ينتقل الشاعر بعد ذلك الى لوحة اخرى في وصف تلك المرأة التي ترقص بين شغاف قلبه حيث يقول:
.. وانت معي
لماذا ترتفع الارض قليلا
هل لان جميع جاذبيتها
.. وانت معي
لماذا ترتفع الارض قليلا
هل لان جميع جاذبيتها
بناء المقطع رمزي حيث الشاعر يتلعب بكلمات من رجل الوصول الى غايته التي يريد ان يوصلها الى الاخرين حيث يعطي المقطع بان الشاعر يخزن مشاعر الهروب من الواقع الى عالم خال من كل الاوجاع والالام, حيث يقول:
اذا كشفت اليابسة عن عورتها
ماذا بامكان المطر ان يفعله
في غياب الغيوم؟)
اذا كشفت اليابسة عن عورتها
ماذا بامكان المطر ان يفعله
في غياب الغيوم؟)
ويتواصل الشاعر في بناء المقاطع الرمزية التي تعطي معاني يصعب على الشاعر قولها, حيث يقول::
اذا قلت احبك
لماذا سيغمى على كلامي؟
ارى ان الشاعر هنا في هذا المقطع قد وفق في هذه اللوحة في التصوير, حيث يعبر عن حالة شوق بين شجرتين عاشقتين. فيقول:
اذا حصلت علاقة حب
بين شجرتين
بينهما مسافة بعيدة
في هذا المقطع يرى الشاعران مركز مشاعر برجل يتمركز في قلبه فاذا, هرب منه, فاين يضعه وسط هذا العالم الذي تسوده الكراهية والحقد, والتعسف الذي يطال كل شيء جميل في عالم قذر, لا يملك أي رحمة على الذين ينامون تحت انقاض الوهم الكبير الذي يسمونه الحب, حيث يقول:
اذا شلح رجل قلبه
فاين سيعلقه؟
ونستطيع القول من خلال وصف هذه الأماكن التي احتوتها مقدمات الشاعر لقمان محمود أنّها تعكس لدينا بُعداً وأثراً نفسياً في مخيلته يستطيع من خلاله الشاعر الربط بين الحاضر والماضي فتبعث هذه الصلة في مشاعره وعواطفه المليئة بالحنان والشوق إلى تلك الأيام ,فتتزاحم الأفكار والصور في مخيلة الشاعر لقمان محمود عند تلك الديار والوقوف عليها وكأنه أراد استنطاق تلك الديار، ديار الأحباب وماضيه وعلاقاته منذ أيام الصبا, واستخلص أحد الباحثين المعاصرين في أهمية المقدمة أن الشاعر قد يجمع في مخيلته بين عنصرين أساسيين الأول يُذكر بالفناء أي الأطلال والآخر يذكر بالحياة أي الحب واجتماع هذين النقيضين وارتباط أحدهما بالآخر عند الشاعر تأكيد إحساس الشاعر بالتناقض العام سواء كان في العالم الخارجي أم عالمه الباطني وبالنتيجة يمثل واقع الحياة وكيان الفرد، وهذا ما يؤكد لنا أن مقدمة القصيدة لم تكن إلاّ تعبيراً عن أزمة يمر بها الشاعر. وشكلت المقدمات الغزلية حضوراً متميزاً في قصائد الشاعر لقمان محمود، واختلفت آراء النقاد في معنى الغزل والنسيب، فمنهم من َردَّ أصلهما إلى معنى واحد, ويرى آخرون عكس ذلك، أن الغزل يرتبط بحديث الشاعر في وصف المرأة بالحسن وأن النسيب هو الإخبار عن تصرف هواها فيه, إلاّ أنَّ صاحب اللسان يرى أن الغزل يختص بحديث الفتيان والفتيات واللهو مع النساء، أما النسيب فهو التشبيب بالنساء والتغزل بهن, ويرى أحد الباحثين أن الغزل والنسيب والتشبيب لها دلالات ومعانٍ خاصة بكل واحدة من هذه الألفاظ، التي تشكل المرأة المحور الرئيس لافتتاحيات الشعراء, وقد اختلفت صورتها وأبعادها تبعاً لحالة الشاعر لقمان محمود النفسية وطبيعة الحدث الرئيس للقصيدة، وأرى أنها غالباً ما جاءت مكملة لتجاربه في الطلل وذكر الديار والترحال، حيث نجدها تلونت بألوانها المختلفة ويمكن أن تكون قد فرضت على الشاعر نفسه وهو يستذكر تلك الأيام الخوالي وتلك الذكريات ورسوم الديار، ومن تلك المقدمات الغزلية للشاعر لقمان محمود حيث يتذكر محبوبته (دلشا) فتهيج عنده الأَلم والشوق والحنين فيذكر ديارها والمواضع التي كانت فيها، فمن هذا الفراق وما أصابه من الكبر والحزن، ويجسّد الشاعر هذه المعاني في قوله:
واقف باعوامي الاخيرة
اسوار الاغنيات كبستاني
لامرأة من الفاكهة
وأرى أن الشاعر هنا قد وفّق في هذه اللوحة في تصوير همومه وما ألمَّ به من حزن ولوعة في قلبه، ثم ينتقل إلى لوحة أخرى، فيشكو حاله من تقدم العمر به، فلا يسمع كلامه أحدُ بعد أن كان الآمر والناهي في شبابه. وفي مقدمة أخرى لقصيدة رائعة يُعبّر فيها الشاعر عن لوعته لحبيبته (دلشا) التي بعدت عنه بجسدها, ولكنها قريبة بروحها معه, وقد اشتد به العشق اليها, فيصفعا باجمل الاوصاف, حيث يقول:
