طائر الباتروس

إبراهيم اليوسف
 

استفزَّني المقال الذي كتبه المفكِّر إبراهيم محمود بعنوان “مكتبة إبراهيم محمود للبيع” والذي نشره في أحد المواقع الإلكترونية**، ليس بغرض الاستعراض، والبحث عن الإثارة، وهو المبدع الذي أنتج حتى الآن، أكثر من ستين كتاباً نشر أكثره في أكبر دور النشر العربية مثل”دار الرَّيس اللبنانية”، وتتوزع كتبه بين الدراسة، والبحث، والنقد، والأدب، والترجمة، مكرِّساً وقته بين الغوص في بطون أمَّات الكتب والكتابة، وهو المبدع الأكثر غزارة، وعمقاً، كما يشهد له المنصفون من قرائه ودارسيه.
في مقاله الأخير، هذا، يتحدث إبراهيم عن دواعي عرض مكتبته، كاملة، للبيع، وهي من أكبر مكتبات الكتاب، حيث تضمّ بضعة عشر ألف كتاب، في مختلف المجالات، والموضوعات”-وهو ما أدرجه  بعيداً عن عالم الإعلان”- ولعل مكتبة كهذه، يجمع لبناتها مثقف من طراز إبراهيم، على امتداد حوالي أربعة عقود من عمر كتابته التي بدأها شاعراً، وها هو أحد المشتغلين البارزين في مجال الفكر والبحث والدراسة العميقة، تعتبر ذات قيمة إنسانية فريدة..!.
مسوِّغات إبراهيم التي يقدمها، في “إعلانه” السريع، تكشف عن الواقع المعيشي الأليم الذي يمر به، كمدرس متقاعد، لا يؤمن الراتب الشهري البسيط الذي تعيش عليه أسرته مايكفي لتأمين احتياجات أسرة متقشِّفة زاهدة، عشرة أيام فقط، في الوقت الذي يحتاج أمثاله من المبدعين والباحثين والمفكرين الكبار إلى مايحميهم من ضنك العيش، ومهانة العوز، ومذلَّة الحاجة، لأن من تقرأ كتبه في قارات الأرض جميعها، وتغدو رؤاه، جزءاً من الثقافة الإنسانية، ومحجة، لحريٌّ بأن يتم الاهتمام بتوفير أسباب معيشته، وهو واجب على من حوله من المؤسسات المعنية بالإبداع البشري.

وإذا كان الكاتب، قد أشار في مقاله إلى”طائر الباتروس” كبير الحجم الذي يعيش في نيوزلنده، وأطلق خبراء البيئة منذ سنوات صرخات استغاثة خوفاً على مصير هذا الطائر المهدَّد بالانقراض، على يدي الإنسان، فإن لذلك رمزيته الواضحة، لاسيما إذا وضعنا بعين الاعتبار بعض خصال هذا الطائر، وأولها أنه يحقق الرقم القياسي، في حرصه على فراخه التي ينقل إليها طعامها، غير آبه بالأميال الكثيرة التي يقطعها، منجذباً إلى رائحة عشه، ومكانه، وحرصه على تحقيق معادلة”غريزة الاستمرار”أو”البقاء”، كما أن من أهم صفات هذا الطائر التحليق في الأعالي، دون أن تلفت اليابسة انتباهه كثيراً، مايجعله استثنائياً، كريماً،أصيلاً، محافظاً على جملة سجاياه…!.
 
حال إبراهيم محمود -هنا- هو صورة طبق الأصل عن حال المثقف المعطاء، عبر التاريخ، وذلك على ضوء قراءة السير الحياتية لأعداد كبيرة من هؤلاء، لأن الانشغال بميادين الإبداع الإنساني، يقصي المبدع عن النجاح في تحقيق معادلة التوفيق بين أطراف معادلة علاقة الحياة الشخصية بالإبداع، لاسيما إذا عرفنا أن “صناعة الكتاب” في مجتمعاتنا، لم تصل، بعد، إلى تلك المرحلة التي تمكن الكاتب من الاعتماد عليها، في مواجهة متطلبات الحياة الهائلة، والمتشابكة…
 
إن مكتبة كاتب بارز خدم الثقافة الإنسانية، وقارب الأسئلة الكبرى الأكثر حساسية -وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه- تعد – في حقيقتها- كنزاً مهماً، ليس من خلال محتوياتها الكثيرة، ومن بينها ماهو نادر من الكتب التي تركتها بطون المطابع، بل لأنها جزء من عالم مبدع استثنائي، وإن حمايتها، هي مسؤولية كل من حوله، لاسيما وأننا نعلم -أطال الله عمر الكاتب- كيف أن مكتبات مبدعي العالم تغدو جزءاً من المعالم الثقافية البارزة لدى الشعوب التي تحترم كتابها، وإن تكريم كتابنا في حيواتهم، من قبل من حولهم، يكمن في توفير أسباب الحياة الكريمة لهم، لأن ملايين الجوائز الكبرى لا تعني أي شيء، بعد رحيل المبدع، مهملاً، معوزاً، جائعاً، كليم الروح، مهدّداً بصفو اللحظة التي من شأنها احتضان الإبداع….!.
 

* عن جريدة الخليج6-9-2012

**موقع ولاتي مه

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

رضوان شيخو

يا عازف العود، مهلا حين تعزفه!
لا تزعج العود، إن العود حساس..
أوتاره تشبه الأوتار في نغمي
في عزفها الحب، إن الحب وسواس
كأنما موجة الآلام تتبعنا
من بين أشيائها سيف ومتراس،
تختار من بين ما تختار أفئدة
ضاقت لها من صروف الدهر أنفاس
تكابد العيش طرا دونما صخب
وقد غزا كل من في الدار إفلاس
يا صاحب العود، لا تهزأ بنائبة
قد كان من…

ماهين شيخاني

الآن… هي هناك، في المطار، في دولة الأردن. لا أعلم إن كان مطار الملكة علياء أم غيره، فما قيمة الأسماء حين تضيع منّا الأوطان والأحبة..؟. لحظات فقط وستكون داخل الطائرة، تحلّق بعيداً عن ترابها، عن الدار التي شهدت خطواتها الأولى، عن كل ركن كنت أزيّنه بابتسامتها الصغيرة.

أنا وحدي الآن، حارس دموعها ومخبأ أسرارها. لم…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

فَلسفةُ الجَمَالِ هِيَ فَرْعٌ مِنَ الفَلسفةِ يَدْرُسُ طَبيعةَ الجَمَالِ والذَّوْقِ والفَنِّ ، في الطبيعةِ والأعمالِ البشريةِ والأنساقِ الاجتماعية، وَيُكَرِّسُ التفكيرَ النَّقْدِيَّ في البُنى الثَّقَافيةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا في الفَنِّ، وَتَجَلِّيَاتِها في الطبيعة ، وانعكاساتِها في المُجتمع، وَيُحَلِّلُ التَّجَارِبَ الحِسِّيةَ، والبُنى العاطفية ، والتفاصيلَ الوِجْدَانِيَّة ، وَالقِيَمَ العقلانيةَ ،…

إبراهيم اليوسف

الكتابة البقاء

لم تدخل مزكين حسكو عالم الكتابة كما حال من هو عابر في نزهة عابرة، بل اندفعت إليه كمن يلقي بنفسه في محرقة يومية، عبر معركة وجودية، حيث الكلمة ليست زينة ولا ترفاً، مادامت تملك كل شروط الجمال العالي: روحاً وحضوراً، لأن الكلمة في منظورها ليست إلا فعل انتماء كامل إلى لغة أرادت أن…