إسماعيل عمر غائباً حاضراً

   إبراهيم اليوسف
elyousef@gmail.com

لما أزل، تحت هول الصدمة الكبيرة، التي تلقيتها اليوم، حين استلمت من الصديق حسن مشكيني رسالةsms على هاتفي، يعلمني فيها برحيل المناضل الكبير إسماعيل عمر؟؟!،  حيث كنت في مكتبي، في هذا الصباح، أنجز بعض ما هو مطلوب مني، وعلى عجالة، كي أنطلق-بعد ذلك- إلى منطقتين جميلتين في دولة الإمارات، أتعرف عليهما، ضمن مشروع عمل كتابي يتناول جماليات المكان، انتبه إلي زملائي، وأنا أضرب رأسي بطاولة مكتبي، لا شعورياً، بعيد قراءة تلك الرسالة المهتوفة، كما فعلت ذلك في ثاني أيام عيد رمضان، وأنا أتلقى نبأ رحيل ابن عم لي(هو نذير  ملا صالح) عزا به أبو شيار، كأحد رفاقه السابقين في مدرسة البارتي، حيث استيقظت هذا الصباح لأفكر كيف أكتب عنه في أربعينه الذي يصادف هذه الأيام، من دون أن أعلم بأني سأكتب عن أبي شيار الذي باتت صورته منذ يومين تلازمني، وهو ما لم يحدث لي من قبل مع أحد من قبل.

جيئة وذهاباً أقطع مكتبي كطائر مذبوح، وسط ذهول، ومواساة من حولي بي، أهتف إلى الوطن، أتصل بأسرتي، لعل الأمر لا يكون بهذا الشكل الصاعق، الذي سمعته، فلا أجد ما يشفي الغليل،  ويرسم بعض أمل في نفسي، كي أتصل بعدد من الأصدقاء الكتاب” هنا، لأتأكد – ووا أسفاه- أن الخبر صحيح، ولا منجى من القدر.
أجل، لم أدر ماذا فعلت؟، وأنا أجهش ببكاء مختنق، بالغاً ذروة التوتر، تاركاً ما بين يدي، من عمل انكببت عليه، جانباً، ولأتصل بسائق الجريدة-الآسيوي- أبلغه أن الرحلة تأجلت- هكذا- إلى إشعار آخر، وكيف لا؟، و إسماعيل عمر، ليستحق أن أعلن الحداد عليه، وعلى طريقتي، وهو الذي عرفته في أول أسبوع، جلست فيه على مقاعد الدراسة في قامشلي، حيث كان يدرسنا مادة الجغرافية التي كان من أبرع مدرسيها، على الإطلاق، ولعل أبناء جيلي يتذكرون أن الرجل، حتى وبعد تركه للتعليم، راح يعد في طليعة من وجهوا طلابنا إلى كيفية دراسة هذه المادة، من خلال براعته في تفكيكها، وفي زمن لم يكن في جيوبنا أجر متابعة دورات دراسية، خاصة، كما يضطر أبناؤنا الآن أن يفعلوا.
لقد بات يعتمد علي، في مساعدته في بعض الأمورالخاصة- وأنا طالب صغير-مولياً الثقة بي، وقد كان متزوجاً آنذاك للتو، بعد أن منحته أسرة كردية -في مابعد علمت أنها أسرة الشاعر أحمد حيدر- غرفة من منزلها، إن لم تخني الذاكرة، يقيمان فيها، ولأواظب على زيارته، إلى  أن ترك ذلك البيت، وانشغل كل منا بعالمه، ليكون ولده أحد طلابي في مدرسة الحمدانية، أعيد إليه بعض ديون أبيه في ذمتي، ما استطعت، وليظل أبو شيار محافظاً على علاقتنا الخاصة، يزورني في منزلي، كمجرد صديق، مع أنه كان قد عرفني من خلال أبي، وأسرتي.
وما دمت أتحدث على الصعيد الشخصي، فإن أبا شيار كان أحد قياديي الحركة الكردية الذين واسوني، وأنا أفقد عملي بعد زيارتي الأخيرة إلى قامشلي- وهنا أنا في مقام وصف تواضعه وطيبته وإنسانيته- مواسياً أسرتنا-مع قادة غيارى آخرين”……”- أكاد أسميهم- عندما اعتقل حفيظ عبدالرحمن، و كان أكثر هؤلاء جمعياً في ترجمته “المعنوية” لمواساتنا، بل ولقد كان من أوائل قادة الحركة الكردية الذين هنأوا حفيظاً، وزاروه في بيته، حين أطلق سراحه، ليحاكم طليقاً، كما أنه من أوائل الذين وقفوا معنا حين فجيعتنا الكبرى بأكرم كنعو أبي لقمان(رئيس مجلس أمناء ماف) في نيسان الماضي.
واثق أن آلاف الأسر في منطقة الجزيرة، وفي سوريا، عموماً، كانت علاقته بها-على هذا النحو- يشارك ذويها آلامهم، وأفراحهم، وكأنه واحد منها،كما كان يفعل معنا، تلك هي أخلاق وسجايا معلمي أبي شيار التي جعلتني أكن  له هذا الاحترام  الكبير.
ولعلي لن أنسى البتة أن حزب الوحدة- وبرعاية أبي شيار- كان الوحيد الذي دأب أن يكرم الصحفيين في عيدهم، وعلى ضوء ممكن السياسة -بحسب قراءته- ولقد كنت على الدوام من بين مكرميهم،  كما فعل ذلك خلال عيد هذه السنة السوداء،  وشاءت المصادفة أن نجلس قريبين من بعضنا بعضاً، وهو يستمع بهدوء إلى مداخلات بعض الكتاب، كي يناقشهم بكردية فصحى، جميلة، مدهشة.

