أثر الكاتب ومحاكمة الموت الرّهيب

إبراهيم اليوسف

” يظلُّ حبر القصيدة ينزف في الّرُّوزنامة
يدلُّ القارىء
على شاعر
جميل
يواصل مشاكساته
وفوضاه

العارمة

في هذه المقبرة الهادئة
كي تضجَّ بالأشجار
والصَّدى….
والعصافير…!
         كتابة على شاهدة قبر شاعر

    إن أية قراءة للموت في مفهومه الفيزيولوجي، تجعل الدارس أمام دوَّامة لا تنتهي، من الأسئلة الهائلة التي سرعان ما تظهر، على شكل خيوط، تتمخض عن متوالية من العقد، لأن كل ما يفهم  من عمق  جوهر الموت، لا يكون سوى مدخل إلى دلالات أخرى، دائمة التوالد، ترفع الموت إلى مقام اللغز المحير، لاسيما وأنه قرين اللحظة و المستقبل، كما هو قرين الماضي السحيق، لتكون له ثقافته الخاصة التي تبدأ منذ أول ميتة عرفها الإنسان على وجه البسيطة، منذ الكائن البشري الأول، وحتى الآن،  وإن كنا سنقع في ميتة هابيل على يدي قابيل، ما يجعل القتل سابقاً على الموت الطبيعي.
  إن مفهوم الموت، الذي استأثر اهتمام المفكرين، والفلاسفة، منذ بداية تكوين الوعي البشري، كما استأثر اهتمام الشعراء والأدباء والفنانين، كان يشكل التحدي الأكبر للإنسان، باستمرار، لاسيما عندما يشخص ماثلاً في صدمته الأولى في أذهان هؤلاء، على اعتباره المفترق الرهيب بين برزخي الحضور والغياب، أو الحياة والفناء، مادفع جلجامش للبحث عن “سر الحياة”  “عشبة” أو”ماء”، أو “إكسيراً،  لإنقاذ صديقه أنكيدو، حيث يبدو الموت الأقوى في أية مواجهة، لأنه السر الأكثر جبروتاً، وقهراً، وإن هذا المفهوم نفسه، مدار تناول البشرية، جمعاء، جيلاً تلو آخر،  حيث لايعد أمراً عابراً في عالم أحد، بل إن له رهبته، فهو الهاجس الذي يستوقف كل الناس، وإن كان بعضهم، سيشكل فلسفة خاصة، عبر التفكير في مواجهته، بهذا الشكل، أو الآخر، من خلال تصويره، على خلاف ما هو عليه، وفق شرط ما، كي  يصل الأمرإلى درجة استساغته، في لحظة وجد صوفي، أو سواه.
كما أن هناك قيماً عديدة، استطاع الإنسان استصغار شأن الموت، في حضرتها،  مع تشكيل المنظومة الأخلاقية لديه، وصار من عدادها الذود عن الوطن، أو الحرية، أو الكرامة الشخصية، وهذا ما يتجلى  على نحو خاص، في عالم الشعر، وإن كان الوطن بيتاً، أو حمى قبيلة، قبل أن تتبلور ملامحه النهائية، وخصائصه، ورموزه، وكأن هؤلاء قد تمثلوا توصيف سقراط له على أنه “مجرد فزَّاعة، لا أكثر”،  مادام أنه النهاية الأكيدة لكل كائن حي، إذ يقول كعب بن زهير:
   
