تقنية المقطع وتقنية السرد في (القمر البعيد من حريتي) للشاعر الكردي لقمان محمود

بقلم: فتح الله حسيني
 
   منذ أكثر من عقدين، وتحديداً في العام 1990، صدر لصديقي الشاعر لقمان محمود، أولى مجموعاته الشعرية تحت عنوان “أفراح حزينة” في العاصمة السورية دمشق، وكان آنذاك “لقمان” من الكتاب الكرد القلائل الذين بادروا إلى طباعة أعمالهم داخل وخارج سوريا، مواظباً بذلك على نشاطه الملموس في كتابة الشعر والمقالة والنقد في الصحف السورية و العربية معاً.

   بعد هذه التجربة الطويلة في الكتابة ، يعاود الشاعر نفسه من جديد، بتجربة شعرية جديدة، وهي “القمر البعيد من حريتي”، الصادرة حديثاً ضمن منشورات دار سردم للطباعة والنشر في السليمانية.
   فبين أولى مجموعاته الشعرية الموسومة ب “أفراح حزينة” ، وبين آخر مجموعة شعرية هي ” القمر البعيد من حريتي”، نجد أنّ ثمة هواء حزين، وثمة  أمكنة حزينة في شوارع تلك المسافة بين زمني المجموعة الأولى والأخيرة، وربما أهمها مجموعته الشعرية المعروفة “دلشاستان” المطبوعة في المغرب عام 2001، حيث  ما زال هذا الشاعر من عمر هذه التجربة الإبداعية،  يجرب الشعر على الأنثى وعنها حتى الغرق، يحصي بذلك أعوامه داخل الهواء الذي كانت تتنفسه تلك الأنثى، ليتنفس بها بكل أعماق الحب والشعر والمنفى، كما في مجموعته الثانية “خطوات تستنشق المسافة: عندما كانت لآدم أقدام” عام 1996، حيث ظل الشاعر لقمان محمود كعادته  يتنفس تلك الأنثى بعينها، وظلّ يكتب لها وإلى الأبد  أزرقه المهدور بثقة الماء الذي لم يعلّمه الراحة – الغرق، كما في قصيدته “الذي لم يتعلم الغرق” التي تقول:

