تذهب كلمة ” تحولات ” جهات التغيّر ، ما يضعنا في قلب المًُكابدة ، وينأى بنا عن مفهوم الانعكاس ، الذي قد يشي بعمليّة ميكانيكيّة تقوم على نقل الواقع أو تصويره ، وهذا – على نحو ما – يُفقد المادة الحياتيّة – في أبعادها المُتشابكة – تنوّعها وتشظيها الباذخين ، كما يُفقد الأدب – في تعبيره عنها ، أو اشتغاله عليها – ثراه وتباينه ، فما هي طبيعة التطوّر الذي ساسَ الخطاب السرديّ العربيّ بداية ، والسوريّ في المقام الرئيسيّ !؟ وهل لهذا التطوّر أن ينأى بنفسه عن اندياح السياسيّ على الحقول الأخرى ، أي على الاقتصادي والاجتماعيّ و – من ثمّ – الثقافيّ !؟
هذا هو المناخ العام الذي أحاط بإنتاج روايتي الأولى “فوضى الفصول” ، ناهيك عن اشتغال شبيه بما جئت عليه في مجموعاتي القصصية ، وسأشير إلى ما لي وما عليّ في هذا الإطار ، وسأبدأ بالسلبيّ ، لأقول بأنّني كغيري من الروائيّين وقعت في مطبّ التاريخيّ ، بسبب ممّا أتيت عليه من تمفصل السياسي بالاجتماعيّ والاقتصاديّ والثقافيّ مع هيمنة لمصلحة الأوّل ، ذلك أنّ زمن الرواية يتحدّد بين الفترة التي أعقبت الاستقلال وثمانينات القرن الماضيّ ، هذا شبيه باشتغال خيري الذهبي – مثلاً – في “ملكوت البسطاء” و ” طائر الأيام العجيبة ” أو اشتغال نبيل سليمان في ” مدارات الشرق ” أو اشتغال هاني الراهب في ” الوباء ” أو اشتغال وليد إخلاصي في ” الحروف التائهة ” أو اشتغال حيدر حيدر في ” الزمن الموحش ” !
صحيح أنّني قمت بجهاد النفس على حدّ تعبير الراحل إلياس مرقص ، فتخلّصت – أو حاولت – من آرائي السياسيّة المُسبقة ، وتأمّلت في المشهد الكليّ ، لأصل إلى استنتاجات منطقيّة – بحسبي – ووطنية ، ذلك أنّ الشخصيّة المحوريّة عندي – على المُستوى الواقعيّ – ستصل إلى ضرورة إعادة النظر في تجربتها الحياتيّة ، وفي هذا المُستوى ستتساءل إن كان ثمّة في العمر مُتسّع !؟ ربّما أنّها لكي تبدو مُقنعة ، كان عليها أن تتمرأى كشخصيّة من لحم ودم وبلغم ، ولكن – وعلى مُستوى النمذجة – كان المُؤدى – كمقولة مُتوخاة – هو أنّ التيارات السياسية الرئيسة – يميناً ووسطاً ويساراً في قراءتها للمرحلة – مُطالبة بإعادة النظر في خطابها !
والآن .. ما هو جديدي الذي قد أبرّر به كتابتي لتلك الرواية ، هذا إذا أخذنا الجدة والفرادة كمقياس !؟ وفي الإجابة سأزعم بأنّ الحديث الشخصيّ عن الصدق في خطابي الروائيّ غير وارد ، ذلك أنّ الإقرار به – أو نفيه – شأن الآخرين ، بهذا المعنى سينصبّ الاختلاف – إن كان ثمّة اختلاف – على الرؤى لا على النوايا ، هذا بداية !
أمّا إذا تحرّينا في الأبنية الفنيّة ، فإنّ الرواية في حدود قراءاتي المتواضعة هي الوحيدة التي جاءت – بمُجملها – عبر ضمير المُخاطب ، ربّما أكون قد حرمت الشخصيات الأخرى حقها في التعبير عن نفسها ، ذلك أنّها تقدّمت من خلال الشخصيّة المحوريّة ، أي كما تراها هي .. لا كما هي عليه تماماً ربّما ، وأنا – اليوم – أخاف أن أصادف إحداها ، فتذكّرني بالغبن الذي وقع عليها ، مُدّعية بأنّها لو أتيح لها أن تتكلّم ، إذن لعبّرت عن نفسها بشكل مُغاير ، لقد تغيّرت الكثير من رؤاي الفنيّة والفكريّة ، إذ تصرّم على صدور الرواية أربعة عشر عاماً ، مُؤكّد أنّني لا أروم النتنصّل من تبعاتها ، فهي جزء من تاريخي الشخصيّ ، لكنّ التطوّر سمة افتراضية مُلازمة ، خاصة في حالة الكاتب ، بما هو فنان !
وفي جانب آخر سأزعم بأنّني اشتغلت على المكان بشكل خاص – على الأقل على مستوى التنفيذ – ، إذ حاولت أن أترسّمَ تأثيره في شخوص العمل ، لقد أردت أن أسرّ للقارىء على نحو حميم بأنّ أمكنة فظة في مناخاتها .. شحيحة في ألوانها ستنتج – بالضرورة – أناساً قساة ، بيد أنّ ما تقدّمَ ككلّ أضحى قيد ماض بعيد نسبياً ، فلقد ساس تطوّر مُذهل الأبنية الفنيّة والتقانات لهذا الجنس ، ما يفترض اشتغالاً مُختلفاً اليوم !