دلشا، كل ما اعرفه
:انني ولدت قبل الله, ولدت فيك
ترعرعت قبل صياغة الاوطان، ترعرعت فيك
وفي مقدمة مقطع اخرمن القصيدة يتخيل الشاعر انه من غير حبيبته مجرد انسان يتكلم ويأكل فقط وقد هربت منه روحه الى المجهول, حيث هناك امرأة تنتظر قدومه بين الاف الرجال الموجودين, فتختاره من بينهم ليكون الهواء الذي تتنفسه وسط اختناقات انفاس الساعات التي هربت منها اليه ,لهذا يقول:
اعرفك دلشا, واعرف انك سهوا تنادين
على جميع اصدقائي باسمي, وهذا ما يجعلهم
يغضبون, ويسحبون من صوتك جسمي
ويستمر هذا الحوار إلى نهاية القصيدة بأسلوب قصصي، وعلى الرغم من أن هذه الشكوى من المقدمات التي دخل إليها الشاعر مباشرة تتجه بعد ذلك إلى النصح والإرشاد وضرب الأمثال، ومن خلال هذه الحوارات نلمس أن الشاعر يبدأ حديثه مستثمراً ومُستشعراً فاعليتها لتحقيق زخم تأثيري شديد يستدرك فيه عواطف المتلقي وقناعته بالموقف الموضوعي مستخدماً لذلك عدّة عناصر مختلفة يقيم من خلالها حوارات خفية أو صريحة تشخص معاناة الشاعر وتأملاته لتلك الشخصية ودوافعها النفسية مسقطاً عليها كل الأحاسيس المشروعة من خوف وقلق وحذر وتنبيه لها من تلك الأعمال غير المقبولة لينفرد هو بنفسه صاحب الموقف الشجاع والشخصية القوية مجسّداً ذلك في إطار البناء الشعري، وبذلك لم تقتصر مهمة المرأة عنده على تطويعها في لوحات الافتتاح فقط بل تحقق حضورها أيضاً في محاور بنية القصيدة من خلال تشكيل الحدث الشعري. وبعض الدارسين من عدَّ أن هذا الحوار حقيقي أو متخيّل من فكر الشاعر بقولهم (هو حوار حقيقي استحدثته الفكرة المؤقتة أو أوجبه العتاب والانفعال أو خلقه الظرف المناسب)أو أن هذا(الحوارُ متخيّل لاوجود للنسوة اللاتي تخيلهن الشعراء فيه)وهذا ما لمسناه عند الشاعر لقمان محمود لاسيّما في مقدمات الشكوى كما في قوله
تبدلت علاقتي الطيبة مع الليل, منذ تذكرت امي, حينما كانت
تدخل غرفتي كل وقت, وهكذا حتى دخولها الاخير كي تتوضا
لصلاة الفجر. مازلت على عادتي مع اختلاف كبير, ففي كل
ويمكن أن نخلص إلى أن هذا التنوع في لوحاته الافتتاحية لعنصر المرأة ناتج من تشابه الأَلم والحزن في قلبه تجاه هذه الحالة من جهة وتشابه مكونات ثقافته الشعرية من جهة أخرى, وعلى الرغم من أن تلك القصائد اتجهت إلى موضوع واحد لكن يبقى للمقدمة أثرها في بنية القصيدة من حيث الافتتاح وشدِّ ذهن السامع أو المتلقي إلى الانتباه والاستماع لما بعدها ومن المقدمات الأخرى التي وردت في مجموعته الشاعر لقمان محمود مقدمات الحكمة التي تعبّر عن موقف فكري وأخلاقي، فالشاعر لا يعني تسجيل وقائع العالم المحيط به أو عرضها وتحليلها إلاّ من خلال معاناة ذاتية يمتزج فيها الحدث والإحساس بالواقع، وكذلك يمكن لهذه الحكم أن تزيد من معنى القصيدة قوة وقدرة في توفير الأجواء الرئيسة التي تشكل منطلقاً نفسياً للتجربة الموضوعية وإن كان الغالب في تلك الحِكم ارتباطها بموضوع الرثاء فتعطيه مسحة من الحزن والعاطفة والتي يشيع فيها الألم والحسرة والتشاؤم.
فمن خلال تلك المحن والمصائب التي حلّت بالشاعر وما صاحبها من الألمِ والحزن والفراق، فقد جسّدت مقدماته في الحكمة معاناته بكل صدق وإخلاص، ومثل ذلك أيضاً في مقدمات الشاعر لقمان محمود التي جسّد فيها صور الحكمة بأسلوب جميل في الحب والحنان والتكاتف بين الإخوان لأنه خير ناصر لك عند الشدائد بعد الخالق سبحانه وتعالى، ومن هذه المقدمات، قوله:
سانسى مراقبتي المستمرة لدوار الشمس, لأنني لم اشعر يوما
بالدوخة, وسانسى شباكي الذي سقطت منه دون ان يصيب قلبي
أي كسور, وسانسى عادتي في اطفاء المصباح, كلما دخلت
ويظهر مما تقدّم من هذه المقدمات التي تميز بها مجموعة الشاعر لقمان محمود اختلاف تلك المقدمات وتباين موضوعاتها، سبب اختلاف المقدمات وطرحها لدى الشاعر ثلاثة أسباب لاختلافها وهي الإطار التراثي وطبيعة التجربة الموضوعية التي انبثق المخاض الإبداعي من خلالها وطبيعة التكوين النفسي والاجتماعي للشاعر.
