الله الله ، كم اشتقت إليك ِ يا قامشلوكي.. الله

 ابراهيم محمود

سلامات يا قامشلوكي، سلامات
سلامات يا عموم قامشلوكي مشرقاً ومغرباً، شمالاً وجنوباً، من فص طلعة الهلالية، إلى مربع العنترية، ومن حفريات ” Bedenê” شمالاً إلى أعالي طي، من تنهدات الأربوية، إلى تحسرات الحي الغربي، ومن نزلة ” Mêrga Hilko ”  إلى الزاوية الحادة في قدور بك، ومن أول شهيد قامشلوكي إلى آخر مأهول بحب قامشلوكي، دون الدخول في التفاصيل.
من يمين آذار الشهري إلى يساره الشهري إلى ظلال تنتظر وجوه أهليها الـ هاموا على وجوهم.
من أين أبدأ يا قامشلوكي ولديك بدايات لا تحصى؟ وأنا بين بداية ونهاية محتسبتين !

من أي بداية أبدأ، وعند أي نهاية أبثك شكواي وأنت شكواي، معناي ومنفاي ومغزاي..؟
كيف لي الوصل بين بداية تنقلب نهاية، ونهاية لا أدري أي بداية قامشلوكية تكون .
وأنا أشعرني وأعاينني وأكاشفنني وأراقبني وأسجلني محالاً كلمات ” ليست كالكلمات ” ؟
من المستحيل أن أدير ظهري لك يا ظهري، ويا صدري، يا هامتي وقامتي وعلامتي ابتداء طبعاً، وأنت في كل جهاتي ماثلة شاعلة مياسة، يا أوج ظهيري .
تنكسر رقبتي إذا نسيتك لمليمتر من الثانية يا قامشلوكي.
تنكسر ” إيدي ” إذا لم تلمس كل حرف منك ولم تمطرني برِشاش عطري .
كنت في حضنك عالقاً في الشبك، وخارجك أنا عالق في الشبك، وواقفاً في الشبك، وغارقاً في الشبك، ولكن شبكك مكتشَف الآن وهو يشدني إلى بهاء روحي وزهو نفسي ويقيني بجغرافيتك الملونة، يشدني وجهك ذو الأطياف، ترهاتك الآلاء، ولدناتك الملهمة، يفاعة وجدك.
قامشلوكي عقلي وجنوني، اكتشفت أن للإنسان وطناً واحداً فعلاً، ولكن الاكتشاف الأكبر لحظة البوح بالحقيقة، له مدينة واحدة هي ديوان وطنه، منها وإليها تتحدد مسامات الوطن، ويُشتمُّ حلمه وعلمه، فرحه وحزنه، وأنت يا قامشلوكي هذا الجمع الغفير من المكابدات.
الله الله عليك يا قامشلوكي التي تربض على كل نفس لي، كما تتقافز أطيافها خلل كلماتي وخطواتي، الله الله حيث الله يقيم في حروفك، في تؤأم جنونك وعقلك المترابضين .
آه أيتها الـ قامشلوكي، القامشلي، لكَم تأخذ الظنون بي ناحيتك كثيراً، لكم يستقطرني عشق تلو الآخر ومن ذات الطبعة إيلاف اسمك ورسمك ووسمك وكسمك، لكم يغالبني شوق إليك وأنا أحاول النظر إلى الأمام حتى لا أخرج عن مسار الآتي دون أن أفقدك كلياً، شوق إلى شوقك، وشوق ينشحن بك وأنت في بهائك الذي ادخرته، وأنت في حروبك الصغيرة والكبيرة، وأنت في جمهرات أحلامك وكوابيسك، وأنت في وثباتك وامتشاقات صورتك الفضائية.
تأخذني الظنون حباً، تأخذني الظنون جنوناً وفنوناً على قدر ما يكونه الوجد والهوى الصوفي، كما لو أنني أشهد انحلالي بك، فأنا حلوليُّك الذي لا مهرب لنفسي من نفسي تجاهك.
لا تثريب لمن يجهر بحبه الخاص، ولغته الخاصة وهوسه الخاص، ودورته الكاملة الخاصة باسمك، أيتها المحاطة بذاتها، أيتها المأخوذة بأكثر من معنى معنَّى.
يا ذات الجلال الجغرافي، والاعتباري، والجمالي، والافتتاني الطبيعي، وأنت في حلتك النجومية دون بهرجة.
أيتها العشق الممنوع من الصرف، الهوى الصاعد إلى النهر والجبل والمرج والحلم الأشم والقبَل المنعشة للروح.
أيتها الألف: الأبد، الباء: البلد، التاء: التمام، الجيم: الجهة، الحاء: الحرة، الخاء:الخاصة…الهاء: الهوى، الواو: الوعد، الياء: اليمن واليسر.. تلك أبجديتك المتهجاة والتي أسبّح بها على مدار الساعة لتكوني على بيّنة أنك بوني وبيني وبياني.
