«كنْ ناراً ولا تكنْ حريقاً»

آمال عوّاد رضوان

السّياسةُ وما يدورُ في دواليبِها مِن تناقضاتٍ ترعبُنا، تُلاحقنا بأحداثِها ويوميّاتها الّتي لا مناصَ منها، فهل للسّياسةِ دينٌ وقِيمٌ وعقائدُ، أم هي فنٌّ يَستخدمُ الطّرقَ الملتويةَ، لاستباحةِ المُحرّماتِ بفتاوى مدنيّةٍ ودينيّة، تُبيحُ المحظوراتِ وتتجاوزُ الخطوطَ الحمراء؟
يأتي القولُ العربيُّ بسَماحتِه:

“السّياسةُ هي استجلابُ مَحبّةٍ خاصّة بإكرامِها، واستعبادُ العامّةِ بإنصافِها”.

ويؤكّدُ د. حسن مصعب هذا بقولِهِ:
“إبراهيمُ وموسى وعيسى ومحمّدُ سياسيّونَ بقدْرِ ما هُم رُسُل وأنبياء، وقد مارَسَ كلٌّ منهم السّياسةَ وهو يُبشّرُ بالرّسالة”!

 بينما؛
يردُّ فولتير مستغربًا: “إنّ السّياسةَ يجبُ أن تُبنى على وقائع”!
وهل الوقائعُ كما يقول سان سيمون:
“السّياسةُ فنُّ الظّفرِ بالمالِ مِنَ الأغنياءِ، والتّأييدِ مِنَ الفقراءِ، بحُجّةِ حمايةِ أحدِهما مِنَ الآخَر”؟  يردُّ فاليري:
“السّياسةُ فنٌّ يَمنَعُ النّاسَ عنِ التّدخّلِ بما يَعنيهم”!
ويتهكّمُ القولُ الأمريكيّ:
بل؛ “السّياسةُ فنُّ الخداع، تجدُ لها ميدانًا واسعًا في العقول الضّعيفة”!
ومِنَ القطبِ الآخرِ يُهرولُ غورباتشوف معترضًا:
“السّياسةُ حربٌ دونَ سفْكِ دماء، والحربُ سياسةٌ دامِية”، والمثلُ الرّوسيُّ يقول، “تاجُ القيصرِ لا يمكنُ أن يَحميَهُ مِنَ الصّداع”!
قيصر وإمبراطور؟
هذا كان وولّى، واليوم معظمُ دولِ العالمِ تعيشُ في ظلالِ أنظمةٍ ديمقراطيّةٍ نيابيّة، بعدَ أوّلِ نموذجٍ لحكومةٍ ديمقراطيّةٍ في القرن السّادس عشر، بتأسيسِ الزّعيم الهنديّ الأحمر ديكاناويدا عصبةَ أمم آيروكولس، والّذي أثّرَ على الفلاسفةِ البريطانيّينَ والأمريكان والفرنسيّين، فهل هذهِ الأنظمةُ مجرّدُ أنظمةٍ شكليّة؟ ثمّ؛ ما الفرقُ بينَ رجلِ الدّولةِ وبين السّياسيّ؟
يردّ القولُ الأميريكيّ: “يَعتقدُ رجلُ الدّولةِ أنّهُ مُلْكٌ للأمّة، ويَعتقدُ رجلُ السّياسةِ أنّ الأمّةَ مُلكٌ له”، ويُعقّبُ تشرتشل:
“وأنا أسيرُ في إحدى المقابرِ رأيتُ ضريحًا كُتبَ على خامتِهِ:
(هنا يرقدُ الزّعيمُ السّياسيّ والرّجلُ الصّادق …….)، فعجبتُ كيفَ يُدفنُ الاثنانِ في قبرٍ واحد”!
لكن؛
لا يمكنُنا أن نغفلَ أو نتغافلَ؛ فللشّعوبِ حقٌّ في اختيارِ رؤساءِ جمهوريّاتِها وممثّليها وسياسيّيها، فأينَ الخللُ في التّغييرِ السّلميّ؟ ولماذا هو معضلةٌ؟
يهتفُ الممثّلُ شارلي تشابلن بصمْتِهِ الإيمائيّ السّاخر: “الجوعُ لا ضميرَ له”!
ويعلو صوتُ ميرابو: “إنّ جميعَ مشاكلِ السّياسةِ تخرُجُ مِن حبّةِ القمح”!
فتصحّحُ قولَهُ الأمُّ تيريزا: “هناكَ كثيرٌ مِنَ الجوعِ في العالم، ليسَ للخبزِ، بل للحُبِّ والتّقدير”! ويصلُنا صوتُ عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهّه:
“ما جاعَ فقيرٌ إلاّ بما منع به غنيّ، فالعاملُ بالظّلمِ والمُعينُ عليهِ والرّاضي بهِ شركاءُ ثلاثة”!
يردّ الفيلسوفُ الهنديُّ طاغور:
“لا تستطيعُ أن تقلعَ عبيرَ زهرةٍ، حتّى ولو سحَقتَها بقدَميْك”!
ولكن؛
ألا يُمكنُ نزْعُ سلطةِ القانون مِن يدِ نوّابِ البرلمان بحسبِ الدّساتيرِ الدّيمقراطيّةِ إلاّ بثورة؟
فتقولُ “معجزةُ الإنسانيّةُ” هيلين كيلر:
“مَن يشعرُ برغبةٍ لا تُقاوَمُ فى الانطلاق، لا يَستطيعُ أبدًا أن يرضى بالزّحف”!
