من مجالس خديجة وربيعة حول التنّور… إلى غرفة المدرسين

بقلم سما حسين

لا زالت عالقةً في مُخيلتي ذكريات الزمن الجميل, أتذكر من عبق الطفولة  رائحة  خبز التنّور وهي تفوح من فوهتها الملتهبة لتنتشر في أرجاء القرية ونبدأ معها نهاراً آخر…. أشعر بذاك العبق و تلك الرائحة التي غادرتنا في المكان وحتى الزمان, شيئاً ما زال عالقاً منها في ذاكرتي, في كلّ حواسي …. تراودني ذكريا ت القرية بسواقيها الترابيّة وبيوتها الطينية والشوارع التي لم تعبّد إلى حين لحظتنا, كل تفصيلٍ من تفاصيلها يقتحم مخيلتي دونما استئذان , منظر النساء وهن يرتدين الملابس التقليدية والتعب والجهد يأكل وجوههن
ببراءة الطفولة كنت أركض مسرعةً كلّ صباح في نفس الموعد لألحق جارتنا خديجة وهي تصنع الخبز وأرى صباحات القرية وضجيج الحياة الصامت وحركة ناسها  أراقب عن قرب وبكثب  كلّ حركات الجارة وهي تعد العجين وتمده على جدار التنّور الداخلي… وأراقب جارتيها (فاتي) و(ربيعة) وهما تأتيان مسرعتين لتصلا إلى الاجتماع الصباحي ليتكلمن معاً عن آخر أخبار القرية….. ويبدأ مجلس نهش اللحوم أو كما نعبر عنه بالمصطلح الإسلامي ( مجلس الغيبة والنميمة)
كنت أتذكر الحوار والنّقاش بينهم وعيناي تروح وتجيء وهما تراقبان شدة الكلام وقسوة الأسلوب في الطعن في أفراد القرية.
كانت كل واحدة منهن تستلم الحديث عن مجموعة من الجيران وكل جارة  تتحدث عنهم بما تعلم وما لا تعلم, ولا تخطئ إحداهنّ في مدح أحد…. خديجة تظنُّ أن جارها أبو محمد شديد البخل وتنشر عنه الأحداث المختلفة وتُرجع مرض زوجته بفقر الدم إلى ذلك بعد تحليلها السلسلة من الأحداث وتتكلم عن بنت سلفتها رفعة بأنها قليلة أدب وأن شرفها مطعونٌ فيه لأنها تحب ابن الجيران, وترميها بأنواع من الشتائم والألفاظ البذيئة, وهي وصلت لهذه النتيجة بعمق تفكيرها وبدليل قوي لأنها رأت الشاب يسلِّم عليها عندما كانت واقفةً عند باب المنزل؟ ؟ ؟
ثم يأتي دور الأخرى بعد جهدٍ جهيد من محاولاتها لتغتنم هذه الفرصة في التكلم عن الأخبار الجديدة التي تحملها….. وترمي في قريباتها وجاراتها اللاتي لا تحبهن….. فتطعن في شرف فلانة وابنة علانة, وأنا أجلس وأستمع وأشعر بنفسي وكأني أعيش في عالمٍ من الوحوش.
– كنت أستغرب كثيراً وأقول في نفسي : أتراني عندما أكبر ذات عمر وذات سنوات وذات ظروف,  هل سأستنسخ هذه الشخصيات (خديجة وجاراتها ) وأكمل مشوار الألف ميل ؟؟ وأمارس الأخطاء التي لم يجد أحدهم أن ينهو هذه النسوة عنها ؟؟على العكس الظاهرة كانت تتفاقم ولازالت وبين أرفع المستويات ، كانت تمرُّ بي الأعوام وأنا أعيد السؤال على نفسي,هل سيكون شغلي الشاغل هو الطّعن في شرف فلان والتكلم عن سمعة علان ؟ أيةُ ذهنيّة وعادات أهل الجاهلية هذه ؟؟ هل يعقل أن نبتعد كل هذه المسافة الطويلة عن سنة المصطفى.؟؟ أحياناً كثيرة أتذكر أقوال النبي عليه الصلاة والسلام عن الغيبة والنميمة ومنها خطبته صلى الله عليه وسلم على مسمع يزيد عن مائة ألف نفس من صحابته الأبرار في حجة الوداع : ( إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا… ألا هل بلَّغت )
والأعراض في اللغة : جمع عرض ( وهو موضع المدح والذم في الإنسان سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره).
ولكنّي أعودُ لأقول لنفسي….. هؤلاء نساءٌ مساكين….. لم تسنح الحياة لهن الفرصة في التعلم وتشرُّب الوعي الكافي ,لذلك لم يوجد ما يشغل فراغهم, ولذلك يجدون مثل هذه الأحاديث والانشغال بأعراض الناس التسلية الوحيدة لهن من الجهد والعمل الشاق طوال اليوم.
