في جمعة آزادي: كأني أشم رائحة القامشلي

حسين جلبي

إنها القامشلي.
أزعم بأن لا أحد أحبها مثلي، بل إني متأكد من ذلك.
تغيرت عواطفي و تقلبت آلاف المرات، لكنها بقيت المركز الذي دارت حوله كل التقلبات.
تكاد لا تفارقني، فهي تسكنني، لا بل أشعر بأني لم أغادرها.

كنت عندما أسافر لبعض الشؤون، أبقى قلقاً لعدة أيام، أشعر بفراغٍ موحش في الجهة اليسرى من صدري، كنت خلالها على وشك أن أترك كل شئ، و أصعد في أول حافلة لأعود إليها، أيام الإمتحانات الجامعية الطويلة في دمشق كنت أقرر كل لحظة الفرار، أرسم مخطط الإنسحاب من معركة الإمتحانات، و العودة إليها مهزوماً أجرجر أذيال الشوق،
 لكني كنت أخشى النظر في عينيها، رغم أني أشعر بهما كعيني العذراء، يملؤهما الغفران، و عندما كنت أعود، و كانت الحافلة في أواخر لهاثها، تدير ظهرها لكل الجنوب، كانت نسائمها تملأني، و لكن عندما كنت ألمح جسر المطار أحس بأني أنقذت من نار البعد عنها، أشعر عندما أقطعه بالفوز في سباقٍ ماراثوني طويل، و بذراعيها المفتوحتين تقدم لي أطواق الغار، كانت الجمرات تبقى رغم ذلك في قلبي، تشعله في اللحظة ذاتها التي تتنفسني فيها.

كم حلمت بها طوال سنين الغربة، آلاف الأحلام، يكاد لا يمر يوم دون حلم، تضيق الذاكرة كل يوم لكن تحتفظ بها، ويتسع القلب لكل تفاصيلها، لها كلها النهاية ذاتها، لكن منذ شهور تتوضح النهاية أكثر، أراها تقترب حتى أني أكاد ألمسها.
مرت الأيام و الشهور و السنين، لم يتغير أي شئ في علاقتي بالقامشلي، سوى حبي لها و شوقي إليها، فقد كبر هذا الحب و إزداد هذا الشوق. بقيت أتساقط أخبارها من كل من زارها، يقولون أنها كبرت و تغيرت، لكنها بالنسبة لي تبقى تلك الصغيرة التي تركتها، تسير حافيةً مغبرة القدمين، تفشل في جدل شعرها.
أنظر في هذه اللحظة الى الأحجار الثلاثة الموضوعة على طاولتي، تلك التي أحضرها لي أحدهم من القامشلي، ألمسها كعادتي كل يوم، لإتأكد أنها لم تكن خيالاً، إنها أحجار جنتي و جحيمي، لم تفقد هذه الأحجار بريقها، أشعر كلما وقعت عيني عليها أني أرها لأول مرة.
تقترب مني القامشلي لحظةً بعد أخرى، في جمعة آزادي أشعر بأن الماراثون قد وصل إلى نهايته، تهب على قلبي نسائمها، نسائم الحرية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

حين وقعت بين يديّ المجموعة الشعرية “مؤامرة الحبر، جنازات قصائد مذبوحة”[1] للشاعر فرهاد دريعي، وأردت الكتابة عنها، استوقفني العنوان طويلاً، بدا لي كمصيدة، كمتاهة يصعب الخروج منها فترددت في الدخول، لكن مع الاستمرار في القراءة وجدت نفسي مشدوداً إلى القصيدة الأولى بما تحمله من غنى وتعدد في المستويات، فهي تكاد تكثف فلسفة…

فراس حج محمد| فلسطين

لا أقول صدفة، فأنا لا أحبّ موضوع الصدف، ولا أومن فيه، لكنّ شيئاً ما قادني إلى هذا الكتاب، وأنا أتصفّح أحد أعداد جريدة أخبار الأدب المصريّة (عدد الأحد، 26/10/2025)، ثمّة نصّ منشور على الصفحة الأخيرة لـ “نجوان درويش”، بعنوان “بطاقة هُوِيّة”، لوهلةٍ التبس عليّ الأمر فبطاقة هُوِيّة اسم قصيدة لمحمود درويش، وهي…

مصطفى عبدالملك الصميدي/اليمن*

تُعدّ ترجمةُ الشَّعر رحلة مُتفَرِّدة تُشبه كثيراً محاولة الإمساك بالنسيم قبل أن يختفي سليلهُ بين فروج الأصابع، بل وأكثر من أن تكون رسماً خَرائِطياً لألوانٍ لا تُرى بين نَدأَةِ الشروق وشفق الغروب، وما يتشكل من خلال المسافة بينهما، هو ما نسميه بحياكة الظلال؛ أي برسم لوحة المعاني الكامنه وراء النص بقالبه…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

تَتميَّز الرُّوحَانِيَّةُ عِندَ الكاتب اللبناني الأمريكي جُبْرَان خَليل جُبْرَان ( 1883_ 1931 ) بِعُمْقِها الفَلسفيِّ، وقُدرتِها عَلى تَجاوزِ الماديَّاتِ ، والتَّعبيرِ عَن الحَنينِ إلى مَا هُوَ أسْمَى وأرْقَى في النَّفْسِ البشرية . وَهُوَ يَرى أنَّ الرُّوحَانِيَّة لَيْسَتْ مُجرَّد شُعورٍ أوْ طُقوسٍ تقليدية ، بَلْ هِيَ حالةُ وَعْيٍ مُتكاملة…