وتُعدُّ لوحة الرحلة جانباً مهماً في بنية القصيدة العربية، فهي جزءٌ لا يتجزأ منها حيث يكمل فيها الشعراء تجاربهم الذاتية فتشكل جزءاً من معالجات الشعراء الفنية التي يطوعونها للتمهيد في قصائدهم، وثمة أغراض وأهداف تؤديها لوحة الرحلة، ولعلَّ من أظهرها تأكيد الفخر الذاتي عند الشعراء بالإشارة إلى شجاعتهم، وقديماً كان الشاعر يتخذ من وصف الناقة دليلاً على شجاعته أو التغني بالفضائل والمُثل العليا من الشجاعة والكرم وحماية الجار والفروسية، ومعلوم لنا أن الناقة بالنسبة للعربي آنذاك مصدر الخير والرزق ورفيقة السفر والصبر, في مواجهة أرض الواقع وصراعه معه من جهة وعالم ذكرياته في رحلته من جهة أُخرى، وعدَّها بعض الدارسين بمثابة الجسر الذي يربط طرفي القصيدة الافتتاح والغرض. لكن السؤال يبقى هل أن وصف الرحلة كانت ملزماً على الناقة فقط، فأرى أن الجواب أن الناقة لم تسيطر على فكر الشاعر، فالشاعر الحاذق يعرف بأسلوبه الخاص وتبعاً لتجربته التي أثرت فيه ونتجت عنها تلك اللوحة في افتتاحيات ومقدمات قصائدهم أن يجسد تلك المعاني الأفكار بأسلوب رائع، وعلى الرغم من أن لوحة الرحلة جسدت معاناة الشاعر وتجاربه المختلفة، إلاّ أننا نجد أن بعض الشعراء لم يلتزموا أو يخضعوا لهذا الموروث التقليدي ،فقد رأينا ثمة نماذج يتخلى فيها أصحابها عن لوحة الرحلة ويكتفي بلوحات أخرى تنسجم مع موضوع القصيدة. غير أن ابن قتيبة(ت276هـ)عدَّها حلقة وسطى بين بكاء الشاعر ،أي الطلل الذي يذكره بماضي صاحبته وأهلها وديارها وبين رحيلها ووصف لحظات الوداع وما تُثيره من عواطف خاصة تجاه حبيبته, ومن خلال استقرائنا لقصائد ديوان الشاعر لقمان محمود، وجدنا أن لوحة الرحلة تحتل جانباً مهماً في صراعه مع الحياة اليومية حُسن التخلص
يُعدُّ حسن التخلص جزءاً مهماً في بنية النص الشعري للقصيدة، من حيث وحدتها الموضوعية والعضوية، وقد أشار النقاد القدامى ,إلى الأبعاد النفسية والقيم الفنية التي يجب على الشاعر مراعاتها في النقلة بين أجزاء النص حيث حرصوا على الاهتمام بالشكل والدقة في الخروج من جزء إلى جزء خروجاً يشعر السامع بالتماسك والتحام الأجزاء دون أن يخلق فجوةً أو نقصاً في ذهن السامع، وعدّهُ حازم القرطاجني (ت 684هـ) بأنّهُ (التدرج إلى إيراد التخلص إليه وينتقل بتلطف إليه مما يناسبه ويكون منه بسبب)وهنا يركز حازم على الاعتناء بأجزاء القصيدة وكيفية الانتقال من بعضها إلى بعض تحقيقاً للانسجام والوحدة بين أبياتها، كما أن الشاعر الحاذق المتمكن يستطرد من معنى إلى آخر يتعلق بفكره في تخلصٍ سهلٍ يختلسه اختلاساً رشيقاً دقيقاً بحيث لا يشعر السامع أو المتلقي بالانتقال من المعنى الأول (إلاّ وقد وقع في المعنى الثاني لشدة الممازجة والالتئام والانسجام بينهما حتى كأنهما أُفرغا في قالب واحد)وبذلك يكشف عن قدرة الشاعر وحذقه، وكما عرّفه أيضاً ابن رشيق بقوله(وأولى الشعر بأن يسمى تخلصاً، ما تخلص فيه الشاعر من معنى إلى معنى ثم عاد إلى الأول وأخذهُ في غيره ثم رجع إلى ما كان فيه) كلُّ هذه الآراء وغيرها تقودنا في المحصلة النهائية إلى تعدد الأساليب التي يتبعها الشعراء للانتقال من معنى إلى آخر في تخلصاتهم أو الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود وهو غرض القصيدة، فمنها أي الأساليب ما هو انتقال تقليدي خاص ببعض الألفاظ حيث استخدم الشعراء الجاهليون والإسلاميون ألفاظاً للربط بين المقدمة والغرض مثل(دعْ، عُدْ، فسلْ،….) حيث تشكل وحدة بذاتها، وانتقال آخر معنوي يعتمد فيه على حالة الشاعر وسعة خياله وغالباً ما تكون حروف العطف أساساً، يعتمد عليه الشاعر، فضلاً عن أسلوب التشبيه وأُفعل التفضيل وذلك لانسجام المعاني فيها مع بناء الصور خلال ربطه بين المقدمة والموضوع، كذلك يمكن للشاعر أن يحسن التخلص في أسلوب الحوار مع حبيبته إلى موضوع القصيدة، لذلك أوجب القاضي الجرجاني على الشاعر أن يجتهد في جعل التخلص والخاتمة أحسن ما يكون لأنهما مع الاستهلال يكوّنان المواقف التي تستعطف أسماع الحضور. ومن خلال متابعة تخلصات الشاعر لقمان محمود اتضح لنا أنه أحسن الانتقال إلى موضوع القصيدة باستخدام الوسائل الفنية المتنوعة لتحقيق النقلة المناسبة إلى الغرض أو موضوع القصيدة متأثر بالموروث الشعري القديم، وأضافوا إلى ذلك ألفاظاَ ومعاني عكست افتنانه وإجادته في بنية قصائده، كما أن للتخلص المعنوي كان له دور كبير في تخلصاته لما له من أهمية في المحافظة على وحدة النص الشعري حيث يراعي به الشاعر اتصال العبارة بالغرض ليحافظ أيضاً على تجربته الذاتية وتماسك المعنى، ومن تلك التخلصات التي أحسن الانتقال فيها إلى موضوع القصيدة والتي جسدت قدراته العقلية بعد تلك المقدمات المتنوعة باللوحات الفنية المتعددة الأساليب في عملية البناء والتركيب، قول الشاعر لقمان محمود، إذْ أحسن التخلص مُستخدماً أسلوب الحوار في الانتقال إلى موضوع القصيدة كما في قوله:
تكاسل الحب كمجد سكران
في يأسه الاخير
وتهتك دلاله بما ذهب من بهاء
وكذلك تميزت تخلصات الشاعر لقمان محمود بالموروث القديم فبعد اللوحات الرائعة في المقدمة الطللية والغزلية وغيرها يُحسن الشاعر تخلصه إلى موضوع القصيدة مستخدماً في ذلك أساليب متنوعة كما في قوله:
عودي ايتها الجريحة
عودي, لتشلحي الحرب قليلا
هيأت لكل جرح شفتين من فمي
ويمكن أن نلحظ من خلال متابعة تخلصاته خلوها من الانقطاع أو الطفر أو كما يسميه البلاغيون بـ (الاقتضاب) وهو نقيض حسن التخلص، حيث يقطع الشاعر كلامه وينظم أو يستأنف كلاماً غيره في غرض آخر. ويمكن عدَّ سبب ذلك كثرة المقطعات والقصائد القصار له، لذلك نجد أن حسن تخلصاته ومدى إجادته فيها يعدُّ نقلة فنية في مجموعته الشعرية إذْ تزيد من تماسك القصيدة وتشدُّ من أواصر العناصر الفنية فيها فتدلُّ في بنائها على حُسن قدرته الفكرية وسعة خياله في البناء والتركيب ونقل الصورة بكامل عناصرها من الواقع.
