ومما يلفت النظر كذلك هو إظهار الكاتبة تفردا في قصصها الهادفة ذات الفنية المعمارية المتقدمة لغة ومضموناً، مع العناوين الرامزة والتي تشكل نصف مضامين القصص، والتي تأتي دوماً شديدة التناسق والإنسجام مع شخصية بطل القصة في التعبير عن الحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبيئة العربية، ومقدرة فائقة في الغوص في أعماق النفس البشرية لتكتشف مكنوناتها وانفعالاتها وأحاسيسها بكل مهارة ودقة ووضوح. وبدون شك فنحن هنا إزاء تجربة أدبية ابداعية جديدة، تأخذنا إلى عوالم قصصية مثيرة للصدمة والإدهاش وكسر أفق توقع القاريء وتفجير الأحاسيس والإنفعالات النفسية لديه في أجواء نفسية مشحونة بالإيحاء والتوتر.
في قصة (ماء الأرض):
ترتيله مكاء وتصدية
أشرنا سابقاً إلى أثر المرجعية الدينية الإسلامية في قصص سناء كما في العنوان الآنف المذكور(مكاء وتصدية). وهي هنا تستنكر الحيف الذي لحق بالمرأة من مجتمعها الذكوري والذي أخرجها ولايزال عن طور إنسانيتها، لدرجة وصول البعض منهن إلى حالة الموت السريري (فالبغايا بلا أرواح). مما قد يسبب في دفعها نحو الهاوية والسقوط في حمأة الرذيلة رغماً عن إرادتها، ومع هذا السقوط والحيف الذي لحق بها نراها تعود في النهاية إلى أخلاقها الأصلية تائبة من كل ذنب قد دفعه المجتمع الذكوري لارتكابه. وتؤكد الكاتبة هذا الأمر بقولها:(وهناك في حياض الكعبة المشّرفة كانت تحجل ليل نهار بثوب أبيض يجلّل جسداً تحمل روحاً طاهرة تائبة ماعادت مخلوقة من ماء الأرض والمستنقعات بل من ماء السّماء!!). نعم تحولت البغي إلى ماء السماء الطاهر بدلاً من ماء الأرض بكل عفونته وملوثاته، وما ذاك إلا لأن المرأة طاهرة بطبيعتها دوماً من كل دنس ورجس إن لم يفرض عليها ذلك من مجتمعها الأبوي(البطرياركي)، أي حينما تترك لتختار طريقتها في الحياة الآمنة الخالية من الضغط والإكراه. ولذلك وجدنا المرأة البغي هنا تبحث عن طريقة في الحياة تعيد إليها إنسانيتها وتهديها سبيل الرشاد، فلا تجد أمامها بداً من العودة إلى ما يحيي في أعماقها القيم الدينية والأخلاقية النبيلة لتعيد اليها البراءة وصفاء المرأة وطهارتها، فتنآى بنفسها عن ذلك العالم المشوه الذي أدى بها الى التردي في مهاوي السقوط وتدمير النفس والأخلاق.
وقد نقف بإندهاش أمام هذه الصياغة الفنية الجميلة ومعمارية اللغة الإيحائية الرشيقة والجمل الإبتكارية بانزياحات لغوية حداثية متآلفة مع الحدث والنسق العام للقصة، كما في العبارة التالية مثلاً – تحجل ليل نهار بثوب أبيض – وسنلمس هنا تداخلاً في المهنة التي يمارسها الإنسان مع المعايشة اليومية لمظاهر الطبيعة – ماء الأرض – والغوص إلى الأعماق النفسية للمرأة، مع سلاسة المخرج والتحول المثير للمرأة البغي نحو الخير والصلاح والتوبة والتطهير من الأدران والذنوب، حتى نعلم أن كل ما قامت به البغي كان باطلاً وقد دفعت نحوه دفعا.
