يشبه تموجات مائية هادئة حولها، مما فجر تعبيراً قوياً وإحساسا عميقا بالألوان التي جاءت بكثير من الإنسجام مع الطبيعة المحيطة. الأمر الذي يعكس الاهتمام الصادق من جانب الفنان بتطلعات نساء الريف الكرديات ومعاناتهن في هذا العالم المليء بالفواجع والأسرار وبشكل تعبيري فني جميل.
هكذا استطاع الفنان التشكيلي احمد عكو خلق انسجام بين الفكرة وإسلوبية التعبير عنها في لوحاته التشكيلية بشكل راق، وكقصيدة شعرية روعي فيها التناسق والوحدة العضوية بأجلى مظاهرها، وبطريقة فنية جميلة وتوشية أرضية اللوحات بجمالية فنية متقنة، وبذلك يؤكد الفنان احمد عكو على شخصيته الفنية وتجربته الخاصة، وربما قد تكون هناك تشابه مع إسلوب الفنان عمر حمدي، لكن نؤكد على فرادة تجربته وفرادة لوحاته التي شاهدناها منشورة في المواقع الإنترنيتية والتي تميزت بشاعرية أجوائها الحالمة، وشفافيتها التعبيرية الموحية، وقد استعارها من البيئة الريفية الكردية الجميلة، مواكباً اللون للرسم والشكل للتعبير، مما أبعد نفسه عن النمطية الجامدة والرتابة والتكرار، والبعد عن القولبة والتأطير.
…………………………………

مواضيع ذات صلة:
السيرة الذاتية للفنان التشكيلي أحمد عكو

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

رضوان شيخو

بطبعة أنيقة وحلة قشيبة، وبمبادرة كريمة وعناية كبيرة من الأستاذ رفيق صالح، مدير مركز زين للتوثيق الدراسات في السليمانية، صدر حديثا كتاب “علم التاريخ في أوروبا وفلسفته وأساليبه وتطوره”، للدكتور عصمت شريف وانلي، رحمه الله. والكتاب يعتبر عملا فريدا من نوعه، فهو يتناول علم التاريخ وفلسفته من خلال منهج علمي دقيق لتطور الشعوب والأمم…

خلات عمر

 

في قريتنا الصغيرة، حيث الطرقات تعانقها الخضرة، كانت سعادتنا تزهر مع كل صباح جديدًا.

كنا ننتظر وقت اجتماعنا بلهفة الأطفال، نتهيأ وكأننا على موعد مع فرح لا ينتهيًا.

حين نلتقي، تنطلق أقدامنا على دروب القرية، نضحك ونمزح وكأن الأرض تبتسم معنًا.

كانت الساعات تمر كالحلم، نمشي طويلاً بين الحقول فلا نشعر بالوقت، حتى يعلن الغروب حضوره الذهبي…

عبدالجابر حبيب

 

منذ أقدم الأزمنة، عَرَف الكُرد الطرفة لا بوصفها ملحاً على المائدة وحسب، بل باعتبارها خبزاً يُقتات به في مواجهة قسوة العيش. النكتة عند الكردي ليست ضحكة عابرة، وإنما أداة بقاء، و سلاح يواجه به الغربة والاضطهاد وضغط الأيام. فالضحك عنده كان، ولا يزال يحمل في طيّاته درساً مبطناً وحكمة مموهة، أقرب إلى بسمةٍ تخفي…

أعلنت منشورات رامينا في لندن، وبدعم كريم من أسرة الكاتب واللغوي الكردي الراحل بلال حسن (چولبر)، عن إطلاق جائزة چولبر في علوم اللغة الكردية، وهي جائزة سنوية تهدف إلى تكريم الباحثين والكتّاب المقيمين في سوريا ممن يسهمون في صون اللغة الكردية وتطويرها عبر البحوث اللغوية والمعاجم والدراسات التراثية.

وستُمنح الجائزة في20 سبتمبر من كل عام، في…