كاسرات الصمت

إبراهيم اليوسف

يحاول المتابع للشأن الثقافي ، وهو في غمرة و لجّة مايجري من حوله، في المنطقة، أثناء معاينته مواقف المثقفين، التماس بعض الأعذار، لذلك الصنف من المثقفين ذوي الحضور الفاعل في الساحة الثقافية، إنصافاً لهم، سواء أكانوا في أوطانهم، يعايشون الواقع، ويرون بأمَّات عيونهم كيف بات الدم يسترخص في بازار تشبث القاتل بمصلحته في أن تربط بيديه دفة قياد مكانه، حيثما يريد، وكيفما يريد، وماعلى سواه إلا التصفيق وذكر محامده المزعومة، وتزوير الواقع، حسبما يشاء، أو إن كانوا خارج أوطانهم، بعيداً عن خطورة مايجري، حيث يتاح لهم ذلك الفضاء الملائم لإيصال أصداء ثورة إهليهم إلى العالم، وتدحيض مزاعم مثقفي البلاطات، أنى كانوا، وهم يرافعون ضمن جوقة القاتل، مجندين، أو متطوعين، لافرق،
بيد أن محاولة مثل هذا المتابع، سرعان ماتبوء بالفشل الذريع، وذلك لأن ليس في مكنته المرافعة عنهم، بأي شكل من الأشكال، مهما صدقت نواياه، ونوايا من يتنطع لتبييض صفحاتهم، وإن كان أغلبهم مدركاً في قرارته حقيقة مايجري تماماً، ولا يتلكأ البتة في تمييز القاتل عن الضحية، لأن الأمرقد تجاوز  حدود مرحلة الالتباس” وإن كان لا التباس في الأمر إلا لدى من يعاني من حول أو عمى ألوان” إلى صميم مرحلة اتخاذ الموقف الناصع من عالمين متناقضين، لايلتقيان، هما عالم من يحاول بناء الحياة، قصيدة أجمل، لما تكتب بعد، ويدفع لقاء ذلك أغلى مالديه، وعالم من لاتعني له الحياة، ومن فيها، أي شيء، ما لم يكن هو في مرتبة، أو في سدَّة المسؤولية التي لا مسؤولية بعدها، مدفوعاً بأخطر أنواع الفصام النووي، إن جازت التسمية، لأن  ثقافة كائن هذه الحالة، إنما لتشكل خطراً كونياً، مادامت غريزة شهوة القتل لا تروى – في التشخيص المخبري هنا- بمجرد سفك دم امرىء بريء وحده، وإنما ليتعدَّى الأمر أبعد من ذلك، وإن هذه الغريزة لتظل في حالة وحام وتصاعدي لايهدأ، وكان وليم  شكسبير، قد تناول هذه الحالة، عينها، في عدد من روائعه المسرحية  التي لماتزل تصلح للتمثيل، ليس على خشبات المسارح العالمية، كما يحدث حقاً، وإنما على تراب مسرح الحياة، وإن كان الحديث هنا، عن حالات بشرية، استثنائية، كارثية، تدفع أصحابها إلى التصنيف في خانات الشذَّاذ، وهم قد يتواجدون في كل مفاصل الحياة، ولا يمكن أن تبلغ خطورتهم أمدائها القصوى، إلا إذا احتلوا المواقع الأولى، في خرائط أماكنهم، أينما كانت..!.
وإذا علمنا، أن هناك حالات هائلة، تكاد لا تنتهي تجري في أية بقعة مهما تضاءل حجمها، وقد لاتترك أي أثر، أو دوي إلا في فضائها الضيق، أوالمحدود، ولا تلفت انتباه أحد، حتى ولو توافرت لها كل الإمكانات التي أنتجتها ثورة الاتصالات والمعلوماتية، فإن لرائحة الدم فعلها السحري، في إحداث الاستنفار الأقصى، في أية بقعة مكانية تراق فيها ولو مجرد قطرة دم بريئة واحدة، وهذا مايجعل من الدم إمبراطور النبأ، أنَّى كان، تتبعه جمهرات مفردات سبل الحياة: الوطن، والهواء، والماء، فما أن تصاب إحداها بأي ضرب من أذى، حتى يكون أثر ذلك، في مقدمة ما يلفت الأنظار، ويشدها، بل ويستنفرها، ويستفزُّها، ليكون دويُّ أصوت آلات الدمار والموت: قذيفة، كانت، أم طائرة، من مستلزمات هذه الأبجدية، الأكثر إثارة، وهي لتعدُّ أولاً وأخيراً من عداد أمات كاسرات الصمت، حيث الصمت، الذي لا مأثرة له هنا، في أقل مراتبه، والاتهامات الموجهة إليه، من محفزات القاتل على مواصلة شهوته، بل ومن ضمانات استمرار آلته التي لن يكون صاحب هذه “الفضيلة” السلبية، في منجى عن براثنها، وحساباتها..البتة…!.

elyousef@gmail.com

جريدة الخليج-أفق-29-9-2012

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…