ياه يا قامشلوكي، لا أستطيع مجاراة نفسي في اندفاعها الشهبي نحوك، وفيما تقوله وأعجز عن تسجيله، وفيما توضبه داخلي يومياً وأعيا عن الإحاطة به، ياه لكم هو الشوق إليك عليك وضاح سفاح للكتمان، كأنني أراك أول التكوين ومداره، كأنك في كل آونة وناحية مغناطيسي الجغرافي خميرة لا منجى من امتصاصها في عجينة كينونتي هنا.
أووه يا قامشلوكي، مع تقديري لكل المدن التي استضافتني وعلمتني وألهمتني، تبقين أنت وأنت كنت ولا زلت معي المدينة التي لا تصرّف في أي بورصة مدن، على تهجئتي لحروفك أولاً بأول.
إن دهوك التي آوتني ولا زالت، مع حبي الكبير المديد لها، لا تملأ فراغ روحي البتة، إن كل ما فيها لا يحول دون نسيانك ولو لخطو همسة واحدة، ولو لشهقة عابرة، وحركة رمش بغتة .
ربما هواك الهوى وصداك الصدى ومداك المدى وراء هذا الانسفاح  المزمن من لحظة غربتي في الكتابة إيصالات بوجودك داخلي، إحالة إليك على أنك المحفزة على الكتابة، كما لو أنك تعدين بالبقاء كلما نثرت روحي في كلمات تترى.
أوووه قامشلو، قامشلوكي، سأسمّيك شاغلي لأنمّيك داخلي، في كل ما يصلني بك ويصلك بي:
اشتقت إلى طلعة المطار الفاصلة بين جنوب ملتهب وشمال مغترب، اشتقت إلى طلعة الهلالية بين جهتين متناظرتين، جهة واحدة موازية لحدود موتورة.
اشتقت إلى طريق ” السياحي ” حيث تنعدم السياحة، إلى طريق ” الكورنيش ” حيث المواجع، إلى شارع ” الوحدة ” المنقسم على نفسه، إلى شارع ” الجسرين ” المتقابلين، إذ يتحرك جغجغ وئيد الخطى مفتوح المصران مبقور المعنى، بين شمال يُرى ولا يُرى، وجنوب يرصد ولا يحصد، إلى طريق ” البشيرية ” حيث تقوم ألسنة وذاكرات أمم، إلى شار ع ” الكهريز *” وهو يقطع الكورنيش شمالاً وجنوباً باسمه التاريخي وذكريات السنوات المنثورة فيه.
اشتقت إلى شارع العطارين، ودكان ” عزرا ” في الواجهة، حيث الاسم باق دون صاحبه، وروائح التوابل تراجم شعوب وأنفاس أمم، إلى ” العرصه ” وخيالات ” بحري دلال ” الذي كان، وبائعي المسابح، والبالة المضاعفة، والخردة، وفي الداخل ما ملكت رغبات المعدة في دكاكين عامرة ، إلى ” سوق اللحم” وأهواء سواطير القصابين وتعليقاتهم وشبق النظرات تجاه نسوة يعبرن الممرات الفاصلة بين قصاب وآخر، وفي الجوار تتمطى كروش أمعاء وحزم مصارين متكورة، ورؤوس حيوانات مجتزة في مذبحة مجازة تنتظر من ” يشيلها ” وأقفاص فراريج وداج أحمر وبطاقة أسعار متغيرة يومياً، ومسطحات خضرة وتوترات الباعة والمشترين بين الحين والآخر، وصالات السينما التي انكفأت على أسمائها، حيث كانت وجوه زبائنها تملأ المكان باستباقات رغبات وسواها..
عذراً يا أمي لأنني لم أذكرك بداية، فأنت البداية والنهاية، لكم أشتاق إلى أن أتوسد تراب قبرك القدّور بكَي، وكلي فضول حتى الآن لأن أعلم، وأنا هنا البعيد القريب، ما الذي حفّزك لأن تلحّي علينا في أن يكون مقامك الأبدي في مقبرة قدّور بك، وأبي هناك صحبة أبيه الجد، وأمه الجدة، وابنته الصغيرة الأخت، وأخيه اليافع العم وقروييه وخلافهم في مقبرة القرية، الذي سبقك في رحلة الآخرة، أن أعلم أي حب دفع بك إلى هذا الخيار القاسي، بعد عشرة عمر، الله يا أمي، امنحيتي مغفرتك وسماحتك وملاحتك وبراءتك وأنت في عمر متقدم، ودفق حنانك، لأحسن التفكير بأنني ما زلت صغيرك في غربة كبيرة، غربة لا علم لي بمداها، اغفري لي لأنني لسبب ما، وجدتني هنا، سبب لا يحتاج تعريفاً به .
أشتاقكـ”م “-“ن ” يا أخوتي، ويا أخواتي وخالات وأهلي وأقربائي من دون حسابي.