حُسن الختام:
يُعدُّ فن الختام مُصطلحاً بلاغياً اختلف في تسميته النقاد والبلاغيون إذْ جاء تحت عناوين مختلفة كـ (الختام وبراعة المقطع وحسن الختام وحسن الانتهاء…) وكما نعلم أن خاتمة القصيدة قد تكون آخر بيت وقد تكون آخر بيتين أو أكثر فلا تتحدد بكم وإنما يحددها ذلك المعنى والنغمة الختامية ومدى ارتباطهما بالسياق العام، إلاّ إن الغالب على مسك الختام مثل المطلع بيت واحد، ولذلك اشترط عددٌ من النقاد شروطاً للخاتمة بكونها القاعدة النهائية للقصيدة، وكما ذكرنا سابقاً في المطلع، أن حُسن الافتتاح داعية الانشراح ومطية النجاح فخاتمة الكلام أبقى في السمع وألصق بالنفس لقرب العهد بها فإن حَسُنت حَسُن وإن قَبُحتْ قَبُحَ ,وكما قال رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلّم):(إنما الأعمال بالخواتيم)وإذا كان أول الشعر مفتاحاً له وجب أن يكون الآخر قفلاً عليه. والقفلُ هو خاتمة القصيدة فوجب أن يكون محكماً لا تمكن الزيادة و لايأتي بعده أحسن منه ,ويؤكد ذلك حازم القرطاجني على الخاتمة بقوله (أن يكون الاختتام في كل غرض بما يناسبه ساراً في المديح والتهاني وحزيناً في الرثاء والتعازي)
وحتى تتحقق براعة المقطع أو القصيدة، يجب أن يجعل الشاعر آخر كلامه (عذب اللفظ وحسن السبك صحيح المعنى مشعرا بالتمام) وكذلك يمكن أن تكون الخاتمة تشبيهاً حسناً وأن تتضمن حكمة أو مثلاً سائراً, نخلص من كلِّ هذه الآراء القيّمة وغيرها للنقاد إنهم يؤكدون أن غاية حسن الخاتمة أن يعرف السامع انقضاء القصيدة وكمالها وحسن رونقها فهي توازي مقدمتها بشكل يوقن النفس بأنه آخر أو نهاية القصيدة. ومن خلال استقرائنا لخواتيم قصائد الشاعر لقمان محمود نجدها ضمّت نهايات كثيرة جاءت موافقة وقريبة من آراء النقاد القدامى وتوصيفهم, إذْ تعددت وتنوعت وجاء قسم منها مطابقاً في أسلوب بداياتها وآخر ضمَّ حكمة أو مثلاً أو تشبيهاً ومتمماً لمعنى القصيدة مشعراً ذهن السامع بنهاية القصيدة، ليدل في الوقت نفسه على قوة وتمكنه وإجادته في بناء قصائده وخواتيمها كما نلاحظ ذلك في خواتيم قصائد لقمان محمود, ومن تلك الخواتيم قصيدة الشاعر حيث يقول:
في الحلم, اعانق البعيد
حيث تستيقظ الذكريات
بلا ندم
وتميزت خواتيم لقمان محمود في موافقتها وقربها من موضوع القصيدة، ففي قصيدة طويلة تنوعت لوحاتها وينتقل بعدها الشاعر إلى موضوع القصيدة فيختم الشاعر قصيدته بنفس الغرض واصفاً فيه خيله، كما في قوله:
متحشدا بالموت
اصعد سلالم الغيبوبة
لاخبر امي
وكذلك يختم الشاعر قصائده بأسلوب متنوع في الحكمة والمُثل، كما نجد في أحدى خواتيمه استخدامه أسلوب الحوارالمباشرمع التشبيه، لقصيدة تنوعت لوحاتها في الوصف حيث يقول:
لقد بكيت كثيرا
لكن دموعي الان باسمة
وقلبي عصفور
ويتمتع لقمان محمود بقدرات عالية في صياغة الأفكار وتجسيد المعاني، ففي قصيدة طويلة أجاد في مقدمتها فذكر المواضع وديار الحبيبة نراه ينهي ويختم قصيدته بذكر المواضع وكأنه يشبه حاله بالضباب والعقاب وهو يبحث عنها في تلك الأماكن والطرق المخيفة ليلاً، فهي في صور الشجاعة في تحمل كلَّ هذه الصعاب في أثناء سيره كما في قوله:
عودي ايتها الجريحة
عودي, لتشلحي الحرب قليلا
هيأت لكل جرح شفتين من فمي
ونجد ذلك في خواتيم قصائد، وعلى الرغم من قصر تلك القصائد وانفرادها بموضوع واحد في الغالب إلاّ أن الشاعر لقمان محمود أحسن في خواتيم قصائده، فقد أكد فيها استمرارية القصيدة في صور مختلفة مع تجدد تلك الخواتيم بأساليب متنوعة تظهر لنا قوة حرصه وشدته على الحدث والمناسبة التي قيلت فيها القصيدة، وكما نرى صفة أخرى تجسد خواتيم قصائده أن تلك القصائد أشبه بالقصة، ويمكن أن نخلص من ذلك إلى أن خواتيم قصائده أغلبها كانت موافقة لموضوع القصيدة، ومن تلك الخواتيم قول الشاعر:
صرخت, لا اسمع بكاءك, فقالت: اسمع بعينيك, فانا ابكي
بدموعك, صرخت: اموت من المك, قالت: في كل ما مضى
كنت اتالم بدلا عنك, ومدت يدها الى قميصي, وبدأت تفك
وفي نهاية المطاف، وجدنا أيضاً من خواتيم الشاعر لقمان محمود إنّه ولدوافع نفسية متعددة في حياته حرص على البراعة الفنية في مقاطع الختام، حيث التأنق والتألق في صياغتها ونادراً ما كان يميل إلى قطعها أو اختتامها قبل أن يستكمل كلَّ المعاني المطلوبة وتمام المعنى كاملاً في ذهن السامع من جهة وإفراغ الشاعر ما يدور في وجدانه من هموم, وأفراح وأحزان من جهة أُخرى ليصب في النهاية في غرض واحد هو موضوع القصيدة الأساس.