من هنا نرى كيف أكسبت اللغة القصصية في تجربة الكاتبة المتميزة نكهة خاصة، استطاعت التواصل بها مع القاريء بحس اجتماعي مرهف وقدرة على البذل والعطاء وتجاوز المألوف اللغوي، وتقديم الصورة الحميمية لجدلية العلاقة الأزلية بين الذكر والأنثى، و تصرفات الشخصية المحبة في لحظة الموت، لتشكل هواجس الكاتبة التي تنقل لنا روح التلاحم والتضحية بين عاشقين، في مشهدية درامية شديدة التاثير على مشاعر القاريء الذي قد يجد نفسه أمام حالة انسانية نادرة الوقوع، وذلك حين يتحول حلم الحب إلى الموت مسموماً ليترك المشهد بصمات في مخيلة الإنسان وقلبه الذي لابد وأنه سينبض معه بإيقاع شجي حزين.
وفي (الحكاية المأساة)
جاء العنوان في هذه الحكاية معرفاً ليعبر عن الحكاية المعروفة في الوطن العربي ولدى شعوب الشرق عموماً، وهي الحكاية التي تذهب ضحيتها كل عام الآلاف من النساء ذبحاً على أيدي ذويهن تحت هذا المسمى المجلجل ذكورياً وهي – كما قلنا – الحفاظ على الشرف وغسل العار. وبسبب عذابات المرأة والمعاناة التي تلاقيها تحت التهديد الدائم للسيف المسلط على نحرها في جرائم ما يسمى بغسل العار، توجه الكاتبة انتقاداً لاذعاً للمجتمع الأبوي والسلطة التي تسهل دوماً على الجاني فعلته فتخفف عنه أحكام السجون بكل بساطة وأريحية وبغرامة مقدارها قرش لاغير فتقول: (تتشابه تفاصيل كلّ الحكايات المأساة، إذ تعلّقت بشرف زُعم أنّه هدر على يدي امرأة خاطئة، إذ تقول الحكاية دائماً…وهكذا خسرتْ شرفها… والشرف المهدور لا يعوّضه إلا الدم المسفوك… فتسلّلّ ذكَرٌ، ما اسمه… في ليلة معتمة… وقتلها… فغسل بدمائها شرفه المطلّخ بالعار. وسلّم نفسه للقضاء، الذي كان به رحيماً، ولموقفه متفهّماً، فحكم عليه بشهرٍ من العمل الشاق، وبغرامة مقدارها قرشٌ لا غير… فأرواح المخطئات لا تساوي الكثير…).
هكذا نرى أن الأخ ينهش لحم أخته ولايريدها أن تكون أعلى منه مقاماً وأكثر منه مكانة في مجتمعه ولدى أهله وأقرانه، فيبادرإلى قتلها بعرف طقوس الدم المتوارث وإلصاق تهمة الخيانة بها : (فهي قد أهدرتْ شرفها وِفْق زعمه، فاستحقّتِ الموت بعرف طقوس الدم المتوارثة). أما من حيث الجانب الفني في هذه الحكاية وفي غيرها فنجد النص المحبوك بإتقان وسلاسة وعذوبة، والدربة المتميزة، وإسلوب السرد القصصي المتناسق العبارات، وجمالية التركيب بلقطات تلفيزيونية في غاية الإثارة والإتقان، مع تشكيل الصياغة الأدبية في طقوس ولادة النص ضمن خزين المصادر المستوحى من فيوضات الواقع الاجتماعي – التاريخي، وفي ضوء ابداعات الكاتبة الأدبية وخطوط بصماتها الخبيرة على النص المفتوح دوماً، بما يعكس معطيات ثقافة المجتمع في فضاءات شيفرات رمزية متباينة المحتوى، والتحليق في لانهائية اللغة الإيحائية لتأتي القصص كسفر مليء بالحركة والديناميات المتواترة، ومؤثرات نفسية عالية الأحاسيس ضمن سيادة اللغة الإستبدادبة للمجتمع الذكوري وقوانينه المعادية دوماً للمرأة.
