في مجموعتيها الشعريتين «الظل لا يتبع صاحبه» و«أسماء في حبرها الأخضر» الشاعرة فدوى كيلاني.. تبني لغةً متحررة من المجاز

رولا حسن

في لقطات سينمائية سريعة وخاطفة استطاعت الشاعرة فدوى كيلاني، في الكثير منها أن تكون بمنزلة مجهر يسبر واقعاً، ويغور إلى أعماق الذات يضيء شوارع لم يصلها ضوء ولم تمسسها أقدام وهي في ذلك تخلق مجالاً خاصاً بها كشاعرة تحاول في هذا المجال أن توجد تردداتها الخاصة فتبث مشاعرها وفق ذلك:
لا أحد يمر الآن
من هنا
ليدل كلا منا إليه .
واللافت هنا في مجموعتيها الصادرتين مؤخراً عن دار بعل في دمشق، أنها لا تقع في فخ السيولة العاطفية الذي وقع فيه أغلب الشاعرات العربيات، فلم يستطعن الخروج بالعاطفة أو لنقل الرقي بالعاطفة من المستوى العائلي  إلى مستوى الوعي العام وتسخيرها لخدمة الموضوع بصفتها شاحنة وحاملة له لا كهدف بحد ذاته.
وهنا لا مجال للقول: إن مصطلحاً مثل اللغة السهلة أو اللغة الثالثة مجرد ترف شكلي يمارسه الشاعر أحياناً، لكنها أصبحت واقعاً لغوياً للقصيدة وطبيعة فارقة لها, كما أنها أصبحت وبلا شك قدراً للشاعر لا يستطيع الفكاك منه، وهكذا لم تعد لغة القصيدة الجديدة تعبيراً عن واقع شعري بقدر ما هي الواقع الشعري نفسه، فأية لغة حين تنتهي وظائفها الانفعالية لتصبح في نهاية الأمر لغة شعرية، فإنها تفقد مجانيتها لتمارس نوعاً غريباً من الانحياز لا للقصيدة وإنما لمجمل الأسباب والموجبات التي شكلت الطبيعة الشعرية للقصيدة, فحياد اللغة هنا هو انحياز للتجربة ما أدى إلى تغيير في سلوكياتها الجمالية لذا نجد القصيدة الحديثة تتبنى آليات كثيرة كانت مقموعة أو مهمشة في السابق كالسرد والتوقيع والتداعي …إلخ:
كانون الثاني
لكأني لا أصدق
كيف أن عود ثقاب صغيراً
في ذلك اليوم
من ذلك الشهر
من تلك السنة البعيدة أشعل كل ما أبصره
من هذا الحريق الهائل؟.
فالتداعي هنا تداع زماني يعمل على تشكيل تواز ظاهري، فحين تكتمل القصيدة بتلك الضربة نكتشف أن أي هذا التداعي تحول إلى نمو باضطراد لجمع شظايا القصيدة كما لو أنها لوحة, وهنا يمكن أن نشير إلى أن الشاعرة اعتمدت في قصائدها الطويلة والقصيرة على آلية التوقيع  والتوقيع ظاهرة بلاغية تعني الإتيان بكلمة أو جملة أو مقطع صغير في نهاية القصيدة حيث يتم إتمام المعنى في القصيدة، المعنى الذي تم إرجاؤه، وفي هذا الإرجاء نوع من تأجيل المعنى الذي يصح القول عنه إنه كان في حالة غياب مؤقت ومقصود ليضفي عند اكتماله لوناً من المتعة الوجدانية والعقلية.
لم أكن أصدق
أن باستطاعة شجرتين فقط
صنع حديقة شاسعة هكذا
.
نحا أغلب شعراء قصيدة النثر نحو موضة الكتابة السردية في الشعر ولاسيما الأجيال الجديدة الذين اعتقدوا أن استعارة السرد من مجال القص إلى مجال الشعرية أمر سهل ولم ينتبهوا إلى أن المكان وعر بما يكفي لمغامرة كهذه, وفدوى الكيلاني مضت إلى هذه الأمكنة فأخفقت حيناً ونجحت حيناً آخر، فكتابة نص يقع في المنطقة العازلة مابين نوعين أدبيين هما الشعر والقصة أمر ليس سهلاً، فالقصيدة  لا بد من أن تأخذ عن الشعرية المنحى الانفعالي للتجربة وعن السرد الحياد اللغوي, واللافت هنا أن شعرية القصيدة لا تنتج عن الانحراف اللغوي المستند إلى اللغة ذاتها وإنما تنتج عن العلاقات بين الأشياء واكتشاف هذه العلاقات والإضاءة عليها بما يخدم شعرية القصيدة.
وتبنّي القصيدة للغة السرد يعني أيضاً تبني موضوع السرد بمعنى أن المضمون يتأسس على عملية القص ذاتها, والشاعرة هنا استغلت اللغة الثالثة أو ما يسمى الآن «اللغة التقريرية» على الرغم من أنها أوحت للقارئ بأنها تستند إلى آليات السرد التي تسيطر بشكل ظاهري على النص, لكن من الناحية العملية استعارة السرد في قصيدة فدوى كيلاني كان مجرد شكل في القصيدة لم ينجح في أداء دوره في رفع قصيدتها إلى ما يسمى «بالكتابة عبر النوعية», كما في قصائد «في رثاء النرجس»و «أسماء في حبرها الأحمر»
يمكن القول: إن قصيدة فدوى كيلاني تميزها لغة يومية متحررة تماماً من ألعاب المجاز والتضخيم القاموسي، وهي تعابث في أماكن كثيرة المعنى برشاقة تارةً وباستخفاف تارةً أخرى، وتميل إلى تدوين دلالة كل ما في الواقع كما هي عليه وليس بما يغري بالانقلاب عليه، حيث تبدو وكأنها تكتب قصيدة تعف عن حشد الظلال من حول المعنى بل وتتقصد هتك أستار تلك الظلال وتالياً انتهاك الكثير من لعب المجاز في نهاية الأمر بحثاً عن الإيعاز التصريحي المنكشف الذي لا يبدو سائلاً وعادياً أحياناً، بل ينحو إلى أن يكون صيغة مفاجئة من الوضوح المباشر إلى حد السذاجة التي هي هنا مجرد لعبة فنية أرادت من خلالها الشاعرة استخلاص  الشعري من التجربة  في الواقع.
أكاد لا أتلذذ بالفرح
لئلا تصفعني الأحزان.
كم كنا كثيرين آنذاك
يحضننا النهر
وتهمس في آذاننا
أغانيه؟
لم نفكّر آنذاك
أننا هكذا
سنتوزع على هذا النحو
على كل خرائط الناس.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