————–
جريدة التآخي البغدادية
اذا قلت احبك
لماذا سيغمى على كلامي؟
ارى ان الشاعر هنا في هذا المقطع قد وفق في هذه اللوحة في التصوير, حيث يعبر عن حالة شوق بين شجرتين عاشقتين. فيقول:
اذا حصلت علاقة حب
بين شجرتين
بينهما مسافة بعيدة
في هذا المقطع يرى الشاعران مركز مشاعر برجل يتمركز في قلبه فاذا, هرب منه, فاين يضعه وسط هذا العالم الذي تسوده الكراهية والحقد, والتعسف الذي يطال كل شيء جميل في عالم قذر, لا يملك أي رحمة على الذين ينامون تحت انقاض الوهم الكبير الذي يسمونه الحب, حيث يقول:
اذا شلح رجل قلبه
فاين سيعلقه؟
ونستطيع القول من خلال وصف هذه الأماكن التي احتوتها مقدمات الشاعر لقمان محمود أنّها تعكس لدينا بُعداً وأثراً نفسياً في مخيلته يستطيع من خلاله الشاعر الربط بين الحاضر والماضي فتبعث هذه الصلة في مشاعره وعواطفه المليئة بالحنان والشوق إلى تلك الأيام ,فتتزاحم الأفكار والصور في مخيلة الشاعر لقمان محمود عند تلك الديار والوقوف عليها وكأنه أراد استنطاق تلك الديار، ديار الأحباب وماضيه وعلاقاته منذ أيام الصبا, واستخلص أحد الباحثين المعاصرين في أهمية المقدمة أن الشاعر قد يجمع في مخيلته بين عنصرين أساسيين الأول يُذكر بالفناء أي الأطلال والآخر يذكر بالحياة أي الحب واجتماع هذين النقيضين وارتباط أحدهما بالآخر عند الشاعر تأكيد إحساس الشاعر بالتناقض العام سواء كان في العالم الخارجي أم عالمه الباطني وبالنتيجة يمثل واقع الحياة وكيان الفرد، وهذا ما يؤكد لنا أن مقدمة القصيدة لم تكن إلاّ تعبيراً عن أزمة يمر بها الشاعر. وشكلت المقدمات الغزلية حضوراً متميزاً في قصائد الشاعر لقمان محمود، واختلفت آراء النقاد في معنى الغزل والنسيب، فمنهم من َردَّ أصلهما إلى معنى واحد, ويرى آخرون عكس ذلك، أن الغزل يرتبط بحديث الشاعر في وصف المرأة بالحسن وأن النسيب هو الإخبار عن تصرف هواها فيه, إلاّ أنَّ صاحب اللسان يرى أن الغزل يختص بحديث الفتيان والفتيات واللهو مع النساء، أما النسيب فهو التشبيب بالنساء والتغزل بهن, ويرى أحد الباحثين أن الغزل والنسيب والتشبيب لها دلالات ومعانٍ خاصة بكل واحدة من هذه الألفاظ، التي تشكل المرأة المحور الرئيس لافتتاحيات الشعراء, وقد اختلفت صورتها وأبعادها تبعاً لحالة الشاعر لقمان محمود النفسية وطبيعة الحدث الرئيس للقصيدة، وأرى أنها غالباً ما جاءت مكملة لتجاربه في الطلل وذكر الديار والترحال، حيث نجدها تلونت بألوانها المختلفة ويمكن أن تكون قد فرضت على الشاعر نفسه وهو يستذكر تلك الأيام الخوالي وتلك الذكريات ورسوم الديار، ومن تلك المقدمات الغزلية للشاعر لقمان محمود حيث يتذكر محبوبته (دلشا) فتهيج عنده الأَلم والشوق والحنين فيذكر ديارها والمواضع التي كانت فيها، فمن هذا الفراق وما أصابه من الكبر والحزن، ويجسّد الشاعر هذه المعاني في قوله:
واقف باعوامي الاخيرة
اسوار الاغنيات كبستاني
لامرأة من الفاكهة
وأرى أن الشاعر هنا قد وفّق في هذه اللوحة في تصوير همومه وما ألمَّ به من حزن ولوعة في قلبه، ثم ينتقل إلى لوحة أخرى، فيشكو حاله من تقدم العمر به، فلا يسمع كلامه أحدُ بعد أن كان الآمر والناهي في شبابه. وفي مقدمة أخرى لقصيدة رائعة يُعبّر فيها الشاعر عن لوعته لحبيبته (دلشا) التي بعدت عنه بجسدها, ولكنها قريبة بروحها معه, وقد اشتد به العشق اليها, فيصفعا باجمل الاوصاف, حيث يقول:
دلشا، كل ما اعرفه
:انني ولدت قبل الله, ولدت فيك
ترعرعت قبل صياغة الاوطان، ترعرعت فيك
وفي مقدمة مقطع اخرمن القصيدة يتخيل الشاعر انه من غير حبيبته مجرد انسان يتكلم ويأكل فقط وقد هربت منه روحه الى المجهول, حيث هناك امرأة تنتظر قدومه بين الاف الرجال الموجودين, فتختاره من بينهم ليكون الهواء الذي تتنفسه وسط اختناقات انفاس الساعات التي هربت منها اليه ,لهذا يقول:
