دلاور زنكي
لا شك أن المعايش للأدب الكردي يلمس فيه كثيراً من مشاعر الشكوى والتبرم والسوداوية، ولكنه سرعان ما يكتشف أن ذلك كله يرجع سببياً إلى ما عاناه وقاساه الشعب الكردي من أحوال مأساوية غاية في الشدة والشظف، ولعل ذلك ليس من قبل الناحية المعيشية بالدرجة الأولى؛ وإنما من جهة الحالة الاجتماعية التي عاش صروفها الأكراد، وهم قوم تسمهم البداوة بسمتها الجافة، وذلك يعود في النهاية إلى قساوة الأحوال الاقتصادية التي تبعدهم عن الحضارة ورقتها وحنانها أقصى بعد.
ولذلك كله آلت أمورهم إلى التشرذم والتنازع والتعادي ومن ثم إلى الانكسار والبؤس، وكان لا بد أن ينعكس ذلك على أدبهم وكتاباتهم التي تعتبر مرآة الحياة بكل مظاهرها ومضامينها. من أجل ذلك يجب أن يقرأ دارس الأدب الكردي سطوراً تمتلئ بالتحسر والتفجع في قصائد الشاعر والمفكر “أحمد الخاني ” (1651-1706)م التي تدوّي صراخاً وعويلاً يبعثهما إشفاقه الكبير وألمه العميق لتنازع الأكراد وتفرق كلمتهم وتفشي العداوات بين جماعاتهم وأفرادهم متناسين صلات الرحم وقرابة الدم ووحدة الأرض واللغة، فضلاً عن وشائج الإنسانية التي من المفترض أن يشعر بها الإنسان حيال أخيه الإنسان، لاسيما أن عوامل الخلاف والشقاق اللذين تفشيا بينهم كانت واهية وتافهة من صنع السعاية والنميمة التي أوجدها واختلقها الوشاة والحاسدون ذوو النفوس الدنيئة كما في رواية (مم وزين)، وذلك أيضاً ما يمكننا أن نتلمسه في أبيات مبثوثة من الشعر الذي نظمه “الخاني” منذ قرابة أربعة قرون متحدثاً عن الشقاق الذي لا ينتهي والخلاف الذي لا ينفض وكأنهما سجيتان قسريتان من سجايا الإنسان الكردي في كل زمان ومكان. وفي التراث الشعبي الكردي قد نشاهد صوراً باهرة من القسوة في التنافس بين الآباء والأبناء وبين الشقيق والشقيق مثال ذلك ما ورد في “ملحمة” حمدين وشمدين إذ كان والد شمدين “وهو الأخ الأكبر” ووالد حمدين “وهو الأخ الأصغر” يعيشان في ودٍ و وئام، يديران شؤون العشيرة ويسوسان الرعية على أحسن الوجه، ثم ما لبث الحساد والوشاة والأفاكون حتى أفسدوا ما بينهما من الألفة والانسجام بعدما زعموا لوالد شمدين أن أخاه الأصغر والد حمدين يسعى إلى نزع السلطة من يده وإقصائه عن زعامة العشيرة، ووسعهم أن يوعزوا صدره فنقم على أخيه ثم دبر مكيدة لاغتياله. إلا أن الرواية- بعد كثر من الأحداث- تتجه إلى منحى إنساني حين يدرك حمدين أن والده قد غُدر به بتدبير الأعداء فيكف عن التفكير في الثأر وينشىء صرحاً للمودة بينه وبين ابن عمه حمدين ويلزم نفسه بنسيان ما جرى.
من الواضح أن التهافت على السيادة والاستئثار بالسلطة زيّنا للأخ أن يتخلص من أخيه خشية أن ينازعه المكانة ويسلب منه ملكاً.
إن الإنسان البدائي، إنسان الغابات والكهوف قد لا يميّز الخير من الشر ولا الحسنة من السيئة وقد لا يكون ملوماً لعلة افتقاره إلى مَلكَة التمييز، لأن مصدر سلوكه هو الغريزة الخرقاء التي لم تهذبها التربية ولم تشذ بها يد الحضارة. إننا وإن التمسنا عذراً لهذا الأهوج البدائي، والتمسنا كذلك مثل هذا العذر لقابيل في جريرته التي تفشت فيما بعد بين الخليقة فلن يكون في وسعنا العثور على ذريعة مهما كانت واهية لإنسان خرج من ربقة الجهل، واستوعب أفانين المعارف والعلوم واكتشف كثيراً من الأسرار في الكون فإن ارتكب إثماً ارتكبه عن دراية وإدراك لأن عهده بالغابة والمغارة تجاوز الاف القرون والأعوام.