أشتاقكم يا بعض من تبقى وهو يشقى من أخوتي تحت مظلَّة الانتظار والغياب المستطير .
اشتقت إليكم يا ابراهيم وابراهيم وابراهيم وابراهيم، ولكل ابراهيم برهته، ويا أحمد وأحمد وأحمد، ولكل أحمد مدته، ويا شور، يا محمود ومحمود ومحمود، وسميح وحنا، وغسان ، وشكري، ومحمد، وجمعة وزهير ومنير وأمير ويوسف، ونضال، وباسيل، ويوسف الآخر والثالث، وعلي المتعدد الوجوه،وصالح، وصبري، ونعمان، وسالم، وجان الاسم الذي يعرف نفسه وأعرفه، وأبو حسن وموسيقاه، وخليل كالو ” أنا لم أغفل عنك لحظة يا خليل، مهما كان الاختلاف قائماً “، وفرزند، ومحمد، ورفيق، ورضوان، وفرزند وعدنان، وعبدالغني، وخليل المجاور والمقابل والتالي، وكاميران وراج ووليد  وما ملكت محبتكم، وأنت يا أصحاب ” الدال” يا أبا الطون، ويا ماروكي وطانيوس ومحمد شفيق ومصطفى ويوسف وجوزيف ولزكين ومحمود وابراهيم الآخر ونظير الآخر هنا، وعذراً عن التذكير بكل ما يجب تثبيته…
أشتاقكم أيها الأصدقاء، الأصحاب الكوسموبوليتيين قسراً، التائهين بين اللغات قسراً، الطارئين على مداخل مدن لم تُر حتى في الأحلام قسراً، الداخلين في تجربة وتجربة كل زاوية ومنحدر وجرف وناتئ جبل قسراً، القاريين دون رغبة، السندباديين التي تؤرقهم حكاياتهم الـ تترى.
أشتاق لجموع وجوه نساء وآنسات وفتيات مكرمات المقامات، أعتذر عن ذكر أسمائهن نزولاً عن رغبتهن ربما، أو لخوف قائم، أو تقدير لا أستطيع وصفه أو الكشف عن مكنونه، نساء، فتيات مأهولات بظلالكن يا قامشلوكي، كانت الرغبة الوحيدة لدي في كل لقاء أو مجالسة، كيف أمتلئ أكثر وأكثر بهذا الدفء الحياتي والاعتباري وأتوازن لغة أكثر.
قامشلوكي اللغات، قامشلوكي الأديان والمذاهب، قامشلوكي الكرد والسريان والأرمن والعرب، قامشلوكي الخلطة العجيبة، إنما القصيدة التي أعتبرها متعددة اللغات التي أختزنها، وإن لم أستطع تهجئتها، لأنها تنبع وتجري داخلي.
أكرر نبرة جنوني بك، أُجَن بك حتى أعقل، وعندما أعقل لا أعرف أي جنون يطيح بي صوبك، رغم القرب الشديد جغرافياً، ولكنه النأي المفجع، جنوني بك ابراهيمي، فكيف العقل بالجنون ؟
أشتاق إلى كلابك  الشاردة وقططك وجراذينك وفئران حقولك، وجرابيع مجاريرك الداخلية والخارجية، والجغجغية، وسحاليك، وبعوضك، وذبابك، ونملك الأسود والأحمر، وديدان أرضك،وبقرك وغنمك وتيوسك وأكباشك وحميرك وبغالك وأحصنتك، دجاجك وديكتك وأرانبك وحمامك وطيورك الأهلية، أشتاق إلى مسحة ظل عصفور الدوري وهو يمسّد في غفلة على كرمة بيتنا، أشتاق إلى زرقه المفاجئ إذ يتناثر على راحة يدي، أو كتابي الذي أقرأه في الفناء الضيق للبيت، إلى ذي الجسم الممطوط: السنونو، والخفاش المنتوف في وجده الليلي، أشتاق إلى الصرصور المشاكس الذي ينسل إلى مكتبتي، والجدجد والجندب الذي لصوته صوت لحام أوكسجين، أشتاق إلى أحجار ليست بأحجار، وحيطان ليست بحيطان، ووجوه تعبر كسهم من أمام باب بيتنا ذي السقيفة الواطئة عالية الهمة.. أشتاق لأشتاق يا قامشلو…كي..
م: ما كتبته ترجمة لبعض مما يعنيني، ولا شأن لي بسواي، وأنا أختبر نفسي، إذ أعيش بين كوني ابراهيم محمود الشخص، وابراهيم محمود المعتبر كاتباً، ووفاء لمكان بمن، وما فيه.
م: شارع الكهريز: له اسمه وصيته في حي الكورنش الذي سكنت فيه منذ عام 1972، ولعل الناظر في أمره: سيرة واسماً ودلالة راهناً، سوف يتلمس مفاجآت، وهذا ما سأتعرض له تالياً.
دهوك

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…