وفي أقاصيص (خرافات أمي)
تحت هذا العنوان يوجد خمس قصص قصير جداً أسمتها الكاتبة بالخرافة الأولى، الثانية، الثالثة…الخ. وهي حتى وإن جاءت تحت اسم الخرافات فهي خرافات هادفة بطريقة الغمز واللمز والإيحاء والرمز، وتبدأ الخرافات بعبارة: قالت أمي نقلاً عن الخرافة. للإيحاء بأنها ليست من نتاجات الأم بل أنها خرافات شائعة بين الناس. وكل خرافة مذيلة بلوحة هامشية مثيرة للعواطف وتحريك المشاعر تجاه الأنثى وبشكل يدعو إلى الرثاء والأسى معاً، وفيها تظهر الكاتبة ببراعتها المعهودة في القص الحيف الذي يلحق بالأنثى في مجتمعها الأبوي الضاغط من خلال لوحات فنية غنية بمضمونها وبصياغاتها اللغوية المتدفقة حركية وحيوية. وسنتناول منها الخرافة الأولى والخامسة حتى لايطول بنا الدرس والتحليل.
تبدأ الخرافة الأولى بجملة: قال يخضور، وهو بطل الخرافة الأولى والخضرة دوماً هو دليل البراءة والخصب والنماء، لقد كان يخضور مثال البراءة والطهارة وطيب القلب، فأهدته الغابات من خشبها مزماراً يعزف عليه إمعاناً في حسن الخلق وطيب المعشر والمخبر، لكن الشر يكسر له مزماره حسداً منه، وكرد فعل لدى يخضور تحول بدوره إلى شرير. إنها الصراع بين الخير والشر إذاً وفساد البيئات الإجتماعية التي تخرج الإنسان عن طوره وتدفع به نحو الجرائم والمعاصي. ولكن اللوحات الهامشية لكل خرافة هي التي تثير العاطفة والحزن والأسى على الأنثى واضطهادها العنيف من جانب مجتمعها الذكوري، وخاصة إذا كانت المضطهدة هي الأم بكل حرمتها وجلالة قدرها لدى أبنائها ومجتمعها، ففي هامش الخرافة يرد وصف آسر ومحزن في آن عن حال الأنثى وحظها في الحياة على أيدي الرجل، أوأهلها وأقربائها في صياغة مسبوكة في عبارات في منتهى الإثارة والإدهاش كما في هامش الخرافة الأولى:
(لكن أميّ سمحتْ لنفسها بأن تحلم بسنٍّ ذهبيّة ، يفترُّ عنها فمها القرمزيّ الدّائريّ كخاتم سحريّ ،وقلما يسمح لها أخوها الثاني بالتّرتيب أن تبتسم،إذ ابتسامتها تذكره قهراً بضحكات العاهرات اللواتي يسافدهن بالسّر في ملهى المدينة). وهو نقد لاذع ومرير لثقافة المجتمع الذكوري الذي يحرم المرأة حتى من أحلامها الوردية ومن ابتساماتها الشفيفة البريئة، تلك الإبتسامات التي هي نبع الحنان من فم قرمزي دائري كخاتم سحري عجيب.
وفي الخرافة الخامسة، نرى الكاتبة تبدو فيها مولعة بالخير والحق والعدل في هذا العالم المليء بالظلم والعسف والجور، ففيها تمجيد للحق في صورة فتاة تنقذ أوطانها وشعبها من الأعداء وتعمل على جلب الخير والبركة لهم، فالخير دائماً هو العدل واليمن والبركة، ونقيضه غزوات وحروب وسبي للذراري والنساء وقتل للرجال ونهب للأموال…. لهذا على الساهرين على الحق ألا يناموا ويغفلوا عن هذه المكرمة الالهية للبشرية (إذ لا يجوز لكلمة الحقّ أن تنام).
…………………………………………………………………………….