وقائع موت غير معلن.. ثنائية الموت والإبداع

  إبراهيم اليوسف

لعلّه من سمات الأعمال الإبداعية الخالدة، أنها تظل محافظة على سرِّها وسحرها وألقها، مهما تقادم بها الزمان، دون أن تفقد تأثيرها، وجماليتها، إذ تظل تقدم نفسها، وكأن أحداثها لاتزال تجري أمام عيني متلقيها، مهما حالت بين لحظة إبداعها ولحظة قراءتها الحدود، والجغرافيا، وحاجز اللغة، وغيره، مادام أن من الصفات الرئيسة لمثل هذه الأعمال العظيمة ديمومتها، ومحاكاتها للألم والحلم الإنسانيين، لتكون هوية النص الإبداعي كفيلة بتخطي شرطي المكان والزمان، وما ينطويان عليه من دقائق وتفاصيل، تدفع إلى الخصوصية السلبية، وتضييق دائرة التأثير.
وتعد قصة غابرييل غارسيا ماركيز ” وقائع موت معلن”، إحدى روائع الأدب العالمي، وقد نشرها الروائي في العام 1981، أي قبل حصوله على جائزة نوبل للآداب بعام واحد. ولعل رسم الكاتب للحظة قتل بطل القصة سانتياغونصار –وهو من أصل عربي- من قبل الأخوة فاسياريوما، يعدُّ استفزازاً وتحدياً، ليس للقارىء وحده، بل وللكاتب نفسه، حيث يشكل تناول تفاصيل عملية القتل من قبل المؤلف إدانة كبرى لقتل الآدمي على يد أخيه، لاسيما إذا استذكرنا وقع حركة السكاكين التي تذهب لإنهاء حياة الضحية، حيث الأنين، والحشرجة، والصراخ، والدماء التي تغسل المكان، على نحو تقشعر له الأبدان. وإن ما يبين موقف الكاتب نفسه، من هذا السلوك الوحشي، ليظهر في الحوار الذي أجري مع زوجته “مارسيدس” التي اعترفت أنها  عندما سمعت ذات مرة، صرخة مدوية، أطلقها زوجها ماركيز، من مكتبه، أثناء كتابته لقصة “موت معلن”، اهتز لها المكان، فقد سرت في نفسها كهرباء الذعر، والرهبة، وأن كل مافعلته -آنذاك- تجسد في قيامها بإعداد كأس من” الليموناضة”، لتقدمه له،وهو في مكتبه، في الطابق الآخر من المبنى، لأنها علمت أن سانتياغونصار قد مات..!.

وبعيداً، عن أجواء رواية غابرييل غارسيا ماركيز، فإنه لابد من التأكيد أن إشكالية الموت، تم تناولها، في الأدب والإبداع، منذ بداية وعي الكائن البشري، وإن هناك من يعدّ الموت من أرومة الدوافع الأولى للإبداع، حيث دعت الحاجة إلى تخليد ذكرى الميت، إلى رسمه، أو إعداد تمثال له، أو تناول ذلك في ترنيمة، أو نشيد، أوقصيدة، لخلق مايلزم من توازن، عبرأحد هذه الأشكال، كإحدى وسائل الآدمي، في مواجهة ماتتركه آلة الموت، من أثر أليم، في نفس الكائن البشري.

وبدهي، أنه عندما يكون حصيد هذه الآلة شخصاً قريباً من المبدع، كأن يكون شاباً في منتهى الحلم والحكمة، موغلاً في لجة “حمد” الآخرين له، يعول عليه الكثير، في تحقيق الأحلام، أو عندما يكون علماً، عاشقاً للحياة، “معشوقاً” لها، في معادلة مدهشة، ذا مكانة كبيرة في مجتمعه، له تأثيره الكبيرفي من حوله، إلا أنه يروح ضحية موقفه ورأيه، فإن هذا الراحل حسب سنة الحياة، أو الراحل بسبب بشاعة آلة الجريمة، سيكون لغيابهما المباغت صدى في نفوس من هم ضمن دائرتيهما الضيقة، أوالواسعة، كل بحسب قدره و سطوته وتأثيره، ومنزلته، وهوما يجعل منهما -كأنموذجين محددين- على مايتركه كلا الراحلين، من حزن وفجيعة وراءهما، باعتبارهما آيتين عن انكسارالحلم، ومن شأن غيابهما، أن يتحول إلى نواة أعمال إبداعية، في مجالات الأدب والفن، وكل ذلك مرهون بالتقاط حدث الموت، عبرارتقاء الأدوات الإبداعية  عند المبدع، إلى مستوى رصد لحظة الفجيعة، بأمان.

من هنا، فإن نصَّ الموت المفتوح، منذ لحظة مقتل هابيل على يدي شقيقه قابيل، لايزال يقترح أشكالاً إبداعية، بل وفكرية هائلة، لاحصر لها، تبعاً للخطِّ البياني، للزمان،  لنكون -في التالي- أمام إبداع مفتوح، مواز، يقترح أجزاء تكاد تبدو، لا متناهية، في عين اللحظة، تنتمي إلى تفاصيل شبح الموت الرهيب، وملامحه الأكثر شراسة وقسوة..!
elyousef@gmail.com 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…