إن الإنسان الكردي مفطوراً على الجرأة والبسالة والإقدام أبيّ النفس يرفض أن يكون تابعاً لغيره، ويأبى أن تكون مقاليد أمره في يد الآخرين… وهو شديد الزهو بالبطولات… يخوض غمار المعارك دون خوف أو وجل، يباهي الناس بأسلافه ويفاخر بمآثرهم و وقائعهم.. متأجج العاطفة.. يعطف على الغرباء ويمنحهم ثقته ويركن إليهم.. ولم استغل الغرباء هذه الثقة واحتالوا عليه والحقوا به وبأرضه المصائب والويلات والشواهد على ذلك كثيرة لا تحصى ولا تعد. إن تلك الثقة العمياء وتلك العواطف الجياشة والأنانية وحب الذات أدواء وعلل وبيلة نخرت العظم في الجسد الكردي منذ آمادٍ طويلة ومازالت تنخر دون هوادة وتمزق كيانه. وهذه الأسقام ت بأسماء هي التي جعلت من دولته الموحدة أجزاء لا تكاد تتجزأ “فإذا كل جزء من أجزائها أجزاء”.
إننا لو ألقينا نظرة عجلى على المصورات والخرائط الجغرافية لشتى أصقاع الكرة الأرضية لما ألقينا أو عثرنا على رقعة من الأرض مثل أرض كردستان قامت عليها إمارات وخانات ودول صغيرة ودويلات بأسماء وزعامات مختلفة. ولم تكن في عهد من عهودها تخلو من شقاق وتنازع بين أصحاب السلطة والمهيمنين عليها متغاضين عن إخوّة العرق والوطن واللسان.
يتحدث المفكر الشاعر والأديب أوصمان صبري (1905-1993)م في إحدى كتاباته التي تتناول سيرته الذاتية عن عدة إمارات صغيرة نشأت على مساحة صغيرة من الأرض الكردستانية “ذكر فيها اسماءها وألمّ بأسماء أمرائها وذكر أنه سليل أحد اولئك الأمراء الذين حكموا تلك الإمارات ذات المساحات الضيقة.
لابأس في أن يتذكر المرء مكرمات آبائه وأجداده، ويتذكر أيام سعدهم في ماضيهم المشرق العتيد، ويسرد قصص مآثرهم ويستحضر ما ازدهر من حضارتهم في يوم من الأيام… إلا أنه من غير المستحسن أن يستغرق في التخيل والعيش في الماضي والغياب عن حاضره وصرف النظر عن مستقبله.
إننا اليوم بأمس الحاجة إلى من يكشف لنا أخطاء أو عيوب، لا أن يلتمس لنا الأعذار في انحرافنا عن سوء السبيل.
يُروى أن أحد الحكماء اعتكف في بيته واعتزل الناس، فلما طال مكوثه خوطب في سر ابتعاده عنهم فقال لهم:
-وماذا أصنع بقوم يخفون عني عيوبي؟
إن الأمم والشعوب لا تموت ولا تفنى ولكنها قد تنُدحر إذا أُهمل أمرها وسها عنها أهل الحل والربط.
إن الأكراد لن يهزموا بعد اليوم من ضعف أو قلة عدد اذا صدقت النية وصح العزم وحاذروا أن يقعوا في حبائل المخاتلين وتخلى الكبار عن نرجسيتهم، وعندئذ لا بدّ من أن يبلغوا ذروة المجد الذي به يحلمون.
من الواضح أن التهافت على السيادة والاستئثار بالسلطة زيّنا للأخ أن يتخلص من أخيه خشية أن ينازعه المكانة ويسلب منه ملكاً.