ويصرخُ أبو القاسم الشّابيّ: إذا الشّعبُ يومًا أرادَ الحياة/ فلا بدَّ أن يستجيبَ القدَر!
ويردُّ المجاهدُ اللّيبيُّ عمر المختار مِن خلفِ المدى:  
إنَّ الظّلمَ يجعلُ مِنَ المظلومِ بطلاً، وأمّا الجريمةُ فلا بدَّ مِن أن يرتجفَ قلبُ صاحبِها، مهما حاولَ التّظاهرَ بالكبرياء، ومَن كافأ النّاسَ بالمكرِ كافؤوهُ بالغدرِ، والضّرباتُ الّتي لا تقصمُ ظهرَكَ تُقوّيك، فلن نستسلمَ.. ننتصرُ أو نموت”!
على رُسْلكَ….
ألا تخشى أن يكونَ أوّلَ الغضبِ جنونٌ وَآخِرَهُ ندمٌ؟
يردّ لتزاروس: “حينَ يتحرّجُ الموقفُ، لا تطلبُ النّاسُ أمهَرَ السّياسيّينَ بل أقواهُم، والسّياسيُّ المُحتقَرُ اليوم، قد يكونُ رجُلَ السّاعةِ غدًا”.
ولكن؛
لماذا ترضى الشّعوبُ بالظّلم، ولديها الحقُّ الدّيمقراطيُّ والمفتاحُ الشّرعيُّ بتغييرِ قفلِ البرلمانِ والسّلطاتِ التّمثيليّةِ مِن خلالِ الاقتراع؟
يوجزُ توفيق الحكيم الوجعَ: “لا شيءَ يَجعلُنا عظماءَ غيرَ ألَمٍ عظيمٍ، والمصلحةُ الشّخصيّةُ هي دائمًا الصّخرةُ الّتي تتحطّمُ عليها أقوى المبادئ”!
وكأنّي بفنّانِ الشّعبِ سيّد درويش تبلُغُهُ الأصواتُ ثائرةً تقضُّ مضجَعَهُ، فيعلو صوتُهُ الثّوريُّ مِن خلفِ عقودٍ ولّتْ منذ 1919 ليُغنّي إيمانَهُ:
قوم يا مصري/ مصر دايمًا بتناديك/ خد بنصري، نصري دين واجب عليك/ يوم ما سعدي راح هدر قدّام عينيك/ عد لي مجدي اللّي ضيّعتُه بإيديك/ إيه نصارى ومسلمين قال إيه ويهود/ دي العبارة نسل واحد م الجدود/ ليه يا مصري كلّ أحوالك عجب/ تشكي فقرَك وانت ماشي فوق دهب/ مصر جنّة طول ما فيها انت يا نيل/ عمر إبنك لم يعيش أبدًا ذليل! 
وتنتقلُ عدوى الأصواتِ متناديةً تتصايحُ، فيهتزُّ صوتُ العندليبِ مُهلّلاً:
الشّعب بيزحـف زي النّور/ الشّعب جبال/ الشّعـب بحور/ بركان غضب/ بركان بيفور/ زلزال بيـشقّ لهم في قبور/ اُنطق وقـول/ أنـا صاحـي/ يــا حــرب والله زمــان/ والله زمان يا سلاحي/ أنا اشتقتلك في كفاحي!
فيقهقهُ الشّاعرُ السّوريُّ محمّد الماغوط مِن وراءِ بلاطةِ قبرِهِ:
“الطّغاةُ كالأرقام القياسيّة، لا بدّ مِن أن تتحطّمَ في يومٍ مِنَ الأيّام”!
وتختلطُ الأصواتُ القديمةُ الحديثةُ مجتمعةً في جلبةِ الظّلمِ ولغطِ الذّلِّ، تستحثُّ الإنسانَ المظلومَ أن يُواصلَ نضالَهُ مِن أجلِ كرامتِهِ وكينونتِهِ: “ما طارَ طيرٌ وارتفعَ، إلاّ كما طارَ وقعَ”!
ومِنَ البعيدِ يكتبُ أحدُ الوُلاةِ إلى عمر بن عبد العزيز يَطلبُ مالاً لتحصينِ المدينةِ، فيجيبُهُ عمرُ قائلاً: “حَصِّنْها بالعدل، وَنَقِّ طريقَها مِنَ الظّلم”. 
ويُدوّي صوتُ الزّعيم الأمريكيّ مارتن لوثر كنج:
“لا يستطيعُ أحدٌ ركوبَ ظهرِك، إلاّ إذا كنتَ مُنحنيًا، فالمصيبةُ ليسَت في ظلمِ الأشرار، بل في صمتِ الأخيار، والظّلمُ في أيّ مكانٍ يُهدّدُ العدالةَ في كلِّ مكان.. الحياةُ مليئةٌ بالحجارةِ فلا تتعثرْ بها، بل اجمَعْها وابْنِ بها سلّمًا تصعدُ بهِ نحوَ النّجاح”!
فيزمجرُ عمر بن الخطّاب هادرًا: “متى استعبدتُم النّاسَ وقد ولَدَتْهُم أمَّهاتُهم أحرارًا”؟‏
وعلى عجلٍ يُجلجلُ صوتُ عبّاس محمود العقّاد:
“كنْ نارًا ولا تكنْ حريقًا”.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صالح جانكو