         كلُّ ابن أنثى وإن طالت سلامتُه    يوماً على آلة حدباء محمول
وقد يدفع الخوف من شبح الموت بعضهم إلى الاستسلام له، من دون أن يتفاعلوا مع اللحظة الزمانية، بالشكل المطلوب، وهذه مثلبة كبيرة، أدت إلى إجهاض طاقات وإمكانات هائلة لدى بعضهم، إذ راحوا يرفعون أيديهم أمامه، مستسلمين، خانعين، من دون أن يؤدوا أية من المهمات المطلوبة منهم، وهذا طالما استغله الاستبداد، كي يحرف الناس عن  التفكير بتحسين واقعهم الحياتي، والقفز فوقه، ليعيشوا مرحلة ما بعد الموت، وهم أحياء، وفي هذا شلل، وإسفاف،  بطاقات الإنسان الكبيرة التي يمكنه أن يحقق بها المعجزات، وهذا بدوره ما ولد عبر التاريخ، فلسفة خاصة.
 وإذا كانت الحياة، نقيض الموت، فإن الإنسان، هو من يستطيع تحقيق معادلتهما، كي يوازي بين طرفيها، في آن واحد، على خيرنحو، ويمكن هنا، أن نعتبر كل إنجاز إنساني، على صعيد الإبداع الروحي، أو العلمي، أو الحضاري، نتاج العلاقة المتكافئة، بين عناصر هذه المعادلة، ليكون الإنسان  قادراً على التكيف مع البرهية المعيشة، على أحسن نحو، من دون أن يمنى بالهزيمة،أو النكوص، ولعل الإنسان السوي، هومن يقبل على الحياة، ويتفاعل معها، ليغيب في الوقت نفسه شبح الخوف من الموت،  بل ويتعامل معه على أن يؤسس لما بعده، من خلال ترك آثاره، ليتغلب على المحو الذي يتركه الموت، بوساطة تكريس ديمومة حضوره، حتى في ما بعد غيابه، ولعل في تذكرنا الآن، لآلاف الأسماء البارزة، في مجالات الحياة، والمستعصية على المحو، من خلال”ترك الأثر”، يستوي هنا الشاعر، والرسام، والموسيقار، وصاحب الاختراعات الذي قدم للبشرية خدمات هائلة في مجال الكهرباء، أو الهاتف، أو الإنترنت، أو الطب…….. وغير ذلك، فأصبحنا نعرفهم، وكأنهم مواطنون يعيشون بين ظهرانينا، حتى وإن كانت المسافة الزمانية الفاصلة بيننا وبعضهم آلاف السنوات، في الوقت الذي قد لا نعرف فيه من  قد تنعدم المسافة الزمكانية بيننا، إلى حدّ التلاشي.
والموت، باعتباره، الموازي للحياة، فله ثقافته الخاصة، كما أن للحياة ثقافتها الخاصة، ولعل مرد نشوء هذه الثقافة أو تلك يعود إلى أمرين، أحدهما إنساني، عام، وثانيهما يعود إلى خصوصية كل مجتمع، على حدة، وإن كان الموت في نهاية المطاف هو “واحد” حتى وإن “تعددت الأسباب”، وهذه الخصوصة، قد تبدأ برؤية الموت لدى الفرد في المجتمع، أو حتى بكيفية الاستعداد له، وصدى موت الفرد، في من حوله، وهذا ما يتجسد في المدفن، والتشييع، والتعامل مع ذكرى الراحل، ومحاولة استقراء أثره بين الناس، وهو ما تجلى لدى الفراعنة، في  اللجوء إلى عملية “التحنيط” لما في ذلك من مقدرة على أن يكون الأثر الإنساني، أقرب إلى هيئة الميت،أو من خلال التوجه إلى رسم ملامح الميت، على شاهدة القبر، أو في المعبد، أوباب الكف لدى الآخرين.
إن هذا الاهتمام، بأثر الإنسان، هوما كان يصر عليه تولستوي، في فلسفته التي قضت ضرورة أن يترك المبدع أثره، وهو موجود عملياً منذ أول إبداع إنساني، على وجه البسيطة، وكأن روح المبدع، تستمر في إبداعه، ولعلنا جميعاً نشكل تصورات عن شخوص المبدعين، من خلال فنونهم، وإنجازاتهم، حتى وإن كانت بيننا فجوة كبرى، لأن أرواح العظماء من رجالات الأدب، تظهر في ما تركوه لنا، من قيم، وشيم، وأخلاق، ورؤى، وكأننا نستطيع تلمس هذه الأرواح، لتكون هي هؤلاء الشخوص، أنفسهم، وليس ملامح وجوههم، أوأشكالهم، أوصفاتهم الخلقية، ليكون المنجز تحايلاً على الموت، وإحالة إلى الإبداع.
إن البطل الملحمي، وهو يطل برأسه، من الأسطورة، أو الملحمة، إنما تتجلى روحه، من خلال رؤيته، وموقفه، وأعماله الخارقة التي قام بها، حيث يلامس فينا، بالرغم من الفجوة المشار إليها، شغاف القلب، كي  تجعلنا نهتدي بها، أو نسير على وحي مقولاتها، وآرائها، في ما لو كانت صالحة، ما يخلق الأنموذج الذي يؤسس لحاضره، من خلال ماضي هذه البطولة، أو لعله من يبدو، كما في الثورات الشعبية التي تمت من حولنا، صانعاً أنموذجه الخاص، غير المسبوق، لاسيما وإن مواجهة القاتل، المدجج، بكل ركامات الضغينة، والأسلحة الفتاكة، بالإرادة العزلاء، ليعدّ حفراً جديداً، في عالم البطولة، أياً كان صانعها،  مادام أنه يؤسس للحياة، ولكرامة الإنسان، وكسر شرانق ثقافة الخوف والاستبداد.