اعرفك دلشا, واعرف انك سهوا تنادين
على جميع اصدقائي باسمي, وهذا ما يجعلهم
يغضبون, ويسحبون من صوتك جسمي
ويستمر هذا الحوار إلى نهاية القصيدة بأسلوب قصصي، وعلى الرغم من أن هذه الشكوى من المقدمات التي دخل إليها الشاعر مباشرة تتجه بعد ذلك إلى النصح والإرشاد وضرب الأمثال، ومن خلال هذه الحوارات نلمس أن الشاعر يبدأ حديثه مستثمراً ومُستشعراً فاعليتها لتحقيق زخم تأثيري شديد يستدرك فيه عواطف المتلقي وقناعته بالموقف الموضوعي مستخدماً لذلك عدّة عناصر مختلفة يقيم من خلالها حوارات خفية أو صريحة تشخص معاناة الشاعر وتأملاته لتلك الشخصية ودوافعها النفسية مسقطاً عليها كل الأحاسيس المشروعة من خوف وقلق وحذر وتنبيه لها من تلك الأعمال غير المقبولة لينفرد هو بنفسه صاحب الموقف الشجاع والشخصية القوية مجسّداً ذلك في إطار البناء الشعري، وبذلك لم تقتصر مهمة المرأة عنده على تطويعها في لوحات الافتتاح فقط بل تحقق حضورها أيضاً في محاور بنية القصيدة من خلال تشكيل الحدث الشعري. وبعض الدارسين من عدَّ أن هذا الحوار حقيقي أو متخيّل من فكر الشاعر بقولهم (هو حوار حقيقي استحدثته الفكرة المؤقتة أو أوجبه العتاب والانفعال أو خلقه الظرف المناسب)أو أن هذا(الحوارُ متخيّل لاوجود للنسوة اللاتي تخيلهن الشعراء فيه)وهذا ما لمسناه عند الشاعر لقمان محمود لاسيّما في مقدمات الشكوى كما في قوله
تبدلت علاقتي الطيبة مع الليل, منذ تذكرت امي, حينما كانت
تدخل غرفتي كل وقت, وهكذا حتى دخولها الاخير كي تتوضا
لصلاة الفجر. مازلت على عادتي مع اختلاف كبير, ففي كل
ويمكن أن نخلص إلى أن هذا التنوع في لوحاته الافتتاحية لعنصر المرأة ناتج من تشابه الأَلم والحزن في قلبه تجاه هذه الحالة من جهة وتشابه مكونات ثقافته الشعرية من جهة أخرى, وعلى الرغم من أن تلك القصائد اتجهت إلى موضوع واحد لكن يبقى للمقدمة أثرها في بنية القصيدة من حيث الافتتاح وشدِّ ذهن السامع أو المتلقي إلى الانتباه والاستماع لما بعدها ومن المقدمات الأخرى التي وردت في مجموعته الشاعر لقمان محمود مقدمات الحكمة التي تعبّر عن موقف فكري وأخلاقي، فالشاعر لا يعني تسجيل وقائع العالم المحيط به أو عرضها وتحليلها إلاّ من خلال معاناة ذاتية يمتزج فيها الحدث والإحساس بالواقع، وكذلك يمكن لهذه الحكم أن تزيد من معنى القصيدة قوة وقدرة في توفير الأجواء الرئيسة التي تشكل منطلقاً نفسياً للتجربة الموضوعية وإن كان الغالب في تلك الحِكم ارتباطها بموضوع الرثاء فتعطيه مسحة من الحزن والعاطفة والتي يشيع فيها الألم والحسرة والتشاؤم.
فمن خلال تلك المحن والمصائب التي حلّت بالشاعر وما صاحبها من الألمِ والحزن والفراق، فقد جسّدت مقدماته في الحكمة معاناته بكل صدق وإخلاص، ومثل ذلك أيضاً في مقدمات الشاعر لقمان محمود التي جسّد فيها صور الحكمة بأسلوب جميل في الحب والحنان والتكاتف بين الإخوان لأنه خير ناصر لك عند الشدائد بعد الخالق سبحانه وتعالى، ومن هذه المقدمات، قوله:
سانسى مراقبتي المستمرة لدوار الشمس, لأنني لم اشعر يوما
بالدوخة, وسانسى شباكي الذي سقطت منه دون ان يصيب قلبي
أي كسور, وسانسى عادتي في اطفاء المصباح, كلما دخلت
ويظهر مما تقدّم من هذه المقدمات التي تميز بها مجموعة الشاعر لقمان محمود اختلاف تلك المقدمات وتباين موضوعاتها، سبب اختلاف المقدمات وطرحها لدى الشاعر ثلاثة أسباب لاختلافها وهي الإطار التراثي وطبيعة التجربة الموضوعية التي انبثق المخاض الإبداعي من خلالها وطبيعة التكوين النفسي والاجتماعي للشاعر.