رضوان شيخو

يا عازف العود، مهلا حين تعزفه!
لا تزعج العود، إن العود حساس..
أوتاره تشبه الأوتار في نغمي
في عزفها الحب، إن الحب وسواس
كأنما موجة الآلام تتبعنا
من بين أشيائها سيف ومتراس،
تختار من بين ما تختار أفئدة
ضاقت لها من صروف الدهر أنفاس
تكابد العيش طرا دونما صخب
وقد غزا كل من في الدار إفلاس
يا صاحب العود، لا تهزأ بنائبة
قد كان من…

ماهين شيخاني

الآن… هي هناك، في المطار، في دولة الأردن. لا أعلم إن كان مطار الملكة علياء أم غيره، فما قيمة الأسماء حين تضيع منّا الأوطان والأحبة..؟. لحظات فقط وستكون داخل الطائرة، تحلّق بعيداً عن ترابها، عن الدار التي شهدت خطواتها الأولى، عن كل ركن كنت أزيّنه بابتسامتها الصغيرة.

أنا وحدي الآن، حارس دموعها ومخبأ أسرارها. لم…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

فَلسفةُ الجَمَالِ هِيَ فَرْعٌ مِنَ الفَلسفةِ يَدْرُسُ طَبيعةَ الجَمَالِ والذَّوْقِ والفَنِّ ، في الطبيعةِ والأعمالِ البشريةِ والأنساقِ الاجتماعية، وَيُكَرِّسُ التفكيرَ النَّقْدِيَّ في البُنى الثَّقَافيةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا في الفَنِّ، وَتَجَلِّيَاتِها في الطبيعة ، وانعكاساتِها في المُجتمع، وَيُحَلِّلُ التَّجَارِبَ الحِسِّيةَ، والبُنى العاطفية ، والتفاصيلَ الوِجْدَانِيَّة ، وَالقِيَمَ العقلانيةَ ،…

إبراهيم اليوسف

الكتابة البقاء

لم تدخل مزكين حسكو عالم الكتابة كما حال من هو عابر في نزهة عابرة، بل اندفعت إليه كمن يلقي بنفسه في محرقة يومية، عبر معركة وجودية، حيث الكلمة ليست زينة ولا ترفاً، مادامت تملك كل شروط الجمال العالي: روحاً وحضوراً، لأن الكلمة في منظورها ليست إلا فعل انتماء كامل إلى لغة أرادت أن…