إن الإنسان البدائي، إنسان الغابات والكهوف قد لا يميّز الخير من الشر ولا الحسنة من السيئة وقد لا يكون ملوماً لعلة افتقاره إلى مَلكَة التمييز، لأن مصدر سلوكه هو الغريزة الخرقاء التي لم تهذبها التربية ولم تشذ بها يد الحضارة. إننا وإن التمسنا عذراً لهذا الأهوج البدائي، والتمسنا كذلك مثل هذا العذر لقابيل في جريرته التي تفشت فيما بعد بين الخليقة فلن يكون في وسعنا العثور على ذريعة مهما كانت واهية لإنسان خرج من ربقة الجهل، واستوعب أفانين المعارف والعلوم واكتشف كثيراً من الأسرار في الكون فإن ارتكب إثماً ارتكبه عن دراية وإدراك لأن عهده بالغابة والمغارة تجاوز الاف القرون والأعوام.
إن الإنسان الكردي مفطوراً على الجرأة والبسالة والإقدام أبيّ النفس يرفض أن يكون تابعاً لغيره، ويأبى أن تكون مقاليد أمره في يد الآخرين… وهو شديد الزهو بالبطولات… يخوض غمار المعارك دون خوف أو وجل، يباهي الناس بأسلافه ويفاخر بمآثرهم و وقائعهم.. متأجج العاطفة.. يعطف على الغرباء ويمنحهم ثقته ويركن إليهم.. ولم استغل الغرباء هذه الثقة واحتالوا عليه والحقوا به وبأرضه المصائب والويلات والشواهد على ذلك كثيرة لا تحصى ولا تعد. إن تلك الثقة العمياء وتلك العواطف الجياشة والأنانية وحب الذات أدواء وعلل وبيلة نخرت العظم في الجسد الكردي منذ آمادٍ طويلة ومازالت تنخر دون هوادة وتمزق كيانه. وهذه الأسقام ت بأسماء هي التي جعلت من دولته الموحدة أجزاء لا تكاد تتجزأ “فإذا كل جزء من أجزائها أجزاء”.
إننا لو ألقينا نظرة عجلى على المصورات والخرائط الجغرافية لشتى أصقاع الكرة الأرضية لما ألقينا أو عثرنا على رقعة من الأرض مثل أرض كردستان قامت عليها إمارات وخانات ودول صغيرة ودويلات بأسماء وزعامات مختلفة. ولم تكن في عهد من عهودها تخلو من شقاق وتنازع بين أصحاب السلطة والمهيمنين عليها متغاضين عن إخوّة العرق والوطن واللسان.
يتحدث المفكر الشاعر والأديب أوصمان صبري (1905-1993)م في إحدى كتاباته التي تتناول سيرته الذاتية عن عدة إمارات صغيرة نشأت على مساحة صغيرة من الأرض الكردستانية “ذكر فيها اسماءها وألمّ بأسماء أمرائها وذكر أنه سليل أحد اولئك الأمراء الذين حكموا تلك الإمارات ذات المساحات الضيقة.
لابأس في أن يتذكر المرء مكرمات آبائه وأجداده، ويتذكر أيام سعدهم في ماضيهم المشرق العتيد، ويسرد قصص مآثرهم ويستحضر ما ازدهر من حضارتهم في يوم من الأيام… إلا أنه من غير المستحسن أن يستغرق في التخيل والعيش في الماضي والغياب عن حاضره وصرف النظر عن مستقبله.
إننا اليوم بأمس الحاجة إلى من يكشف لنا أخطاء أو عيوب، لا أن يلتمس لنا الأعذار في انحرافنا عن سوء السبيل.
يُروى أن أحد الحكماء اعتكف في بيته واعتزل الناس، فلما طال مكوثه خوطب في سر ابتعاده عنهم فقال لهم:
-وماذا أصنع بقوم يخفون عني عيوبي؟
إن الأمم والشعوب لا تموت ولا تفنى ولكنها قد تنُدحر إذا أُهمل أمرها وسها عنها أهل الحل والربط.
إن الأكراد لن يهزموا بعد اليوم من ضعف أو قلة عدد اذا صدقت النية وصح العزم وحاذروا أن يقعوا في حبائل المخاتلين وتخلى الكبار عن نرجسيتهم، وعندئذ لا بدّ من أن يبلغوا ذروة المجد الذي به يحلمون.