لا تدع الحجل وحيداً.. إلى صلاح برواري

مسعود عكو

ظننت أنك ستكبر وتكبر في العمر، حتى تشيخ فيجتمع حواليك أصدقاءك الكثر، وتتناقش معهم في قضايا لغوية وثقافية وفلكلورية. ظننت أنني سألتقيك ثانية في “دمشق أو دهوك” ذات مرة، ونضحك على أخر “نكتة” أقولها لك عن “الأشيتية والغربية”، ظننت بأن الموت قد ينساك الأن. لكن كان الخطأ ظني، لأعلم منك عبر بريدك الإلكتروني أنك رحلت، رسالة قصيرة مليئة بالحزن، كلمات قليلة مفعمة بالآسى، يقول نجلك “آلان” بأنك رحلت إلى بارئك فرحلت معك كل تلك الأماني.
صلاح برواري الكردي الأصيل كالجودي وهمرين، المناضل في صفوف البيشمركة، الصحفي، الكاتب، الشاعر، الصديق الطيب، رحل في ليلة شتاء باردة، بعد أن ترك حصانه الجامح وحيداً، حصان اللغة والثقافة الكردية، والأدب العربي الذي نال منه كما نال من حليب أمه. صلاح برواري يرحل ليترك الحجل وحيداً يقبقب في روضة الكلمات، فأمست الكلمات وحيدة والقصيدة يتيمة.

لم أودعك صلاح عند رحيلي عن بلادي، وآثرت ألا اتصل بك عندما علمت بأنك سقيم بذاك المرض الخبيث، لم أكن أريد أن أعزيك في حياتك، وها أنا ذا أعزيك في مماتك، هذه العلة التي أعيت الكثيرين غيرك، كثيرون رحلوا مثلك، ومنهم ينتظر الرحيل. أجدني الأن أودعك يا صلاح، بل أودع كلماتك وروحك، فجسدك فارق الحياة، وأنا بعيد عنك حتى أنني لا أستطيع حضور لحدك، فسامحني يا صلاح وأنت خير من يسامح.

سنوات عديدة قضيناها سوية عندما عملت لدى “مكتب إعلام الاتحاد الوطني الكردستاني” كمراسل لهم في دمشق، تكلمنا كثيراً في مكتبكم الكائن في منطقة “المزرعة” في دمشق بالقرب من جامع الإيمان، المكان الذي يضم مئات الكتب، خلاصة حياتك الثقافية وترحالك في بحور الأدب وميادين السياسية التي خضتها مناضلاً شجاعاً ضد الطغاة في العراق، ومناصراً لقضايا أخوتك الكرد في كل مكان، المكان الذي سيشهد دائماً على ثقافتك الواسعة وغناك الأدبي والشعري.

لم أكن أتصور أني سأكتب في رثاءك، فلم يخطر ببالي قط بأنك سترحل بهذه السرعة، وما يزال قلمك يكتب الكثير من الأدب، ويجمع الكثير من الكلمات والمفردات لتضمها إلى قواميس عدة كانت مخطوطات لديك. ترحل وما تزال القصائد تنتظر من يكتبها إلى النساء اللائي ينتظرن جمال وصفك وحسن تعبيرك، إلى الجميلات التي سيحزنن لا محال على رحيلك.

لكن يبدو أن القدر دائماً أقوى منا جميعاً، فخطفك في عز عطائك، وأمسينا على رحيلك محزونون، فلا سراج يدوم إلى النهاية ولكن ما ظني سراجك سينطفئ بهذه السرعة، فلا مرد لقضاء الله وليسكنك الباري فسيح جنانه، واعلم يا صلاح بأننا سنشتاق إليك دائماً، وسنحكي للكثيرين عن قصصك الجميلة، فنم بسلام ولتخلد روحك في الجنة. وأملي أنك لم تدع الحجل وحيداً يطير في السماء، باحثاً عن العشق والقصيدة والجمال.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

قيل إن المخيم لم يُبنَ على أرضٍ عادية، بل على فراغٍ قديم ابتلع قرى وذاكرات.

من يعبر بوابته لا يعود كما كان؛ فالزمن هناك يسير مكسورا، والساعات المعلقة على جدران الخيم لا تعطي التوقيت ذاته، وكأن كل خيمة تعيش في ساعة مختلفة. بعض الناس فقدوا أسماءهم، وآخرون استعاروا أسماء غيرهم. وفي مساءٍ لم يُعرف تاريخه،…

صبري رسول

ولدت الفنانة الكردية السوفييتية سابقاً، في 1945 في قرية ألكز Elegez في أرمينيا. تنحدر من عائلة فنية وطنية غنت أغنيات فلوكلورية مع مجموعة واسعة من الفنانين كمريم خان، سوسيه سموم وآرام ديكران، ١٩٩٧/٢/٢٥ ظهرت بشكل مباشر للمرة الأولى في قناة مد تيفي في 25 شباط 1997 وهي مثقفة ومناضلة، كان اختصاصها في الدراسة…

في حضرةِ الشعر، حيث يتناسلُ المعنى من رمادِ الكلمات، وحيث يشعلُ الحرفُ فتيلَ الوجود، يولد هذا الديوان: جحيم الأمل.

ليس عنواناً عابراً ولا استعارةً تلقى على عتبة الصدفة، بل هو صرخةٌ تتناوبُ فيها النارُ والندى، وتتعانقُ فيها خيبةُ التاريخ مع شغفِ الإنسان الذي لا يعرفُ الاستسلام.

“جحيم الأمل” انعكاسٌ للروح حين تلقى في أتونِ الأسئلة الكبرى، في…

عِصْمَتْ شَاهِين الدُّوسَكِي

يَقُولُونَ

: لِمَاذَا تَكْتُبُ قَصَائِدَ حَزِينَةً

دَمْعُ هُمُومٍ مَآسِي رَهِينَةٍ

قُلْتُ : مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ

مَنْ جَمَعَ الْبَشَرَ عَلَى السَّفِينَةِ

قَالُوا : حِكَايَاتٌ رِوَايَاتٌ

قُلْتُ : تَوَارَثْنَا الْعُرَى

نَمْشِي عَلَى أَرْضٍ جَرْدَاءَ قَرِينَةٍ

هَذَا الْوَطَنُ

كُورٌ فِيهِ كُلُّ الْأَجْنَاسِ رَغْمَ أَنِينِهِ

عَرَبٌ أَكْرَادٌ مَسِيحٌ تُرْكْمَانٌ صَابِئَةٌ

بِأَلْوَانِ بَنَاتِهِ وَبَنِينِهِ

مِنْ حَضَارَاتٍ ذَهَبٍ وَصُولْجَانٍ

وَفُرْسَانٍ وَقَادَةٍ

تُخْرِجُ الْأَسَدَ مِنْ عَرِينِهِ

………….

ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُ الْمَآذِنِ

دُقَّتْ أَجْرَاسُ الْكَنَائِسِ

وَتَجَلَّتْ أَلْوَاحُ السَّمَاوَاتِ

طَافَتْ وَهَبَّتِ الْفَيْضَانَاتُ

عَلَى الْخَنَاجِرِ…