مدينة تسكنني مدينة لا أسكنها

  هلبست يوسف

إلى قامشلوكي 22-10-2013

سنة، سنة بالتحديد، مرت اليوم22-10-2013، على اليوم الأخير الذي غادرت فيه مدينة قامشلو، متوجهة للحاق بالأسرة التي كانت موزعة وقتها على أربع جهات، كنت حريصة أن أترك كل شيء على حاله: الكتب وملابس الشتاء التي لاتلزم وذكريات طويلة من لحظة الولادة وحتى لحظة السفر والدموع الحارة التي أودع بها: الأهل-الجيران- صديقات الطفولة، بيتنا، شارعنا “شارع الحرية الذي ولدت فيه” الحي الغربي، قامشلو، وجوه الناس-أصوات الباعة المتجولين- مظاهرات أيام الجمعة التي أعتز أني كنت وجدت التحضيرات الأولى لها من أحد عناوينها عندما صارت المدينة كلها عناوين لها بين مشارك ومتابع، ولايزال صوتها في أذني” يللا ارحل يابشار”.
لم يخطر ببالي لحظة واحدة أن سفرتي هذه وهي الأولى خارج سوريا ستستغرق كل هذه المدة، فقد تركت كل شيء كما هو، طالما عودتي إلى مدينتي مؤكدة، فأنا أفضلها على كل مدن العالم، اسمها محبب إلى قلبي” ق –ا-م- ش- ل-و، و هي مركز الكون بنظري، وأنا لازلت أعتقد أن كل من لم يزرهذه المدينة ثقافته ناقصة، وإنه لم يكتشف العالم كله، وكل من لم يحب قامشلو حبه ناقص..
لم أغادر هذه المدينة إلا مرات قليلة عندما سجلت في الجامعة، وعندما حاولت تقديم امتحانات مواد الفصل الدراسي الأول، وسط حالة الرعب، وكنت أشعر بين تقديم مادة امتحانية وأخرى أن خيوطاً خفية تجرني من قلبي إلى مسقط رأسي، كنت أسمع اسمها في أذني مختلطاً بصوت أمي وأهلي وصديقاتي وجيراني، ولهذا سرعان ما عدت إليها، وأنا أفكر” كيف سأمضي فترات امتحان الجامعة بعيداً عن قامشلو”، وإن كنت لا أستطيع العودة ثانية إلى جامعتي، جامعتي التي خسرتها، نتيجة أوضاع دمشق، وارتفاع منسوب الخوف فيها على أيدي قوات و شبيحة النظام الذين كانوا يدققون في الوجوه، يتابعون الطلبة والطالبات حتى إلى مراكز الامتحانات، بالرغم من أن الثورة السورية كانت سلمية في أشهرها الأولى.
وصلت إلى المكان الجديد، المكان الجديد حياة أخرى، قرأت عنه عبر بعض المقالات المكتوبة في الإنترنت، كنت أعرف أنه يشبه أوربا، بالفعل كل شيء في المكان كان هكذا، ولكن كان السؤال الذي يؤرقني “أين قامشلو؟”، كل شيء هنا أقارنه بمدينتي: الشوارع- المباني- آرمات المحلات، صحيح أن هناك مفارقة كبيرة، بين هذه المدينة الجديدة ومدينتي نتيجة الظروف التي نعرفها كلنا، لكن قامشلو التي تصل إلى دور مكانة الأم، لا تعوض عنها كل مدن العالم، وكل قارات العالم، لا نكهة طيبة لأي شيء خارج قامشلو.
وقامشلو أصطحبتها معي، ذكريات واسماً ورائحة، هي محور كل شيء عندي، لا أستطيع أن أنظر إلى ما حولي إلا من خلالها، هي بيتي الأكبر، وهي نواة القصة التي أكتبها، وهي نواة القصيدة التي أكتبها، أقف أمامها أحاورها، أستيقظ على صورها وصوت أهلها الذين أحملهم معي، وأجدد الموعد في كل مرة على أن أرجع، وإن كنت أفشل في مواعيدي هذه، لكني ومع كل فشل أحدد موعداً آخر، كان الموعد الأول شهراً، لم أتصور أني سأبتعد عن قامشلو أكثر منها، وها هي سنة كاملة تمر، وأنا دون قامشلو.
 المسافات بيني وبين قامشلو بعيدة، الزمان الذي مر دون قامشلو طويل جداً، ومع أني أستطيع اختصارهما في كل لحظة، ومع أن قامشلو تخرج من القصيدة، وتخرج من القصة، وتقف معي، أحملها، إلا أنها لاتغيب عن عيني، لا تغيب عن كياني، لا تغيب عن روحي لأنها تعلم أن كل فرحة لي ناقصة إن أكن بعيدة عنها، قامشلو تسكنني، تسكن مساماتي، وإن كنت أجد أني ما أزال بعيدة عنها، بانتظار العودة إلى حضنها الدافىء.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

رضوان شيخو

يا عازف العود، مهلا حين تعزفه!
لا تزعج العود، إن العود حساس..
أوتاره تشبه الأوتار في نغمي
في عزفها الحب، إن الحب وسواس
كأنما موجة الآلام تتبعنا
من بين أشيائها سيف ومتراس،
تختار من بين ما تختار أفئدة
ضاقت لها من صروف الدهر أنفاس
تكابد العيش طرا دونما صخب
وقد غزا كل من في الدار إفلاس
يا صاحب العود، لا تهزأ بنائبة
قد كان من…

ماهين شيخاني

الآن… هي هناك، في المطار، في دولة الأردن. لا أعلم إن كان مطار الملكة علياء أم غيره، فما قيمة الأسماء حين تضيع منّا الأوطان والأحبة..؟. لحظات فقط وستكون داخل الطائرة، تحلّق بعيداً عن ترابها، عن الدار التي شهدت خطواتها الأولى، عن كل ركن كنت أزيّنه بابتسامتها الصغيرة.

أنا وحدي الآن، حارس دموعها ومخبأ أسرارها. لم…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

فَلسفةُ الجَمَالِ هِيَ فَرْعٌ مِنَ الفَلسفةِ يَدْرُسُ طَبيعةَ الجَمَالِ والذَّوْقِ والفَنِّ ، في الطبيعةِ والأعمالِ البشريةِ والأنساقِ الاجتماعية، وَيُكَرِّسُ التفكيرَ النَّقْدِيَّ في البُنى الثَّقَافيةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا في الفَنِّ، وَتَجَلِّيَاتِها في الطبيعة ، وانعكاساتِها في المُجتمع، وَيُحَلِّلُ التَّجَارِبَ الحِسِّيةَ، والبُنى العاطفية ، والتفاصيلَ الوِجْدَانِيَّة ، وَالقِيَمَ العقلانيةَ ،…

إبراهيم اليوسف

الكتابة البقاء

لم تدخل مزكين حسكو عالم الكتابة كما حال من هو عابر في نزهة عابرة، بل اندفعت إليه كمن يلقي بنفسه في محرقة يومية، عبر معركة وجودية، حيث الكلمة ليست زينة ولا ترفاً، مادامت تملك كل شروط الجمال العالي: روحاً وحضوراً، لأن الكلمة في منظورها ليست إلا فعل انتماء كامل إلى لغة أرادت أن…