” حيث تتوقف الكلمات تبدأ الموسيقا ” هايني
ساهم الصوفي إسهاما كبيراً في الموسيقا الكرديّة من خلال تسجيله لعملين كرديين، و قد برزت فيهما تجربته الشخصيّة و ذاته المبدعة كفنان متمرّس و بروح أكاديميّة متجاوزاً مناخ المستمع البسيط كما مرّر مزج الموسيقا الغربيّة بالشرقيّة، و فتح مجالاً في تركيبة اللحن الشرقي بإدخال علم الهارموني و الأسلوب الأوبرالي لأغنيتنا الكردية بطريقة محببة و سلسة و هذا ما يجعل اللحن محافظاً على بقائه و استمراره لأمد بعيد.
اللافت في أعمال الصوفي، أنّه مدرك لمعالم الموسيقا من خلال توظيفه المرهف للوتر بإيقاع منتظم الضربات، ففي تحفته الغنائية ” تو سوسني” حيث رتابة المحاورة و معايشة الكلمة بالوتر و كذلك التركيبة المقاميّة المحبوكة بتنوعها…. مصوراً فيها عمق تجربته و ارث الحالة الفنية لديه بمرونة الوصل ما بين اللحن و القصيدة.
إنّ طريقة ربط الجملة لديه متماثلة فيما بينها، فهو يباغت المتلقي في تصويره للمقام ممهداً للوهلات، محبكاً خيوطها بخفة و مرونة مع بحثه الدؤوب في فلك الموروث ليصحبك إلى بر الأمان متحدياً عقبات المرور، فتجده يؤدي النقلة اللحنية بخميرة ثقافته الموسيقية.
ظهرفي ألبومه الغنائي ” أز ميفانه دله تمه ” المسجّل عام 1986م بزوغ المشاكسة لديه، قاصداً في هذه الرحلة إزاحة إشكاليات جمة من أمام الأغنية و الموسيقا الكرديّة معاً، و كرّس بصمته بخصوصية فنيّة و بنجاحها كسر الطوق الببغاوي عن الأغنية الكرديّة منها: تجنّب التكرار الساذج للجمل اللحنية و الدأب على اللازمات الموسيقية و تمرير بعض الإيقاعات لموسيقانا الكرديّة و جعلها تتأقلم مع محيطها الشرقي و العالمي.
و للصوفي الفضل في اكتشاف العازف الماهر ” أحمد جب” و توجيهه له بأن يسير في درب العمل الأكاديمي بعد أن شاركه في عمله الأول المذكور آنفاً، و قد ظهرت ملامح التطور جلياً على عزفه في مسيرته اللاحقة لهذه المشاركة.
العلامة البارزة للصوفي في ألبومه الأول أنّه اقترب كثيراً من نقطة هامة ألا وهي ترميم السلم الخماسي و إعادته إلى الذاكرة الكرديّة بتقارب عصري، حيث جمّل به أغنيته الرائعة ” من بان ته كر له سر آفه”
مخترقاً بها حيثية الأسلوب الغنائي في التعامل مع هذا المقام لدى الكرد بحنكة فنية لا متناهية، و اعتمد اللكنة الأفريقية و الزنجيّة الأكثر قرباً لما هو دارج لدى الكرد الكوجر، علماً أنّ السلم الخماسي متداول لدى الكرد القدامى و حالياً متداول في المثلث الحدودي بمنطقة ديريك و يطلقون عليه ” بايزوك” إلا أنّ الصوفي تفادى الأسلوب الكوجري و مزجه بالعالميّة لغاية في نفسه.
ظهر الألبوم الغنائي الثاني للصوفي بعنوان ” مي نه نوشيه” عام 1993م حاملاً معه بوادر النضج لرؤاه الفنية المتمثلة برواسب الماضي الجميل و الملقاة في حوانيت الذاكرة الحمقاء و الإصرار على المضي قدماً في مسيرته الفنية رغم الفقر و الحرمان، متخطياً الأوركسترا الموسيقية بعوده البرّاق، فارضاً صوفيته الفنيّة، مقتحماً حدائق الأدب الكردي، فاختار أجمل ما كتبه الشاعر الكردي المنغمس بروح الصوفية و العشق ” ملاي جزيري”، و قد دمج الصوفي قصيدتين له و هما ” مي نه نوشه ” و ” صباح الخير خانه من”.
لقد استعرض الصوفي فلسفته الموسيقية و اختصر إيماءات مخيلة الجزيري من حضور فلسفي و جدلية جمال الكلمة بزمن ريشة الفنان.
إنّ ما يصبو إليه الصوفي في أغنيته” مي نه نوشيه” إلهاؤك بمساحاته الصوتية لإيصالك إلى عالم أعمق
كما يمرر إدخال فن ” كروماتيك” في هذه اللوحة دونأن تستوقفك التقنية الفنية أي استطاع تحويل جمود التقنية إلى إحساس جميل.
و قد استطاع أن يوظّف مزاجيته الفنيّة في أغنيته التي سبق ذكرها إذ يرتجل الجملة بلكنة مغايرة لكنّها مدروسة، و هي حالة نادرة لدى الفنانين و صعبة التمكن، لا يجيدها إلا العمالقة و الموهوبون.
كما أنّه وظّف في أغانيه الصوت المستعار من قرار و جواب، ففي أغنيته ” فلسفه آخه” يأخذك الصوفي إلى عالم يملؤوه الأمل مشيراً إلى صراع الخير و الشر ليصل بك إلى حالة من خيبة الأمل !
وقد أضاف الصوفي وتر القرار السابع للعود و هذا الأمر بحد ذاته خصوصية لديه كعازف ذي شخصية مستقلة، و محاور بليغ مع الآلة يوظّف ارتجالاته مستفيداً من ذاكرته ليصل إلى حالة أقرب إلى النسج السيمفوني و هذا ما نلاحظه في عزفه المنفرد.
كما أنّه أجاد في مجال الإنشاد الديني و تلاوة القرآن بحب و عشق و فصاحة لسان، و لحن الكثير من الأغاني بالعربيّة حتى أنّه أدهش المستمع العربي من خلال تلحينه لأروع قصائد الشاعر الصوفي المشهور ” ابن الفارض”
و حالته الإبداعية هذه لم تأت من فراغ، فهو سليل أسرة صوفية تعشق الموسيقا و تعيشها دوماً، و هذا الفنان و إن لم يأخذ المكانة التي يستحقها، فقد ترك بصمته واضحة فيمن أتى من بعده أو تتلمذ على يديه
و ختاماً أقول بأنّنا نعيش في منطقة لا تحترم مبدعيها و فنانيها، و هذا الفنان وقع ضحيّة لغياب المؤسسات و الجمعيات التي ترعى شؤون الفن و الفنانين بشكل عام.