إن مثل هذا البطل، قد يكون طفلاً وعى واقعه، بأفضل من شيخ طاعن في السن، أو شيخاً طاعناً في السن، ترجم خلاصة رؤيته الحياتية الثرَّة، من خلال التفاعل الميداني، في ساحات التحرير الهائلة التي باتت تفزع آلة الفزع، وتقهرها، بل تجعلها تنهزم، عائدة القهقرى، وكأنها تعلن “نهاية زمن الخوف”، من دون رجعى، ليعيش كائن المرحلة، وهو سيد المكان والزمان، حياته، كما هي، ضمن حديها الطبيعيين، من دون أية سطوة، أو رهبة، أو قهر، أو استعباد، وهذا مايجسد الحلم الإنساني الكبير، بل ويستوي هنا ذلك الطفل، أو الشيخ، بجيل الشباب، بل يستوي كل من الرجل والمرأة في ميزان المواجهة، ككفتين متعادلتين، وهو ما يتيح للثقافة المناقضة للموت، أن تؤسِّس قوانينها التي آن أوان تطبيقها، كما هي حقاً، من دون أي عسف، أوقسر، أو تزوير.
  وإذا كانت القصيدة أثر الشاعر، والقصة أثر القاص، والرواية أثرالروائي،  واللوحة أثر الفنان، والسمفونية أثر الموسيقار، فإن هؤلاء جميعاً، ليشتركون مع البطل الملحمي، في صناعة حلم الحرية، جنباً إلى جنب، ليعالج كل منهم، رؤيته لثنائية الموت والحياة، من خلال منظوره الخاص، منحازاً إلى الحياة، بكل تأكيد، باعتبارها حاضنة الجمال، والحب، وغير ذلك من القيم الأكثر قرباً إلى روح الإنسان.
  كما أن لجوء الشاعر إلى كتابة القصيدة، شأن سواه من المبدعين، أو صنَّاع الحياة، لهو إعلان دائم للانحياز إلى الحياة نفسها، في مواجهة الموت، لتكون القصيدة العلامة التي تحمل رائحة مبدعها، كما أنها تضخ  رئته بالهواء، وعروقه بالدم، وروحه بالتوق السرمدي،  لتكون القصيدة –بهذا المعنى- مطهراً للروح، بل دافعاً لها كي تواصل سموها، شريطة أن تمتلك هذه القصيدة مفاتيح الإبداع، والخصوصية، إلى الدرجة التي يمكن أن نرى فيها أن القصيدة الإنسانية، هي صدى للحياة، وانتصاراً لها، وسجلاً لروح صاحبها، في انكساراتها، وتجلياتها، وأحلامها، وآمالها، وفي إحباطاتها، ونجاحاتها، بل وإن الأكثر غرابة، قد يكمن في أن الحياة نفسها قصيدة، يكتبها الشاعر،جيلاً وراء جيل، منذ بداية التكوين وحتى الآن، وكأننا أمام شاعر واحد، أوحياة شاعرة، كلاهما أزلي….!.
إن  واقع العلاقة بين الموت والمبدع، جعلته يواجهه بطريقة خاصة، مصراً على أن يقهره، من خلال المزيد من الإبداع، ولعل الكاتب سعد الله ونوس،  أسطع مثال، شاخص في الذاكرة القريبة، هنا، حيث كرس السنوات الأخيرة من حياته، وهو في ذروة صراعه مع داء السرطان، كي ينتج أعظم النتاجات الإبداعية، وهذا ما لم يكن ليستطيع أن ينجزه، في وقت قياسي، قصير، يجلس شبح الموت معه على طاولته الكتابية، ويتناول معه القهوة، والطعام، ويندس معه إلى السرير، لولا مسألة واحدة، وهي ولعه بالحياة،  وفهمه الأصيل للإبداع الإنساني على أنه صنو الحياة، حتى ولو افتقدها صانعها، وفق معايير الحياة أو الموت، كي تكون هذه المواجهة نفسها حياة توازي حياة الإبداع الونوسي هذا،  وهو بحاجة إلى ما يناسبه من القراءات المنصفة.

ولعلّ سراً غريباً، يكمن في أن هناك بطلين يحفران أثرهما، في الخط البياني للحياة، أحدهما بطل الإبداع، والثاني ذلك  البطل-المقابل- الذي يصنع الحياة لغيره، غير خائف على الضريبة الكبرى التي قد يدفعها من جراء ذلك، وكأن في وسم بطل الإبداع، ما يرفعه إلى أطم  البطل الحياتي، ليتنازعا قصب السبق على أولوية  التجسير بين الإنسان  والحياة، وهنا، مكمن سر أعظم الإنجازات في هذا المعجم الحياتي، طرَّاً….!.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…