قليلون ممن سعوا إلى المجد من أمثاله والأقل منهم نالوها فكانوا نعمة على شعب الكردي فجاءت عظمتهم من الظروف التي كانت تحيط بهم من فكر وثقافة سلفية بالية وجهل وأمية في مسائل الكردايتي وسيطرة النخب الاجتماعية الحاكمة الكردية على مصير الناس بالتعاون مع القوى المغتصبة لكردستان . عندما كبر ووعى تمرد على الواقع فكان خير قائد للمتردين على الفكر الرجعي فلم تكن الظروف الموضوعية والذاتية في صالح مشروعه الفكري لأجل نهضة ثقافية كردوارية حتى مماته وقد كان طموحا حتى كاد أن يصعد إلى السماء ويقطفها نجمة نجمة وترك إرثا أدبيا كبيرا وأصبح رسول القومية الكردية في زمانه . فالكثيرون من أمثاله استسلموا لظروفهم وعاشوا حياة الرتابة وانتظروا الموت إلى أن جاء عزرائيل وأخذ أمانته وماتوا كما يموت البعير. لم ينل منه أعداءه سوى تجويعه وتركه يعيش الحرمان ليخرج من أزماته أقوى من ذي قبل وأصبحت الأزمة مصدر إلهامه وتفتق عبقريته. لم ينصفه الكرد في حياته كثيرا وقد حاربه قومه من ذوي الفكر والثقافة المجرد ومازال . ولم ينالوا منه سوى الخيبة والفشل وبقي شامخا شموخ هلكرد وأرارات وسيبان وجودي وخلد في سجل أعلام الكرد العظماء .
فرض ذاته على الجميع وتقبله أغلب الكرد على مضض بسبب سيادة الثقافة الرديئة والفكر المغترب عن حقيقة الكرد وهويتهم كمتحد .عند الحديث عن أعلام الكرد ومشاهيرهم والشخصيات التاريخية التي ظهرت كعظماء يخطر ببال القارئ لأول وهلة تلك الشخصيات والزعماء الذين قادوا الحركة الوطنية التحررية الكردية من اجل الخلاص من الظلم والاستعباد لأن الشعوب المظلومة تتجه بجل تفكيرها نحو القضايا التي هي أكثر إيلاما ً وقسوة ً عليها لذا لا تتنبه كثيرا ً إلى العباقرة والمفكرين والمبدعين والشخصيات الكبيرة التي تظهر في المجالات الأخرى للحياة متزامنة مع الشخصية التاريخية (الكاريزما) إلا فئات قليلة من الناس الواعين علما بأن هذه الشخصيات ليست أقل شأناً ودوراً في تنشيط حركة النهضة الاجتماعية والتنمية البشرية لدى الجماعة وتتحمل الصعاب والتحديات ربما يعجز اللسان من التعبير عنها أحياناً لأن هؤلاء الدعاة أفراد عزل لا يمتلكون القوة المادية على عكس من الشخصيات التاريخية والقيادية التي يوجد تحت تصرفها وفي متناول يدها بعضا من القوة على الأقل للحفاظ على ذاتها وبوجود أفراد حولها .
بشكل عام تتخذ الشخصية المبدعة والموهوبة لنفسها أدوارا تليق بمقامها وقدراتها وتترجم نفسها أحسن ترجمة وتعبر عن موهبتها من خلال نشاطات وفعاليات ترى بأنها تستطيع من خلالها الوصول إلى أهدافها باستخدامها أدوات تعبير متاحة واكتشافها وسائل خاصة بها. فالكاتب يعبر عن ذاته من خلال الكتابة أو الرواية أو المقالة, والشاعر من خلال القصيدة والفنان من خلال اللوحة الفنية أو الأغنية أو التمثيل أو الرقص والمقاتل من خلال البندقية كل حسب طبيعة عمله وأهدافه. إن الإبداع والقيادة موضوعتين يقع فعلهما في دائرة العبقرية ويمتلك أصحاب هذه المواهب سمات طبع متشابهة تجعلهم متميزين وعباقرة زمانهم وتعرف العبقرية في كثير من الأحيان أيضاً بأنها كل عقل ذي قوى شاملة وعامة كبيرة تحوم حول هدف خاص ومحدد فلا فرق بين من كان مبدعا في عمل ثقافي أو فكري وقائد تاريخي لجماعة ما دام لهما التأثير نفسه في عملية التحول نحو الأفضل .