مرّت الأعوام وانتقلت بحكم دراستي الى الوسط الأوسع والتحقت بالجامعة, كنت أراقب مجالس صديقاتي وحواراتهن عساني أجد من بينها ما يشفي غليلي ويخلصني من عقدة مجالس التنور…  رأيت الوضع أفضل قليلاً…. لكنِّي حينما كنت أمعن النظر في حواراتهن ,كنت دائماً أشمُّ منها الرائحة نفسها…. ومن ثم تجول في خاطري أفكارٌ كثيرة.
( أستغرب كيف لا يستطيع العلم أن يطور عقول البشر) , لأننا دائماً ننسب أي رقي في المستوى الفكري إلى العلم والمعرفة …. ولكن للأسف ظلت غالبيَّة زميلاتي يتكلمن بلهجة خديجة وربيعة …. مع أنهن استطعن التعلم والدراسة.
اجتهدتُ كثيراً لأصل إلى جوابٍ شافٍ ورأيت أنهنَّ ربما لازلن في سنوات الشباب الأولى ولم يتمكنَّ بعدُ من تشرّب الحكمة والمعرفة…. وإن شاء الله فالزمان كفيل في تغيّرهن وتطورهن إذا وجدن الأجواء الملائمة.
-مرت عدة أعوام, تخرجت من الجامعة لألتحق بأرقى وأسمى مهنة , و ظننت أني وجدت ضالتي في سلك التربية والتعليم …. قلت في نفسي أخيراً سأصل إلى مبتغاي, و ربما قد وصلت الآن الى وسط  المجتمع المثقف الواعي, مجتمع المعلمين والمربين الذين يطمحون دائماً إلى بناء الأجيال والذين يمدون جيل الشباب والمراهقين بالمعرفة والأخلاق الحميدة…. كانت نشوة السعادة تغمرني وأنا أحاور الطلاب وأنصحهم بالانشغال بعيوب النفس وببنائها, والابتعاد عن هتك أعراض الناس ورفض التقاليد الموروثة في الاستهانة بمثل هذه الأمور, وزرع الفتنة بين أفراد المجتمع وتشويه سمعة الناس من دون وجه حق وبدون يقين.
وأتذكر معهم الحديث الذي رواه أبو هريرة  عن الرسول عليه الصلاة والسلام عندما بدأه بسؤال الصحابة رضوان الله عليهم (أتدرون من المُفلس ؟ قالوا : المفلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ, ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعط هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ماعليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار) .
– ولكنني كما أعتقد كنت أنفخ في قُربةٍ مثقوبة…. نعم … لأنّ الصدمة الكبرى كانت عندما أصبحت أترددُ إلى مجالس المدرسين والمدرسات الأفاضل ، حينها ذهبت كلُّ أحلامي هباءً منثوراً عندما وجدت الغالبية العظمى من هذه الفئة المربية مخالفة تماماً للصورة التي توقعتها.
– حينما بدأت أستمع إلى حوارات الآنسة سلوى والآنسة مريم والآنسة غادة ولم أجد أي تطور في مستوى تفكيرهن وفي طريقة كلامهن…, أجد هذه تتكلم عن عيوب الأستاذ الفلاني وتلك عن طريقة كلام الآنسة الفلانية ,وينتهي المجلس وانتقاداتهم التافهة و السطحية لا تنتهي…. وأقول في نفسي سبحان الله من يسمع الواحدة منهن وهي تصف من تتحدث عنهم على أنهم شياطين…. يتخيلها ملاكاً وأظنُّها كل شيء إلا أن تكونَ ملاكاً .
– كنت أتذكر كلام  الامام ابن حبان رحمه الله وهو يقول 🙁 الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه, فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه ولم يتعب قلبه, فكلما اطلع على عيبٍ في نفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه, وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه وتعب بدنه وتغدر عليه ترك عيوب نفسه ,وإنّ من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم وأعجزُ منه من عابهم بما فيه, ومن عاب الناس عابوه)
– عندما رأيت هذا الوضع…. تيقنت تماماً أنّ التنور قد انتقل من بيت خديجة في القرية إلى غرفة المدرسين  وأنه يمتد الى مجالس السّاسة ومختلف المهن لابل كل الأوساط  ,وقلت في نفسي لا حول ولا قوة الا بالله ….ستر الله عيوبنا وعيوبكم

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…