الشّاعر الكرديّ دلدار و (أي رقيب, Ey reqîb)

نارين عمر
narinomer76@gmail.com

منذ ما يقاربُ التّسعين عاماً والشعبُ الكرديّ بكباره وصغاره يردّدون معاً نشيداً قوميّاً يظلّ لديهم الأكثر نغماً وإيقاعاً وتأثيراً, ما تزالُ كلماته تبهجُ الرّوحَ, وتسرّ الخاطرَ, وتدمعُ العين فرحاً وألقاً.

معظمُ أفرادِ الشّعبِ الكرديّ وخلال هذه السّنواتِ المديدة وبخاصّةٍ في السّنواتِ العشرين الأخيرة باتوا يردّدونه عن ظهرِ قلبٍ, أطفالنا صاروا يتذوّقون نغماته وحروفه مع حليبِ أمّهم, ولكن قلّة منهم يعرفون منظّم النّشيد الذي يعدّ بحقّ الأب الرّوحيّ لهذا النّشيد الجامع للكردِ تحت مظلّة وحدةِ المشاعر والأحاسيس, ومنبع المحبّةِ والمودّة, ويجهلون كذلك ملحّن النّشيد, والمرّة الأولى التي ردّدَه الكردُ فيها.
النّشيدُ القوميّ للكردِ (أي رقيب, Ey reqîb),أطلقَ نغمة ولادته الأولى مع توءمه (مهاباد), الدّولة الكرديّة الأولى التي تشكّلتْ خلال العصر الحديث من أنفاس القاضي محمد ورفاق دربه الآخرين الذي نفثوا من فداءِ روحهم وفيض دمهم ورقيّ قوميتهم في روح هذه الدّولة الفتيّة التي أكّدت للجميع أنّ الكردَ شعبٌ باق وسيبقى ما دام البقاء.
في ساحةِ (ﭽارﭽرا, çarçira), وفي الثّاني والعشرين (22) من شهر كانون الثّاني من عام (1946)م ردّدت الجماهير الكرديّة المحتفلة بهذه المناسبة العظيمة والخالدة في تاريخ الكردِ هذا النّشيدَ العذبَ عندما أعلن عن استقلال مهاباد.
كيف تشكّل هذا الجنين, ومتى؟
تشكّلَ الجنين المقدّسُ في عام (1938م) عندما كان شاعرنا الخالد دلدار يلحنُ نفحات بطولته وشجاعته على ناي التّاريخ الكرديّ بأحرفٍ من العشقِ الكرديّ الخالص في أحد معتقلاتِ النّظام الإيرانيّ في شرقيّ كردستان حيثُ يخاطبُ حارس السّجن ويتحدّاه دون خوفٍ أو وجلٍ من التّعذيبِ أو الضّربِ وحتّى الموت.
مَنْ هو دلدار الإنسان والشّاعر؟
هو  يونس رؤوف محمود بن ملا سعدي, ولد في كويسنجق في العشرين من شباط من عام 1918م لعائلةٍ وطنيّةٍ, ولنباهته الفطريّة وتشبثّه بالحياة ورهافةِ حسّه توجّه نحو التّحصيل العلميّ, فانتسب إلى مدارس (كويسنجق ورانيا) وفيهما أتمّ المرحلتين الابتدائيّة والإعداديّة, أمّا الثّانويّة فأكملها في مدينةِ كركوك, ليتوجّه بعدها إلى مدينة بغداد, فيحصل فيها على إجازةٍ في الحقوق.
نعم, اختارَ الحقوقَ لإحساسه العميق بضرورةِ حصول الشّعوبِ والمجتمعاتِ على حقوقها, وشعوره الكبير بالمرارةِ التي يتذوّقها مع أبناءِ وبناتِ شعبه المهضومة حقوقهم منذ عشراتِ السّنين, فجعلَ من الدّفاع عن المظلومين هدفاً من أهدافِ مهنته الأساسيّة.
دلدار كان مرهف الإحساس لأنّه كان يمتلك موهبة الشّعر والأدبِ بالفطرة لذلك نظّم الشّعرَ في سنّ مبكّرة, وبدأ ينشره قصائده التي كان يصوغها بأسلوبٍ كلاسيكيّ منظوم في العديد من المجلاتِ والجرائد المعروفةِ حينذاك.
دلدار كان سياسيّاً مخلصاً أيضاً, ولجَ محرابَ السّياسة وهو في مرحلةِ الدّراسة الجامعيّة حينما شارك في تأسيس حزب (هيوا, الأمل,  Hîwa أو(Hêwa  وهو أوّل حزب كرديّ سياسيّ معترف به قانونيّاً, وكان من أهدافه توحيد كردستان.
نشيد (أي رقيب)لحّنه لأوّل مرّةٍ المهندس (نوري صديق شاويش), بعد سنوات تمّ نظم القصيدة من جديد في مدينةِ كركوك, فزيّنها (حسين برزنجي) بلحنٍ جديد.
رحيله المبكر:
هذا الإنسان العظيم الذي حقّقَ إنجازاتٍ عظيمة لشعبه, ومن أبرز إنجازاته أنّه جمع الكردِ تحت مظلّةٍ واحدةٍ وفي لحظاتِ شموخ وتحدّ واحدةٍ, مظلّة (أي رقيب) وكأنّه كان يدركُ أنّ القدرَ لن يمنحه العمر الذي يتمنّاه هو, فاختصر كلّ عام من عمره في شهرٍ وبذلك حقّق ما يعجز من تحقيقه صاحب العمر الطّويل والمديد.
لم يكن دلدار محاميّاً وشاعراً وسياسيّاً فقط بل ترك مآثر في مجال الاقتصادِ والفلسفة وغيرها من العلوم.
الثّاني عشر من تشرين الثّاني من عام 1948م كان يومَ الحزن الكرديّ من أقصى كردستان إلى أقصاها, كيف لا؟ والرّاحل هو مَن بكتْ عليه مهاباد وكركوك وآمد وقامشلو وهولير وكلّ المدن الكرديّة, وكانت الدموع الأكثر غزارة من عينيّ (أي رقيب), دموع حزن على رحيله ودموع فرح على خلودهما في ذاكرةِ الكرد.
المقبرة الكبيرة في هولير احتضنت جسده برفق, ودعت روحه ترفرفُ في كلّ بقاع كردستان وما تزال.

دلدار(العاشق), هو الاسم الأدبيّ الذي اختاره لنفسه لأنّه ولد عاشقاً لكردستان وترابِ كردستان وطبيعتها الشّابة أبداً ولشعبِ كردستان وللحياةِ والوجودِ كلّه.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…