‏فارس الأغنية البوتانية الجزيرية التراثية والفلكلورية الملحن الموسيقي والفنان الكردي ابن مدينة ديرك ، الديركاوي الأصيل شفكر ميرزا أو( شيفو محمدي صور) كما يسمى في الأوساط الشعبية في محيطه الاجتماعي كلقبٍ إرتبط به منذ طفولته وهو نوع من الإمالة ‏للأسماء في اللغة الكردية التي تستخدم للتحبب ‏واستسهال اللفظ.

‏هذا الفنان الأصيل الذي تشرب هذا الإرث…

عصمت شاهين الدوسكي

 

جئتُ مباركا لكم لست وكيلا

أعماقي شوقا .. نورا جميلا

جئتُ احمل آيات الرحمة

والمودة والأصيل أصيلا

فلا تتركوا الأرض رمادا

تعلنوا نفيرا تكبيرا وتهليلا

” كاوه ” رمز للحلم للحياة

ليس شريعة تتبع بلا دليلا

فالفرح ليس في الألوان

بل في القلب شغف جزيلا

…………

جئتُ بعد أعوام الجفاف شكورا

نمت على الأرض دون حصيرا

أبشر القلوب مطرا ، ربيعا

وتارة من طيب الٱنعام كثيرا

فلا تعجل…

صدرت حديثا رواية قلعة الملح عن دار الزمان للنشر والتوزيع في دمشق للكاتب السوري ثائر الناشف المقيم في النمسا، يناقش النص تحديات الهجرة والاندماج وصراع الهوية والانتماء بين الشرق والغرب.

تتناول الرواية قصة سامي إسماعيل شتيفان فالتر، وهو لاجئ سوري في النمسا، ويعمل في مجال التدبير المنزلي، يتعرّف بحكم عمله الاجتماعي على الدكتور جولد شتاينر…

عبدالجابر حبيب

 

مهلاً يا آذار، قبل الرحيل،

ألا تريد أن تعرف من أنا؟

لأخبرك بكل أحزاني…

أنا نايٌ مثقوبٌ بريحِ المآسي،

كلّما عبرتني النكباتُ،

صرختُ رماداً.

 

في فمي أنينُ ديرسم،

وفي يدي حفنةُ ترابٍ من دموعِ حلبجة،

يا ليته كان تراباً،

بل رمادُ أجسادٍ

ذابتْ تحت سمِّ الغزاة.

 

على كتفي حملتُ الزابَ،

ظننتُه نهراً،

فإذا به مقبرة مفتوحة في ليلِ السليمانية،

وفيهالم تتوقف صرخات الأرواح،

منذ أن كنا أطفالاً.

في دروبِ خانقينَ…