عند كل مرحلة تاريخية من حياة الشعوب وعبر كل مراحلها تظهر مثل هذه الشخصيات عند الأزمات و لا تظهر في زمن الرخاء والازدهار إلا نادرا. لم تستطع الكرد اكتشاف شخصياتهم المبدعة بسهولة وبسرعة في وقته في الكثير من بعض مراحل التاريخ بسبب الاغتراب وضعف الرؤية والفكر المجرد الذي كان وما زال سائدا. فعلى سبيل المثال لا الحصر فقد وهبت الطبيعة الكرد أهم شخصيتين في القرن الماضي وفي ذات السنة عام 1903 اللتين يعتز بهما الشعب الكردي وهم محط تقدير وإعجاب لدى الشعوب الأخرى أيضا ًحتى الأعداء منهم قد قام هذان الرجلان العظيمان بتكريس حياتهما من اجل شعبهما خلال أكثر من نصف قرن فكانوا خلاله مكافحين ومناضلين من الطراز الرفيع حتى أخذا درجة العظمة والإبداع في التاريخ المعاصر للشعب الكردي واتخذا من المسألة الوطنية والقومية أساساً لبناء الشخصية ونقطة الانطلاقة في عملهم ونضالهم وقد حاربهم الكرد شر حرب ومنذ بدايات دعوتهما. الأول هو القائد التاريخي لحركة القومية الكردية (الزعيم مصطفى البارزاني) قائد ثورة أيلول الكبرى من أجل الحرية أما الثاني فكان الشاعر جكرخوين قائد الثورة الثقافية ورسول القومية الكردية كما ادعى في احد دواوينه ونوافقه على هذه الصفة كونه يستحق ذلك وقد قاما بإحياء وتفعيل المقومات الأساسية للفكر القومي للكرد في القرن الماضي وكان دور هاتين الشخصيتين مفصلياً فقادا حركة التحرر الوطني الكردستاني والحركة الثقافية والفكر الكرداديتي نحو التحرر والعتق من عبودية فكر السلف وموروث الثقافي لقرون الوسطى فتبلور لديهما خريطة للنضال القومي بإيجاد كل واحد منهم وسيلته المفضلة وإبداع كل منهما في مجال عمله كنماذج قيادية في حركة وثقافة ونضال القومي الوطني.
الأول أتخذ من النضال السياسي والكفاح المسلح طريقة للتعبير عن شخصيته وآماله وأهدافه وتطلعات شعبه, وكذلك النضال من اجل الاستحقاق التاريخي والحقوقي لشعب كردستان, أما الثاني أختار أسلوب الكلمة والفكر والحقيقة والعاطفة القومية والجذور والتعبير والفن الأدبي أساسا ً لنضاله من خلال القصيدة والفنون الأدبية لأداء رسالته القومية والوطنية. الأول هو قائد عسكري من الطراز الرفيع امتلك الإرادة الصلبة والشجاعة الفائقة المنبثقة من الأرض ضاربا جذورها عمق التاريخ والهوية القومية, أما الثاني عاش الحياة بكل تفاصيلها وعانى القسوة والظلم وتفاعل معها وتسلح بثقافتها وفجأة يرتد عنها وعن الواقع الاجتماعي مستنكراً كل الظروف المحيطة بشعبه والثقافة التي تصادر إرادته وصرخ بأعلى صوته (من أنا kime ez) وسط كل تلك الثقافات الرديئة والجاهلة ليبدع ويكتشف ذاته أولا ً والآفاق نحو المستقبل ثانيا .
