سيرورة الغضب

جهاد أسعد محمد

النافذة المحايدة الصغيرة، المطلة على الساحة الصغيرة، في قلب تلك البلدة الصغيرة رأت كل شيء. الساحة الضيقة الصغيرة، الواقعة في قلب تلك البلدة الصغيرة شهدت طوال عشرة أشهر كل شيء… البلدة العتيقة الصغيرة التي راكمت ألمها عقوداً طويلة، قدمّت تباعاً وما تزال، كلَّ شيء، كلَّ شيء!.

الجولة الأولى
/ أواخر آذار 2011

نحو مائة شاب مسّتْهم لوثةُ الحرية، انبجسوا على نحو مذهل مع مياه الينابيع من باطن القهر، فتواطؤوا فيما بينهم بصورة ما، وهبوا مع نسائم الربيع.. مروا من تحت تلك النافذة الحيية الصغيرة تسبقهم أصوات قلوبهم الصارخة: “بالروح.. بالدم.. نفديك يا درعا..”، و”الله.. سورية.. حرية وبس..”، وحين تجمعوا في محيط تلك الساحة الصغيرة، في قلب تلك البلدة الصغيرة، انهالت عليهم الهراوات والجنازير والعصي والشتائم من كل جانب.. اقتيد معظمهم إلى العربات الضيقة والمركبات مسيجة النوافذ، وتم إشباعهم لكماً ورفساً وإهانات وتخويناً، وسيقوا إلى الزنازين الرطبة وسط دهشة وتردد وخوف أهليهم وأصدقائهم.. أما من تمكّن منهم من الفرار، فراح يعد العدة لجولة جديدة.
الجولة الثانية/ أوائل نيسان 2011

أكثر من ثلاثمائة شاب وفتاة، يسيرون خلف عشرين مغامراً مضمدي الرؤوس والأذرع، يعبرون من تحت النافذة المترقبة الصغيرة، ويتجمهرون في الساحة الصغيرة، في قلب تلك البلدة الصغيرة صارخين: “الله أكبر حرية”، و”بدنا المعتقلين.. بدنا المعتقلين”.. بينما تعلن المحطة الرسمية ونظيراتها: “مؤامرة.. مؤامرة”.. حاشدة أكبر “حزب” بدائي في التاريخ المعاصر لوطن صغير..
أحد ما يجلس في سيارة سوداء مظلمة النوافذ، يفلت على حين ترصّد خمسَمائة وحش جائع للدم من أقفاص كبيرة، ويدفعهم باتجاه الشبان والشابات.. فيُدمونهم دون رحمة، ويجرجرون معظمهم أسرى إلى باصات كبيرة تم تجهيزها لابتلاعهم، ثم يسوقونهم إلى الزنازين البعيدة وسط تذمّر المتفرّجين، ومحاولة بعضهم للتدخل اعتراضاً أو توسلاً أو استرحاماً…
ملحق أول: سلسلة مداهمات نهارية وليلية تقوم بها دوريات أمنية في البلدة بحثاً عن المتظاهرين الذين أفلتوا من الاعتقال.. يفلح بعضها في تحقيق الهدف، ويفلح البعض الآخر في القبض على أقربائهم وأصدقائهم وإخوتهم.. فيبتزونهم ويعذبونهم ليشوا بمكان تواري المطلوبين.
يندد بعض الثوريين التاريخيين بما يجري بكل ما اعتادوا امتلاكه من أدب ولباقة وتحليل علمي رصين..
 