وتُعدُّ لوحة الرحلة جانباً مهماً في بنية القصيدة العربية، فهي جزءٌ لا يتجزأ منها حيث يكمل فيها الشعراء تجاربهم الذاتية فتشكل جزءاً من معالجات الشعراء الفنية التي يطوعونها للتمهيد في قصائدهم، وثمة أغراض وأهداف تؤديها لوحة الرحلة، ولعلَّ من أظهرها تأكيد الفخر الذاتي عند الشعراء بالإشارة إلى شجاعتهم، وقديماً كان الشاعر يتخذ من وصف الناقة دليلاً على شجاعته أو التغني بالفضائل والمُثل العليا من الشجاعة والكرم وحماية الجار والفروسية، ومعلوم لنا أن الناقة بالنسبة للعربي آنذاك مصدر الخير والرزق ورفيقة السفر والصبر, في مواجهة أرض الواقع وصراعه معه من جهة وعالم ذكرياته في رحلته من جهة أُخرى، وعدَّها بعض الدارسين بمثابة الجسر الذي يربط طرفي القصيدة الافتتاح والغرض. لكن السؤال يبقى هل أن وصف الرحلة كانت ملزماً على الناقة فقط، فأرى أن الجواب أن الناقة لم تسيطر على فكر الشاعر، فالشاعر الحاذق يعرف بأسلوبه الخاص وتبعاً لتجربته التي أثرت فيه ونتجت عنها تلك اللوحة في افتتاحيات ومقدمات قصائدهم أن يجسد تلك المعاني الأفكار بأسلوب رائع، وعلى الرغم من أن لوحة الرحلة جسدت معاناة الشاعر وتجاربه المختلفة، إلاّ أننا نجد أن بعض الشعراء لم يلتزموا أو يخضعوا لهذا الموروث التقليدي ،فقد رأينا ثمة نماذج يتخلى فيها أصحابها عن لوحة الرحلة ويكتفي بلوحات أخرى تنسجم مع موضوع القصيدة. غير أن ابن قتيبة(ت276هـ)عدَّها حلقة وسطى بين بكاء الشاعر ،أي الطلل الذي يذكره بماضي صاحبته وأهلها وديارها وبين رحيلها ووصف لحظات الوداع وما تُثيره من عواطف خاصة تجاه حبيبته, ومن خلال استقرائنا لقصائد ديوان الشاعر لقمان محمود، وجدنا أن لوحة الرحلة تحتل جانباً مهماً في صراعه مع الحياة اليومية حُسن التخلص
يُعدُّ حسن التخلص جزءاً مهماً في بنية النص الشعري للقصيدة، من حيث وحدتها الموضوعية والعضوية، وقد أشار النقاد القدامى ,إلى الأبعاد النفسية والقيم الفنية التي يجب على الشاعر مراعاتها في النقلة بين أجزاء النص حيث حرصوا على الاهتمام بالشكل والدقة في الخروج من جزء إلى جزء خروجاً يشعر السامع بالتماسك والتحام الأجزاء دون أن يخلق فجوةً أو نقصاً في ذهن السامع، وعدّهُ حازم القرطاجني (ت 684هـ) بأنّهُ (التدرج إلى إيراد التخلص إليه وينتقل بتلطف إليه مما يناسبه ويكون منه بسبب)وهنا يركز حازم على الاعتناء بأجزاء القصيدة وكيفية الانتقال من بعضها إلى بعض تحقيقاً للانسجام والوحدة بين أبياتها، كما أن الشاعر الحاذق المتمكن يستطرد من معنى إلى آخر يتعلق بفكره في تخلصٍ سهلٍ يختلسه اختلاساً رشيقاً دقيقاً بحيث لا يشعر السامع أو المتلقي بالانتقال من المعنى الأول (إلاّ وقد وقع في المعنى الثاني لشدة الممازجة والالتئام والانسجام بينهما حتى كأنهما أُفرغا في قالب واحد)وبذلك يكشف عن قدرة الشاعر وحذقه، وكما عرّفه أيضاً ابن رشيق بقوله(وأولى الشعر بأن يسمى تخلصاً، ما تخلص فيه الشاعر من معنى إلى معنى ثم عاد إلى الأول وأخذهُ في غيره ثم رجع إلى ما كان فيه) كلُّ هذه الآراء وغيرها تقودنا في المحصلة النهائية إلى تعدد الأساليب التي يتبعها الشعراء للانتقال من معنى إلى آخر في تخلصاتهم أو الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود وهو غرض القصيدة، فمنها أي الأساليب ما هو انتقال تقليدي خاص ببعض الألفاظ حيث استخدم الشعراء الجاهليون والإسلاميون ألفاظاً للربط بين المقدمة والغرض مثل(دعْ، عُدْ، فسلْ،….) حيث تشكل وحدة بذاتها، وانتقال آخر معنوي يعتمد فيه على حالة الشاعر وسعة خياله وغالباً ما تكون حروف العطف أساساً، يعتمد عليه الشاعر، فضلاً عن أسلوب التشبيه وأُفعل التفضيل وذلك لانسجام المعاني فيها مع بناء الصور خلال ربطه بين المقدمة والموضوع، كذلك يمكن للشاعر أن يحسن التخلص في أسلوب الحوار مع حبيبته إلى موضوع القصيدة، لذلك أوجب القاضي الجرجاني على الشاعر أن يجتهد في جعل التخلص والخاتمة أحسن ما يكون لأنهما مع الاستهلال يكوّنان المواقف التي تستعطف أسماع الحضور. ومن خلال متابعة تخلصات الشاعر لقمان محمود اتضح لنا أنه أحسن الانتقال إلى موضوع القصيدة باستخدام الوسائل الفنية المتنوعة لتحقيق النقلة المناسبة إلى الغرض أو موضوع القصيدة متأثر بالموروث الشعري القديم، وأضافوا إلى ذلك ألفاظاَ ومعاني عكست افتنانه وإجادته في بنية قصائده، كما أن للتخلص المعنوي كان له دور كبير في تخلصاته لما له من أهمية في المحافظة على وحدة النص الشعري حيث يراعي به الشاعر اتصال العبارة بالغرض ليحافظ أيضاً على تجربته الذاتية وتماسك المعنى، ومن تلك التخلصات التي أحسن الانتقال فيها إلى موضوع القصيدة والتي جسدت قدراته العقلية بعد تلك المقدمات المتنوعة باللوحات الفنية المتعددة الأساليب في عملية البناء والتركيب، قول الشاعر لقمان محمود، إذْ أحسن التخلص مُستخدماً أسلوب الحوار في الانتقال إلى موضوع القصيدة كما في قوله:
تكاسل الحب كمجد سكران
في يأسه الاخير
وتهتك دلاله بما ذهب من بهاء
وكذلك تميزت تخلصات الشاعر لقمان محمود بالموروث القديم فبعد اللوحات الرائعة في المقدمة الطللية والغزلية وغيرها يُحسن الشاعر تخلصه إلى موضوع القصيدة مستخدماً في ذلك أساليب متنوعة كما في قوله:
عودي ايتها الجريحة
عودي, لتشلحي الحرب قليلا
هيأت لكل جرح شفتين من فمي
ويمكن أن نلحظ من خلال متابعة تخلصاته خلوها من الانقطاع أو الطفر أو كما يسميه البلاغيون بـ (الاقتضاب) وهو نقيض حسن التخلص، حيث يقطع الشاعر كلامه وينظم أو يستأنف كلاماً غيره في غرض آخر. ويمكن عدَّ سبب ذلك كثرة المقطعات والقصائد القصار له، لذلك نجد أن حسن تخلصاته ومدى إجادته فيها يعدُّ نقلة فنية في مجموعته الشعرية إذْ تزيد من تماسك القصيدة وتشدُّ من أواصر العناصر الفنية فيها فتدلُّ في بنائها على حُسن قدرته الفكرية وسعة خياله في البناء والتركيب ونقل الصورة بكامل عناصرها من الواقع.
