استنساخ «سانشو»

إبراهيم اليوسف

كشفت رائعة الكاتب الإسباني الكبير ميغيل دي سيرفانتس1547-1616″ دونكيشوت” عن هشاشة أنموذجين من الشخصيات التي كانت تعيش بين ظهراني الحياة في المجتمع الإسباني، على اعتبارها تعيش الراهن، بروح الماضي، إذ  نقع على شخصية ذلك الفلاح البسيط”سانشو” التي يلتقطها “دونكيشوت”، المولع  بأدوارالبطولة والفروسية التي قرأ عنها في الكتب، أو سمع حكاياتها، ليرمم قطعة سلاح قديم  لآبائه، عثرعليها في إحدى زوايا منزل الأسرة، كما يعدُّ رمحاً، وخوذة، وحصاناً هزيلاً مثله، ليحاكي شخصيات فرسان العصورالماضية،
وهنا فإنه يدرك حاجته إلى مرافق له، فلا يتلكأ في العثور على “سانشو” الذي سرعان ما يغدو تابعاً له، بعد غوايته، وإغرائه، كي يشاركه المعارك الخاسرة التي يخوضها، ومنها مقارعة طواحين الهواء التي ينبهه مرافقه، أو تابعه إلى ضرورة الكفّ عن مواجهتها، فهي ليست كائنات بأذرعة هائلة، إلى أن ترميه أرضاً، من دون أن يتراجع عن مواصلة حروبه التي خيل إليه أنها ستدخله التاريخ، وهو يعيش عالم الوهم، فهاهو يبصر غبار قطيع من الغنم، يظنه جيشاً جراراً، فيهرع للانقضاض عليه، كي يجهز على بعضه، ليدفع ضريبة ذلك من قبل الرعاة، لطماً، وركلاً، وسوى ذلك، فيفتقد بعض أسنانه نتيجة هذه المواجهة، من دون أن يفلت تابعه هو الآخر من العقاب، لاسيما أن مهمات الحرب قد وزعها “دونكيشوت” بإتقان، إذ تكفل،  بنفسه، مواجهة الفرسان، بيد أنه ترك لتابعه مهمة مواجهة الناس العاديين.

شخصية “سانشو”، رغم أن كثيراً من الدراسات قد تناولتها، عبر قرون عدة، على هامش تناولها للشخصية المحورية في رواية “سرفانتس”، هذه، إلا أنها جديرة-هي الأخرى- بالوقوف عندها طويلاً، أكثر، وباستمرار، أمام ظاهرة استفحالها، وانتشارها، لأنها تمتلك قدراً كبيراً من الصفات الخاصة، فمقابل استغراق الشخصية المحورية “دونكيشوت” في انقطاعه عن الواقع، وعيشه في عالم الخيال، وحلمه  بتحقيق البطولات، و كبريات الفتوحات، دون أن يمتلك مقوماتها، بدءاً بجسده الهزيل، أو أسلحته القديمة، المهترئة التي لا تنتمي إلى العصر، بل ومن دون أن يكون العصر-نفسه- ملائماً للبطولة، كما أن المكان- هو الآخر- غير مناسب،  وهلمجرا..، فإن تابعه- وإن كان مختلفاً- لكنه، و رغم  إدراكه لحقيقة الواقع، وخطل سلوكيات متبوعه، إلا أنه وتحت وطأة حلمه في أن يحقق مآربه، ويغدو حاكماً على إحدى المقاطعات، يتناسى فهمه لطبيعة هذا البطل الوهمي، معلقاً عليه الآمال، وإن كان سيجر أذيال الهزيمة، مرة تلو أخرى، متجرعاً مرارات صدمة الواقع، كي يلتقي هنا: الموهوم، والمحظو بالحدِّ الأدنى من البصيرة، مادام هذا الأخير مدفوعاً بمكاسب فوق واقعية، يريد الوصول إليها من دون امتلاك أدواتها، وشروطها، ومقوماتها.

 أجل، هذه الشخصية، الأخيرة -تحديداً- والتي باتت منتشرة على نطاق واسع، تتحمل جزءاً من مسؤولية وزر شرور الشخصية المتبوعة، بل تتقاسمها مرضها، حتى وإن كانت ترى الواقع بعينها، أو حتى لو نقدتها، مادامت منقادة إلى الشخصية التابعة، التي لا يمكن أن تنمو، وتتحرك من دونها، حيث أن لها “شيزوفرينيتها” الخاصة، وهي تصلح لأن يتمَّ تناولها، واستقراؤها من جديد، لاسيما في ظل اندياح دائرة المنتمين إليها، لتكون شريكاً، بل وسيلة بما يلحق الواقع من إذاءات هائلة، لها تفاصيلها في مسارات اللحظة الراهنة والمرصودة.

إبراهيم اليوسف
elyousef@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…