لقد شهد النصف الثاني من القرن الماضي تحولات دراماتكيّة في اللوحة العالميّة ، فإذا بالاتحاد السوفياتي – في معرض انهياره – يترك أوروبا الشرقية تذهب لحال سبيلها بداية ، ثمّ يتفكّك هو نفسه لاحقاً ، كان واضحاً للعين المُتحريّة بأنّ الولايات المُتحدة الأمريكيّة صاعدة لتسنّم زعامة العالم منذ نهايات الحرب الكونيّة الأولى ، وما القنبلتان النوويّتان اللتان ألقيتا على هيروشيما وناغازاكي – بلا داع – إلاّ إعلاناً لتوكيد تلك الزعامة !
واليوم – وبعيداً عن صدام الحضارات كما جاء على لسان صموئيل هنتغتون ، الذي رأى في الولايات المُتحدة منطقة صدع – ستتحصّل امبراطوريّة مُعاصرة على قوة لم يسبق لأيّ امبراطورية أن تحصّلت عليها عبر التاريخ في مفاصله المختلفة ، لتعمل – من ثمّ ، حالها في ذلك حال الامبراطوريات كلها – على تحقيق حلمها في الهيمنة على العالم ، فتبدأ بأمريكا اللاتينيّة – أي بحديقتها الخلفيّة كاصطلاح دارج ومُهين – عبر إبعاد النفوذ التقليديّ لأسبانيا والبرتغال عنها ، وبالمعاني كلها ستكون النتائج كارثيّة على تلك البلدان ، ابتداءً بجمهوريات الموز – في تداعيها المُدويّ – وانتهاء بالبرازيل – الدولة القارة – التي تهاوت قطاعات الزراعة والصناعة والتعليم والصحة فيها ، على إثر إعادة هيكلة اقتصادها وفق مُقتضيات / أو مُتطلبات الاقتصاد الأمريكيّ !
وفي حلقة ثانية ستيمّمُ وجهها نحو أوروبا المُثخنة بجراحها ، غبّ أن خاضت حربَيْن كونيتيْن ، لتتفتق عبقريّتها عن مشروع ماريشال المعروف ، الذي تبدّى عن رهافة إنسانيّة بالغة في مظهره الأوّل ، لكنّه – في أسّه البراغماتي العميق – يندرج في استحالة تصوّر أمريكا مُزدهرة من غير أوروربا قادرة على الاستيراد والتصدير ، في ما بعد كان يكفيها أن تلوّح بالخطر القادم من الشرق لتسارع إحدى عشرة دولة أوروبيّة إلى الانخراط تحت رايتها ، فيتأسّس حلف شمال الأطلسيّ لأغراض دفاعيّة ، بيد أنّ احتلال أفغانستان سيسقط ورقة التوت هذه ، وسيكمل احتلال العراق تمام الصورة ، فيتكشف عن حلف يتجاوز وظيفة الدفاع ، ليس إلى الهجوم فحسب ، بل إلى تحقيق مصالح الولايات المتحدة عبر العالم !
إنّ من يتأمّل خارطة أوروبا السياسيّة ، سيعرف كيف ترتبت أوراقها ، بشكل يمنع قيام أي تقارب / أو وحدة مُحتملة بين دولها ما أمكن ، أي بشكل يمنع تشكّل قطب آخر ، وما منطقة البلقان التي ضمّت شعوباً شديدة الكراهية لبعضها في كيان سياسيّ واحد إلاّ مثالاً بالغ الإفصاح عمّا نزعمه ، ثمّ أنّ احتلال أفغانستان لا يبعد في أحد وجوهه عن الوقوف بوجه قطب آخر – مُحتمل – يجمع روسيا – المُتحصّلة على ثاني أكبر ترسانة نووية في العالم – إلى الصين الناهضة والهند ، غير بعيد عن تجمّع الآسيين المدعومة من اليابان !
بقي عليها أن تبعد النفوذ التقليدي لانكلترة وفرنسة عن كلّ من آسيا وأفريقية ، وهذا بالضبط ما قامت به لاحقاً ، وما يجري من صراع على امتداد قارة أفريقية إن هو إلاّ تصفية لبقايا النفوذ الفرنكفوني هناك !
حق تقرير المصير .. السيادة على الثروات الوطنية .. على المياه الإقليمية .. الدولة الوطنية ، وسوى ذلك من شعارات كنا قد تربّينا عليها أضحت / أو تكاد تضحي قيد ماض راح ينأى إذن ، وها هي رياح العولمة في وجهها الاقتصادي المُتوحّش يرسم ظلّه الثقيل على حاضر الدول ومُستقبلها ربّما ! اتفاقية ” الغات ” ، وإخضاع الدول بشكل مُضمر / أو مُعلن لشروط البنك الدولي ، ما يعني تخلي الحكومات عن دور الراعي لمواطنيها ، وتركها لعراء الرأسمالية المديد ، تآكل الشرائح الوسطى ، بشكل يؤدّي إلى تغيّر بنيويّ في التركيبة الاجتماعيّة التقليديّة لكثير من بلدان العالم المُخلّف ، ويطرح أسئلة مُقلقة عمّن سيحمل مشاريع التغيير في غيابها ، أو عمّن سيُنتج الخيرات المادية للمُجتمع ، ويستهلك – من ثمّ – الثقافة والفنون !؟