الجولة الثالثة/ أواخر نيسان 2011

 
نحو ألف شخص من كلا الجنسين ومن كافة الأعمار، يتقاطرون من معظم البيوت والشوارع نحو الساحة الصغيرة في قلب تلك البلدة الصغيرة وسط دهشة النافذة المرتجفة نصف المغلقة، هاتفين: “الموت ولا المذلة”، و”حرية للأبد…” و”واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد”. يحضر الأمن و”الشبيحة” بكامل صلفهم وأدواتهم وهيئاتهم المرعبة، فيتفاجؤون بالكم والنوع.. ولا يتجرؤون على الاقتراب كثيراً من الجمهرة الغاضبة.. يطلقون قنابل الغاز لتفريقهم، ولكن دون جدوى.. يشنون غارات مفاجئة على أطراف الحشد، لكنهم لا ينجحون في أسر  أحد.. يطلقون الرصاص في الهواء علّهم ينزلون الرعب في قلوبهم، إلا أن أحداً لا يتزحزح من مكانه.. يعطي كبيرهم أمراً لاسلكياً خاصاً لرجل خاص، فتصيب رصاصة رأس شاب، ثم قلب آخر، ثم بطن ثالث.. ثم يعطي أمراً آخر لرجال أقل خصوصية، فيصيب الرصاص الأرجل والأذرع والأكتاف.. يحصل هرج ومرج.. وينسحب المهاجمون مؤقتاً.. يحمل السليمون الجرحى إلى مشفى قريب، بمن فيهم من لفظوا أنفاسهم الأخيرة.. يطبق الأمن والشبيحة عليهم مرة أخرى.. يأسرون جثث الشهداء، والجرحى، والمسعفين، والطواقم الطبية.. ويحطمون المشفى فوق رؤوس المرضى وعائديهم والمراجعين!.
ملحق ثان: تنتصب الحواجز الثابتة، العسكرية والأمنية، على جميع مداخل البلدة، وكل من يدخل إليها أو يخرج منها، حتى لو كان “موالياً”، يتعرض للتفتيش أو الإهانة.. أو الاعتقال.
 

الجولة الرابعة/ أيار 2011

 
ألفا شخص من الشباب واليافعين، يذرعون شوارع البلدة الصغيرة، وصولاً إلى الساحة الصغيرة، تهز أصواتهم المجلجلة ستارة النافذة الحزينة التي شهدت المذبحة: “الشعب يريد إسقاط النظام..”، ومعظمهم لديه أخ أو قريب أو صديق، أصبح في عداد المعتقلين أو الجرحى أو الشهداء أو المفقودين.. ترش النساءُ الأرزّ عليهم وبعض الدموع، فعما قليل سينهمر الموت مثل الرصاص.
يقوم الأمن و”الشبيحة” وبعض عناصر الجيش باقتحام البلدة، ويبدأ القتل العشوائي برعاية وتشجيع ودعم الخطابات الوطنية المنددة بالمندسين المتآمرين، وبمباركة الأصدقاء والحلفاء القدامى الذين قدم لهم الشعب المعد للذبح قبلاً، كل ما يستطيعه من احتضان وأدعية ودموع.. وحين يهبط المساء، تشيّع البلدة سرّاً ستة شهداء، أما الجرحى فأقيم لهم مسبقاً مشفى ميداني في إحدى الخرابات النائية، وسيموت نصفهم قبل مرور أيام قليلة لأسباب تافهة.
ملحق ثالث: بشكل ما، يخرج المجرمون، كل أنواع المجرمين، من السجون، ويلتحقون باللوحة الخارجية المعقدة.. ربما لتتسع الزنازين، كل أنواع الزنازين، للطيبين القادمين إليها، فلا ينازعهم عليها أحد.. وربما لسبب آخر!.
تتشكل، أو توشك، معظم الأطر الطارئة، ويعلن كلٌّ منها عن بُعد، أبوته الشرعية للشوارع المنذورة للذبح..
 

الجولة الخامسة/ تموز 2011

 
خمسة آلاف شخص ضاقت بهم الساحة الصغيرة، في تلك البلدة الصغيرة، رأت النافذة المنكسرة، مكسورة الزجاج، أكثر من نصفهم يتوافدون من القرى المجاورة عبر الدروب السرية.. والجميع يصرخ: “الشعب يريد إسقاط النظام”، و”عالجنة رايحين شهداء بالملايين”.. يحضر المدججون من كل صوب، يرتدون أزياء من كل الألوان القريبة من الخاكي، ويعتلي بعضهم أسطح المباني، ويشرعون بمذبحة جديدة.. يسقط فتى يافع مسربلاً بدمه على ذراع أخيه الأكبر.. يهرع الناجي إلى بيته القريب، ويعود بمسدس يفرّغ كل رصاصاته في الجهة التي تنهمر منها نيران المدججين.. ويبدأ فصل جديد.
تحمل المحطات الفضائية “المغرضة” أخباراً مدهشة عن عصيان كلي للمدن الوسطى وإحدى المدن الشرقية.
وتتوالى اللقاءات والمؤتمرات والبيانات الداعمة أو الشاجبة.. والمذبحة تتواصل!
 