كلما كان أبو شيار يلتقيني-وهو الذي يعرف أني أمضيت جزءاً نفيساً من حياتي في صفوف الحزب الشيوعي الذي ما زلت مؤمناً بأفكاره، وفق رؤيتي الخاصة، كان لا يكف عن القول: إبراهيم نحن نعدك رفيقاً لنا في الحقوق، لا في الواجبات، وهو كلام لم أسمعه من أي قائد سياسي، من قبل، بهذا العمق، وبهذه البساطة،والصدق، بالرغم من أنني كنت على علم تام بأن “بعض” النمّامين من حوله، كانوا يريدون نسف علاقاته بالكتاب، أجمعين، لينظر  من خلالهم إلى العالم أجمع، وأنى لهم ذلك؟.
وإذا كنت أتناول-هنا- شخصية أبي شيار، من خلال علاقتي الشخصية به،حاذفاً الكثير الكثير مما دونت، هنا، وهي رؤية وجدانية، فحسب، فإن ذلك لا يمنع من أني أعرف الكثير عنه الكثير، وعن قرب، تماماً، وإن كنت لم أعمل معه في مجال العمل السياسي، بل كنت أدرك أنه ذلك السياسي الذي يعمل بعقل الشيوخ-بل بحكمة الحكماء- وقلب الشباب، ومن هنا، فإن حزب الوحدة- صانه الرب متماسكاً كما عرفناه- ليعد  أحد أكبر الأحزاب الكردية في سوريا، وإن أباشيار كان شعاره في المرحلة الحالية” الحفاظ على الذات وعدم المغامرة، لئلا يلحق الأذى بأي كردي”  وهو من صلب سياسته ضمن المعادلة الوطنية.
لقد تم التدليس على أبي شيار، أكثر من مرة، وثمة ما كان يقوله- ويدفع الضريبة على التزامه بقولة الحق- أكد صوابيته، وإن كنت هنا، أستعرض آراءه، فحسب، بروح حيادية، وهي أمور حبذا لويتاح لنا أمر تدوينها، مادام أنه لم يقصر في الدفاع عن أصدقائه، والمناضلين في وجه بائسي الحوار والمهزومين.
مؤكد أن الحركة السياسية الكردية في سوريا، بل والحركة السياسية السورية-عموماً- قد خسرت برحيل إسماعيل عمر، أحد أنبل وأنقى وأطهر الساسة الوطنيين، على الإطلاق، وأكاد لا أجد إلا قلة نادرة قد تتمتع بخصال هذا القائد الاستثنائي، كأحد قديسي السياسة- وإن كان يدفع كثيراً ضريبة طهرانية روحه وبراءتها-  بعيد الرؤية، متروياً في مواقفه، استطاع أن يكون رقماً تنظيميا ًصعباً في النضال السياسي السلمي، الوطني، من دون أن يساوم-مثقال ذرة- على إنسانه، بل ومن دون أن يجعل من موقفه وسيلة موقوتة للدعاية الحزبية، أو الشخصية ، بأشكالها المتعددة المرفوضة في عرف هذا الرجل الشاهق كجبل كردي.

-غداً، ستكون قامشلي ناقصة،  بعد غياب  نجلها البار، الوفي،إسماعيل عمر.
  وغداً، فإن الرقم المدون في هواتفنا باسم أبي شيار، سيظل بارداً، لن يرد، وسيحس كل بيت كردي أن فرداً منه  قد غاب وإلى الأبد.
غداً: أول يوم في صفحة قامشلي  من دون أبي شيار
غداً أول يوم في تاريخ كرد سوريا من دون أبي شيار

 وداعاً أبا شيار-  معملي- وصديقي، ولكم يعتصر الألم قلبي لأن مسافة  أربعة آلاف كيلومتر، تبعدني عن الأهل والأصدقاء، وهم يشيعونك إلى مثواك الأخير، في مسقط رأسك –قره قوي- التي عزيناك فيها أكثر من مرة، برحيل أبيك، وأمك،   وإن كنت في قرارتي أريد أن يكون ذلك في إحدى مقابر قامشلي، التي أحببتها منذ مطلع شبابك، حتى آخر نبضة في قلبك الذي أتعبه حب الأهلين ومواجعهم.
طوبى لتراب قره قوي يحتضن ذلك الجسد الطاهر
طوبى لروحك التي لم تهدأ من أجل أهليك
طوبى  لأبويك اللذين ستحل ضيفاً عليهما في صباح يوم غد الثلاثاء
طوبى لك  مؤدياً رسالتك على أكمل وجه.
وصبراً، لنا جميعاً، ونحن نضطر أن نتهجى غيابك الصافع المرير..!

عصر
18-10-2010

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…