حُسن الختام:
يُعدُّ فن الختام مُصطلحاً بلاغياً اختلف في تسميته النقاد والبلاغيون إذْ جاء تحت عناوين مختلفة كـ (الختام وبراعة المقطع وحسن الختام وحسن الانتهاء…) وكما نعلم أن خاتمة القصيدة قد تكون آخر بيت وقد تكون آخر بيتين أو أكثر فلا تتحدد بكم وإنما يحددها ذلك المعنى والنغمة الختامية ومدى ارتباطهما بالسياق العام، إلاّ إن الغالب على مسك الختام مثل المطلع بيت واحد، ولذلك اشترط عددٌ من النقاد شروطاً للخاتمة بكونها القاعدة النهائية للقصيدة، وكما ذكرنا سابقاً في المطلع، أن حُسن الافتتاح داعية الانشراح ومطية النجاح فخاتمة الكلام أبقى في السمع وألصق بالنفس لقرب العهد بها فإن حَسُنت حَسُن وإن قَبُحتْ قَبُحَ ,وكما قال رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلّم):(إنما الأعمال بالخواتيم)وإذا كان أول الشعر مفتاحاً له وجب أن يكون الآخر قفلاً عليه. والقفلُ هو خاتمة القصيدة فوجب أن يكون محكماً لا تمكن الزيادة و لايأتي بعده أحسن منه ,ويؤكد ذلك حازم القرطاجني على الخاتمة بقوله (أن يكون الاختتام في كل غرض بما يناسبه ساراً في المديح والتهاني وحزيناً في الرثاء والتعازي)
وحتى تتحقق براعة المقطع أو القصيدة، يجب أن يجعل الشاعر آخر كلامه (عذب اللفظ وحسن السبك صحيح المعنى مشعرا بالتمام) وكذلك يمكن أن تكون الخاتمة تشبيهاً حسناً وأن تتضمن حكمة أو مثلاً سائراً, نخلص من كلِّ هذه الآراء القيّمة وغيرها للنقاد إنهم يؤكدون أن غاية حسن الخاتمة أن يعرف السامع انقضاء القصيدة وكمالها وحسن رونقها فهي توازي مقدمتها بشكل يوقن النفس بأنه آخر أو نهاية القصيدة. ومن خلال استقرائنا لخواتيم قصائد الشاعر لقمان محمود نجدها ضمّت نهايات كثيرة جاءت موافقة وقريبة من آراء النقاد القدامى وتوصيفهم, إذْ تعددت وتنوعت وجاء قسم منها مطابقاً في أسلوب بداياتها وآخر ضمَّ حكمة أو مثلاً أو تشبيهاً ومتمماً لمعنى القصيدة مشعراً ذهن السامع بنهاية القصيدة، ليدل في الوقت نفسه على قوة وتمكنه وإجادته في بناء قصائده وخواتيمها كما نلاحظ ذلك في خواتيم قصائد لقمان محمود, ومن تلك الخواتيم قصيدة الشاعر حيث يقول:
في الحلم, اعانق البعيد
حيث تستيقظ الذكريات
بلا ندم
وتميزت خواتيم لقمان محمود في موافقتها وقربها من موضوع القصيدة، ففي قصيدة طويلة تنوعت لوحاتها وينتقل بعدها الشاعر إلى موضوع القصيدة فيختم الشاعر قصيدته بنفس الغرض واصفاً فيه خيله، كما في قوله:
متحشدا بالموت
اصعد سلالم الغيبوبة
لاخبر امي
وكذلك يختم الشاعر قصائده بأسلوب متنوع في الحكمة والمُثل، كما نجد في أحدى خواتيمه استخدامه أسلوب الحوارالمباشرمع التشبيه، لقصيدة تنوعت لوحاتها في الوصف حيث يقول:
لقد بكيت كثيرا
لكن دموعي الان باسمة
وقلبي عصفور
ويتمتع لقمان محمود بقدرات عالية في صياغة الأفكار وتجسيد المعاني، ففي قصيدة طويلة أجاد في مقدمتها فذكر المواضع وديار الحبيبة نراه ينهي ويختم قصيدته بذكر المواضع وكأنه يشبه حاله بالضباب والعقاب وهو يبحث عنها في تلك الأماكن والطرق المخيفة ليلاً، فهي في صور الشجاعة في تحمل كلَّ هذه الصعاب في أثناء سيره كما في قوله:
عودي ايتها الجريحة
عودي, لتشلحي الحرب قليلا
هيأت لكل جرح شفتين من فمي
ونجد ذلك في خواتيم قصائد، وعلى الرغم من قصر تلك القصائد وانفرادها بموضوع واحد في الغالب إلاّ أن الشاعر لقمان محمود أحسن في خواتيم قصائده، فقد أكد فيها استمرارية القصيدة في صور مختلفة مع تجدد تلك الخواتيم بأساليب متنوعة تظهر لنا قوة حرصه وشدته على الحدث والمناسبة التي قيلت فيها القصيدة، وكما نرى صفة أخرى تجسد خواتيم قصائده أن تلك القصائد أشبه بالقصة، ويمكن أن نخلص من ذلك إلى أن خواتيم قصائده أغلبها كانت موافقة لموضوع القصيدة، ومن تلك الخواتيم قول الشاعر:
صرخت, لا اسمع بكاءك, فقالت: اسمع بعينيك, فانا ابكي
بدموعك, صرخت: اموت من المك, قالت: في كل ما مضى
كنت اتالم بدلا عنك, ومدت يدها الى قميصي, وبدأت تفك
وفي نهاية المطاف، وجدنا أيضاً من خواتيم الشاعر لقمان محمود إنّه ولدوافع نفسية متعددة في حياته حرص على البراعة الفنية في مقاطع الختام، حيث التأنق والتألق في صياغتها ونادراً ما كان يميل إلى قطعها أو اختتامها قبل أن يستكمل كلَّ المعاني المطلوبة وتمام المعنى كاملاً في ذهن السامع من جهة وإفراغ الشاعر ما يدور في وجدانه من هموم, وأفراح وأحزان من جهة أُخرى ليصب في النهاية في غرض واحد هو موضوع القصيدة الأساس.
————–
جريدة التآخي البغدادية