إن عظمة وسمو الإنسان يأتي من الأفكار والأهداف التي تشغل فكره أولا ً وأخيرا وكما أن العظمة لا توصف ولا تأتي بالضرورة مع تحقيق الأهداف بل بالسير وراء تحقيقها ,أي لا يعني بأن يرتبط صفة العظمة والسمو بتحقيق الأهداف حتى النهاية وإنما تأتي قدر الرجال وعظمتهم بالأهداف والأفكار التي يمثلونها في أنفسهم وينشرونها بين شعوبهم والمحيط الذين يعيشون فيه ومن خلال تلك الأهداف والأفكار وأما حقيقة وجوهر هكذا شخصية نجدها ذات أطوار غريبة وأحيانا مدهشة تثير التساؤل والجدل ومن هنا تأتي عظمتهم وخاصة من الناحية الفكرية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية وكذلك القومية والإنسانية. أهم صفة من صفات العباقرة والرجال العظماء هو الانقلاب على الذات القديمة القزمة إن وجدت وبالثورة عليها قبل الإقدام على أي إجراء تغيير للخارج فمن يقوم بالثورة على المفاهيم والثقافة والفكر عليه أن يثور على ذاته أولا قبل كل شيء وهذا فعله شيخموس على ذاته الشخصية ليتحول رويدا رويدا إلى شخصية جكرخوين الإنسان فكرا وثقافة وسلوكا وحركة واكتسبت شخصية جديدة أكثر صلابة وقوة وامتلك أسمى هدفا وسعى إلى المجد دون أن يأبه أحد وناله.
يقول أحد المفكرين الوجوديين بأنه لاشيء جديداً تحت الشمس وإنما هناك اكتشاف لهذا الشيء ويدعى هذا المكتشف بالعبقري أو الفيلسوف أو المبدع وما قام به جكرخوين هو شيء من هذا القبيل بل الشيء نفسه, فعندما احتدم الصراع في ذاته بين فلسفتين وثقافتين متناقضتين قديم متهالك وجديد حيوي إحداها غريبة وغازية تدعو إلى العبودية والاستسلام والتبعية وبقاء الظلم وحب الذات والعمل من أجل غريزة ضالة بسلوك أناني وشخصية كاهن دجال يرتزق على آلام وبؤس الناس باسم ثقافة التدين والعبادة لا تختلف عن غيرها منذ العهد السومري ومرورا بكل مفاصل التاريخ المتعاقبة دون تغير في المنهج والجوهر فرفضها جملة وتفصيلا لأنه وجد فيها أسباب وجذور الشقاء وبذور العبودية لشعبه وأهله من مناصريها طوال قرون مضت وبين ثقافة وفلسفة أخرى ذات جذور بهوية متحد قديم قدم التاريخ فأراد أن يحييها لتخرج إلى الوجود بعد طمس وغياب طويل ليولد في الهيكل المشلولة الروح من جديد لها هوية ثقافية متمايزة تبشر بحياة جيدة وقد أعلن عنها عندما حصل تفككا رهيبا في حالة العامة للجماعة فأجاد في اختيار الحل للغد الجديد عندما أعلن عن مبادئه وعقيدته لإنهاء الصراع بين الفلسفتين وعدم التوافق بينهما فكان الطلاق بائنة بينونة كبرى وثار على نفسه فامتلك أول صفات المبدعين في زمانه هو الثورة على الذات وتوصل إلى حقيقة فلسفية مفادها أن لا تغيير وتحول في أي وضع سائد ما دامت الشخصية تعيش نمطيتها وذاتها القديمة وأكد حقيقة أنه لم يثبت للتاريخ أن تغيير أو تطور حصل بأساليب وثقافة وفكر قديم بل كان من خلال نتاج فكر مبدع وثقافة جديدة وبشخصية مغايرة وجديدة وقد أدركها جكرخوين وتحدى كل ثقافة بالية في زمانه ونجح بعد المثابرة والمقاومة.