يلاحظ المتتبّع للقنوات الفضائيّة العربيّة، النسبة الكبيرة للمسلسلات التي تعرض عليها، ولا يخفى في هذا الجانب التغيّر الذي يبرز على صعيد العمل التلفزيونيّ المسلسلاتيّ، كما لا يخفى التوقيت الذي تطلق فيه على الشاشات، وهو شهر رمضان، ويقسَّم المسلسل إلى ثلاثين حلقة ليستمرّ عرضه طيلة أيّام الشهر، أو قد يلعَب على وتر الحلقات فتنقص منها حلقة أو تضاف إليها بضع حلقات أخرى، وذلك للإيهام بأنّ النهاية هي التي تفرض نفسها دون أي بترٍ أو مَطْمَطة للأحداث التي تجري..
وهنا يجب أن يلاحظ المشاهد الاعتماد المكثّف على إضاعة الوقت بوَصلات فنّيّة راقصة أو مأسويّة، أو ملاحقات بوليسيّة أو شبهها، من قبل عاشق صائد لصادّته، أو من فرعٍ لمشتبه به، وهذه لا تخدم الأحداث بشيء، إلاّ أنّ خدمتها الوحيدة هي المطمطة أو “التمكسك”- تشبّهاً بالمكسيكيّين الذين يبرعون في هذا الجانب، وزيادة الحلقات لتتوافق مع العقود المبرمة التي يجب أن تراعي أيّام الشهر كلّها..
كما لابدّ من ملاحظة أنّ الاعتماد أيضاً بات على الجسد وعرضه بأشكال مختلفة، وغير خافٍ على المشتغلين في هذا الجانب، أنّ القسم الأكبر من المحرومين يقادون بمنظر مثير لممثّلة مغرية، ليكون المشهد المثير، أو اللقطة الشهوانيّة ربطاً وتأسيراً لأكبر عدد من المشاهدين بهذا العمل أو ذاك..
وتكون التضحية بالقيمة الأدبيّة الفنّيّة للعمل لحساب إدخال بعض المشاهد غير الضروريّة للعمل، والضروريّة من جانب آخر لترويج العمل، أي “حسب السوق يسوقون”، والسياقة حسب السوق تكون على حساب القيمة الإبداعيّة، والهدف القيميّ المبتغى من خلال التسلسل الذي يجب أن تعرض فيه القضايا المعالَجة..
قطعاً، لا أنادي بتحريم التمثيل على المرأة، والعودة إلى الاعتماد على الذكور من الممثّلين، بل أنادي بأن يجب أن تعي المرأة بأنّها ليست بضاعة تروَّج، أو ليست وسيلة لترويج البضاعة، سواء كانت فاسدة تلك البضاعة أو محمودة، ولست ضدّ أن تؤدّي المرأة الممثّلة دورها المسنود إليها، طالما يخدم هدفها وهي مقتنعة بذلك، حتّى وإن كان ذلك الدور يحتّم عليها مشهداً معيّناً لا غنى للعمل عنه.. أمّا أن يكون إغناء المسلسل بموديلات الثياب والهواتف والسيّارات، بعيداً عن القضايا الأساسيّة المطروحة شعبيّاً، وغير المطروحة تلفزيونيّاً..
وهذا الكلام ليس كلاماً عدميّاً أبتغي من خلاله إفراغ الأعمال كلّها من محتواها، ولكن من باب النسبة الغالبة الطاغية، نسبة الجيّد الهادف إلى الآخر المضادّ لنفسه..
وليس من باب الصدفة أن تبتعد الكثير من هذه الأعمال عن التطرّق لجوانب هامّة في الواقع، لتصوّر مآسي نخبة النخبة، من دعارة، وقمارٍ، وعلاقات مشبوهة، وفساد ممَنهج، ليكون السمت المأخوذ غير معبّر إلاّ عن هموم بضعة آلاف من ملايين يبتعَد عن تصوير مآسيهم.. ولإشغال ملايين من تلك الملايين بهموم تلك الأعداد القليلة، وقهر هؤلاء المساكين الذين يغتمّون لأنّ ذاك قد خان تلك، أو لأنّ تلك قد خانت الآخر، …
والفنّ يخون مَنْ.. يخون مَنْ ولصالح مَن..؟!!!
ألا يخون نفسه ورسالته.. ؟!!
سأكتفي بمثال صارخ على التنافر بين الواقع الذي يفترض بالمسلسل أنّه يعالجه، وبين الطريقة التي يعالج بها هذا المسلسل هذا الواقع المضادّ للواقع الممثَّل.. (هنا الحديث عن الأعمال السوريّة)..
أليس من باب المفارقة أن يكون بيت أحد الموظّفين (غير المرتشين طبعاً) كبيراً بحجم فيلا، في حين يعاني المواطن مشكلة حقيقيّة في بحثه عن كوخ يأويه في ظلّ أزمة السكن في المدن عامّة ودمشق كعاصمة بشكل خاصّ..
وهذا مثال آخر سيكون قريباً من الجميع دون استثناء، وهو الكيفيّة التي تعرض فيها المدارس، ، فيغالط قسم كبير من الناس نفسه إذ يخادعهم العمل المطروح، ليقنعنا بأنّنا نعيش في نعمة ما بعدها نعمة، وأنّ الناس الذين يحترفون التشاكي والتباكي هم متحاملون على الواقع التربويّ، وبخاصّة من ناحية الأبنية المدرسيّة التي تظهر على الشاشة كساحة للعمل وميدان للأحداث، ولا يملك المشاهد إلاّ أن يؤنّب نفسه، لأنّه دائم إساءة الظنّ بالحكومة التي تحرص الحرص كلّه على راحته ورفاهيّته، وراحة ورفاهيّة أولاده وأولاد أولاده من بعده..
وحقيقة يتساءل الكلّ بعد الانتهاء من التفرّج على العمل:
إنّ الممثّلين سوريّون، واللهجة التي يتكلّمونها هي لهجتنا، والمناظر التي تظهرها الكاميرا هنا وهناك هي من عندنا، ولكن هل يا ترى المدارس التي صوّر فيها المسلسل هي مدارس سوريّة.. أم هي مدارس سويديّة ؟!!!
إن كان واقعنا كذلك، فمدارسنا بألف خير، والمستلزمات كلّها فائضة عن الحاجة، لذا فيقتَرح التفضّل بمساعدة الفقراء ببعض من المنسَّق عندنا..
وبالطبع في الحالة هذه يبلغ البطر بالمواطن أنّه يبدأ باختلاق أمور لا وجود لها على أرض الواقع، والدسيسة وحدها هي التي تزيّن له تماديه في الانتقاد الحاقد غير الموضوعيّ، وأنّ حالة عدم الرضا التي تلازمه ما هي إلاّ مؤامرة لابدّ أن يحاكم عليها، لأنّ المسلسلات تقول إنّنا بألف خير، فلماذا يتمادى هذا الطفران في نشر تذمّره وضيقه غير المبرَّر..
ويتساءل المرء كذلك إلى أيّ حدّ تحافظ الأعمال المقدَّمة على الأمانة في تصوير جانب من الواقع المعاش، وهل أوقفت رسالتها لترضية المرفّهين المترفين، ليكون ميزان السوق الذي يزن بكفّة واحدة هو الطاغي،.. مع الباغي.. !!