واقفٌ بأعواميَ الأخيرة
أسوّرُ الأغنيات كبستانيّ
لإمرأةٍ من الفاكهة
لكنّ الهواء مرّ أخيراً
مرّ كسؤالٍ أزرقٍ
إلى حيث البحر
فصرتُ أمشي.. أمشي
وما زلتُ أمشي على الماء
ولم أتعلّم الغرق.
   يرسم لقمان محمود في “القمر البعيد من حريتي” خرائط جديدة لحبه، ورسومات حركية لأحلامه المبعثرة بين “ألمانيا”- منفاه، و”عامودا”- مسقط رأسه، و”السليمانية” – مكان إقامته الحالية، ربّما ليستنشق الهواء دفعة واحدة،  ليتعلم الغرق كما أراد دائماً:
هذا الذي لم يتعلّم الغرق
ما زال يقول:
تزورني – دلشا – كلَّ نومٍ
لتسهرَ في أحلامي
:هي خرساء
وأنا أعمى.
   في قصيدته “سلالم لصعود الموتى” يلج الشاعر عوالم جديدة،  تفضي إلى مناخات جديدة أيضاً، بعد تجربة ثرة في “مجد سكران” مع الشعر، مجد سيؤرخه لقمان محمود يوماً ما بكل تأكيد، فله باعه الطويل في الشعر، لذلك يختزله، يكثفه، ويلبسه أثواب ذو خياطة يدوية. يُهدئ أحياناً من روعة قصيدته، لكنه لا يُهدئ أبداً من روعته في جلب خيوط قصيدته الخاصة، وسكب أهوائها إلى روحه التائهة في ملكوت مدن يشتاق إليها في زمن نوستاليجا الجنون:
محتشداً بالموتِ
أصعدُ سلالم الغيبوبة
لأخبر أمي
كي لاتنتظر سنابلها.
: أمي لاتنتظري
فحنطتكِ ضدّكِ.
لكني محتشدٌ بالموتِ
والوقتُ طبيبٌ متأخرٌ
يرفعُ السلالم
لصعود الموتى.
   يذهب لقمان محمود في قصيدته هذه إلى تقنيتين: تقنية المقطع، وتقنية السرد. المقطع الذي يؤديه لا يعتمد على التفاصيل ولا يرفضها، يكتبه بوصفه ممراً صغيراً مؤدياً إلى معنى، ولأجل ذلك فهو ينحاز إلى المعنى كائنة ما كانت اللغة المؤدية إليه. وعندما يكتب السرد، فإن شعرية السرد تتحقق في الحكاية التي ينشئها، ليس في السرد ذاته كصياغة، إنه يسرد الحكاية دون أن تكون اللغة موضع مساءلة، ودون أن تكون الحكاية متداولة أو معروفة أو مدونة قبلاً، فذلك ليس بذي أهمية، إنه يبتكرها أصلاً، أو يبتكرها من جديد، ليس باللغة بل عبرها، فاللغة أداة لإيصالها، حيث نجده من نافذة أخرى، يدلل على حكاية تؤدي بذاتها إلى معنى. كما في نفس القصيدة، حيث يقول:
    فوقعتُ كمن يقعُ في نومٍ سبقه نوم آخر، ثم يمضي لينام و إلى الأبد، تاركاً لغيبوبته تقشير الوقت، أو وضع صيغة نهائية لمسألة الانتحار، فسمعتُ من يقول: أين وصيتكَ، قلتُ، أبي مات دون وصية، وأمي كذلك.  لكنه أعارني قلمه وأجبرني على الكتابة، وبينما أنا منكبٌ على كتابة لا تنتهي، كانت أمي واقفة تحدق في أصابعي، لم أندهش، بل تملكني خجلٌ جعلني أخفي أصابعي القصيرة جداً إزاء أظافري الطويلة، ولا إرادياً قلتُ: الأظافرُ رئات الأصابع، لكنها قالتْ: أصابعكَ نارٌ في يد الحريق، فأخفيت أصابعي بين كومة الأوراق، متوسلاً بنظرتي تفسيراً، بينما كان الدخان يتصاعد من الأوراق متوسلاً إلى النار أن يتخفى في ثياب الرماد.
   هكذا، يجمع لقمان محمود في كتابته تقنية المقطع، وتقنية السرد، وهي أهم سمة من سمات قصيدته. وبعبارة أدق، هذا هو القمان محمود، الصديق والشاعر، الذي أعرفه منذ أكثر من عقدين، والذي يكتب قصائد مدهشة مثل عشقه المدهش، مثل سيرته المدهشة في استنشاق روح المسافات بين عامودا و ألمانيا والسليمانية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…

صدرت الترجمة الفرنسية لسيرة إبراهيم محمود الفكرية” بروق تتقاسم رأسي ” عن دار ” آزادي ” في باريس حديثاً ” 2025 “، بترجمة الباحث والمترجم صبحي دقوري، وتحت عنوان :

Les éclaires se partagent ma tête: La Biography Intellectuelle

جاء الكتاب بترجمة دقيقة وغلاف أنيق، وفي ” 2012 ”

وقد صدر كتاب” بروق تتقاسم رأسي: سيرة فكرية” عن…

كردستان يوسف

هل يمكن أن يكون قلم المرأة حراً في التعبير؟ من روح هذا التساؤل الذي يبدو بسيطاً لكنه يعكس في جوهره معركة طويلة بين الصمت والكلمة، بين الخضوع والوعي، بين التاريخ الذكوري الذي كتب عنها، وتاريخها الذي تكتبه بنفسها الآن، فكل امرأة تمسك القلم تمسك معه ميراثاً ثقيلا ً من المنع والتأطير والرقابة، وكل حرف…