الجولة السادسة/ آب 2011

 
يهل رمضان بتراويحه الثلاثين، فلا تخلو مساءات الساحة الصغيرة، في تلك البلدة الصغيرة من آلاف المتظاهرين.. وكل ليلة، تشهد النافذة الصغيرة المطلة على الملحمة العظيمة شهداء وجرحى ومعتقلين ظلوا يصرخون: “الشعب يريد إعدام الرئيس” حتى لاقى كل مصيره..
تقتحم المصفحات والدبابات المدن العاصية، والبلدات الغاضبة، والساحات الكبيرة والصغيرة، ويسمع صوت الرصاص والقذائف من جهة البحر، والبادية، والجزيرة، والحدود التي لا تحد العدو.. ويصبح الموت مثل الصديق الحميم، شريك القهوة الصباحية ونرجيلة المساء، ورفيق الدرب، وبديل الملائكة في ليالي التهجد وصباح العيد..
ملحق رابع: يستلم الكثير من الآباء والأمهات جثث أولادهم الراشدين وفتيانهم اليافعين من بعض فروع الأمن.. معظمهم كانوا قد دخلوا إليها راجلين.
 

الجولة السابعة/ تشرين الأول 2011

 
لا يبقى مارق على وجه البسيطة إلا ويعلن تضامنه مع منتفضي الشوارع والهاربين من بيوتهم وقراهم.. حتى الساحة الصغيرة، في تلك البلدة الصغيرة، تصبح من نجمات “حصاد اليوم”.. تنظر النافذة الصغيرة إلى نفسها على شاشة التلفاز فتدرك أنه لم يتبق من لمسات صانعها إلا ما نسيته المدافع والرشاشات الخفيفة والثقيلة.. ولا تجد وقتاً للحزن، فثمة هتاف سيعلو من تحتها نهاراً إلى السماء: “يا الله ما لنا غيرك يا الله”، وثمة رصاص باتجاهين متعاكسين سيعبر قرب إطارها المزق ليلاً لن تتبين ضحاياه إلا مع طلوع الفجر.. الفجر البعيد…
مئات الأطفال لن يكبروا أبداً.. سيصبحون أساطير..
 

الجولة الثامنة/ تشرين الثاني 2011

 
كل النوافذ الصغيرة والكبيرة، وكل الساحات الكبيرة والصغيرة، وكل المدن والبلدات الكبيرة والصغيرة على امتداد البلاد، تركع بخشوع للنوافذ والساحات في مدينة عظيمة واحدة ليست كباقي المدن التي عمرها البشر بالتواطؤ مع الآلهة على مر التاريخ، وكل الحناجر الفدائية في كل الساحات الفدائية تهتف بصوت واحد: “يا حمص.. نحنا معاك للموت”..
ملحق خامس: تلتقط درعا الذبيحة بعض أنفاسها، وتعود من رحلة الموت أكثر استعداداً للموت، ولا يبخل الاستبداد الرافع لواء الفئوية عليها بالعاجل منه..
يستمر الدعاة، والغزاة القدامى، وطغاة الشعوب الأخرى بإعلان التضامن وإطلاق الإنذارات المتتالية.. والمذبحة تتواصل!
 

الجولة التاسعة/ كانون الأول 2011

 
تجفل النافذة الصغيرة، وهي ترى شبان تلك البلدة الصغيرة والفارين من أوامر القتل، ينصبون الحواجز والمتاريس على كل الشوارع المؤدية إلى الساحة الصغيرة.. بينما الكبار يلهثون خارجها خلف بعض الطعام، وبعض الدفء.. وبينما المتصارعون الكبار على اللحظة التالية يستمرون بالجعجعة..
تخرج المظاهرات الحاشدة محمية ببنادق أرغمها الموت والألعاب الخبيثة أن تصوب فوهاتها إلى الجهة الخاطئة.. يحضر “الأشقّاء” ملونين بالفوسفوري ليستطلعوا الأمر بتوقيت أولي الأمر، فلا يستطيعون التمييز بين القاتل والقتيل..
 

الجولة العاشرة/ كانون الثاني 2012

 
يتابع الموت حصاده للنوافذ والساحات والبلدات والعيون، وتطلق الأيدي النار على صدورها، ويسيل نهر من الدم بات أقرب لأن يستحيل فيضاناً شاملاً..
لا يبدو أي ملمح لأشرعة سفينة نوح في الأفق المعمّه بالدم والغبار… بينما يتابع الحالمون بالحرية، المتروكون لمصيرهم، تضرعهم لنصير قديم: “يا الله ما لنا غيرك يا الله”…
ملحق أخير: النافذة الشجاعة الصغيرة، المطلة على الساحة العظيمة الصغيرة، في قلب تلك البلدة الشهيدة الصغيرة، تصرخ بأعلى نشيجها: “حرية”! فيتلوّن الأفق بالأحمر كليّاً.. وتهطل الدماء..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…