لا سرختيّ ولا بنختيّ

 حسن كايا
الترجمة مع التقديم: ابراهيم محمود

لا أظن أن العنوان يتطلب تعريفاً أو توضيحاً لكل كردي حدودي، لهذا أدعه هكذا، وهو مأخوذ من النص الأقرب إلى القصة، رغم أنه يرتبط بالذكريات، وهو للكاتب الكردي “حسن كايا ” ومن نصيبين” وكايا يعني : صخرة، بالتركية “.  وعنوانه الرئيس ”  طفل الحدود أنا  ” Zarokê Sînor im .

إنه في واقعه الفعلي وبنيته: نص، قصة، واقعة، تاريخ، جغرافيا، حكاية، مسرحية، سياسة، أغنية مأساوية كردية الطابع، وجدت في ترجمته إلى العربية ونشره فرصة ما لمعرفة المزيد مما هو حدودي فينا بنا معنا عنا علينا…الخ،
 وهو مقبوس من كتاب سبق أن أشرت إليه لأكثر من مرة ” كردستان والحدود في القرن العشرين ” للكاتب والباحثة الكردية أصليخان يلدرم، الذي أنشغل الآن بترجمته إلى العربية وأنا على وشك الانتهاء منه، ويقع نص حسن كايا المدهش والمؤلم ما بين صص 638-639، وضمن فصل يحمل عنوان : التأثير النفسي للحدود .

أكتفي بهذا التقديم
النص :
 (  بدءاً من ذلك اليوم الذي أبصرتْ فيه عيناي ذلك السلك الذي لم يكن يحاط به، وكانت تتابعه وهو يمتد ويمتد إلى ما لانهاية، ويستمر في الطول باضطراد… يمتد دون توقف، كان يشتت أفكاري تحت وطأة الخرائط. كنت أغمض عيني في أيام طفولتي والخارطة التي عرَّفنا عليها المعلم في الصف الرابع، وأنا أدنيها من ناظريّ، وأعلم أن تلك الدول الموجودة على خارطة العالم جميعاً قد تباعدت عن بعضها بعضاً  بسلك مثل هذا السلك الذي كان يعبُر بالقرب من فِناء بيتنا. آهٍ يا أمي، لكم هي الحدود طويلة.. من أين تبدأ وأين تنتهي ؟ سؤال، سؤال، سؤال.
كانت المسافة الفاصلة بين مدرستي الابتدائية والحدود قرابة مترين، أو أن مدرستي كانت على الحدود. ولقد انصرمت خمس سنوات بالتمام والكمال على الحدود، ورغم أن المدرسة كانت مغلقة صيفاً، إلا أننا كنا نلعب بالكرة في باحتها، وعندما ينال منا التعب كنت نضطجع قرب جدارها مأخوذين بفيئه. بمعنى آخر، كنا نخفف من وطأة تعبنا لصق الجدار الذي كان جاراً للأسلاك الشائكة والحقل الملغوم .
وربما لهذا السبب أجدني  أنا نفسي ” على الخط “. إذ عندما يقول أحدهم ” فلان على الخط “، أو أن ” علان ” أسفل الخط ” ، في الحال يبدأ خط حدود طفولتي بمحاصرة دماغي، وتتدحرج كرتي إلى داخل السياج الشائك، وترميها فتاة ذات وجه ضحوك إلي. وذلك الجسر الذي يتوسط بيتنا وأسفل الخط، أصبح ” الخط ” أو ” الحدود “، مثل مشهد أسود وأبيض، ينغرز في بؤبؤ عيني ولا يُنتزَع .
لهذا أكون ” على الخط “، ولم أصبح ولا مرة ” سرختي : أعلى الخط “، أو ” بنختي: أسفل الخط “، بمعنى أنني لست سرختياً ولا بنختياً، إنما من مدينة نصيبين، وهي توأم قامشلو المثقلة بالتأوهات .
هلاليه، قدور بك، حي المسيحيين، كأنها لصق بيتنا، ولكم أيقظني صوت مؤذن جامع محطة قامشلو من نوم الصباح. ولقد كان ابن عم والدي إمام ذلك الجامع، وفي المدرسة الابتدائية كثيراً ما كانت تتحول كرتنا إلى الجانب الآخر من الحدود” إلى بنختي “، وكنا نخجل إزاء الفتيات اللواتي كن يعملن في ركش الحقل في الجانب الآخر، من طلبهن برمي كرتنا إلينا- لهذا لم يكن هناك قسم من الحقل غير ملغوم، وكان القرويون المحيطون بقامشلو يحصدون- إنما كانت الكرة تبقى داخل السياج الشائك تماماً، وحينها كنا نخسر الكرة، آهٍ يا أمي، كم كرة لنا علِقت داخل السياج الحدودي الشائك …!
تلك الأسلاك الشائكة التي تنغرز الآن في مركز أحلام طفولتي، كانت تبعد عن فناء بيتنا قرابة خمسين متراً. ..وعندما كان المهربون يقتحمون الحدود، والعسكر من جهتهم يطلقون آلافاً من الطلقات، وتعبر هذه الطلقات من فوق سطح بيتنا المفتوح، كنا ننكمش مثل القطط داخل فراشنا، ونغمض أعيننا تحت اللحاف، حتى نستغرق في النوم مرة أخرى.. آهٍ يا أمي لكَم هو النوم عذب…
أمام بيتنا، أسفل الخط، كان هناك تل، قيل عن أنه ” مقبرة اليهود “، وما كان يفصلني عن التل والسرير الذي كنت أنام عليه لا يتجاوز  مائة وخمسين خطوة، وكانت تضاء قناديل على التل بعد فترة العشاء، وكنت أتفرج على القناديل المضاءة أحياناً، حتى تتخدر عيناي وأنام. ولم يكن هناك من حدود في عتمة الليل، إنما كان هناك تداخل بين عواء كلاب العسكر الأتراك وأصوات الجنادب ونقيق الضفادع .
ولم يكن عواء كلاب الحراس علامة خير، إذ استمرار عواء الكلاب كان يعني أن المهربين يعبرون الحدود أو أنهم قد عبروها…إذاً، مجدداً ستشق طلقات الكلاشينكوف إلى جانب طلقات طائشة لبنادق العسكر عنان السماء، آه يا أمي، لكَم هو الرصاص كثير…في السماء التي تعلو رؤوسنا لكَم هي النجوم كثيرة يا أمي …!
والآن تكون تنملات الخوف في دمي، لعنة، موقفاً..وهي ترفع هامتها مقابل عواء الكلاب، أمام أزيز الرصاص.. نحن أطفال الحدود شئنا أم أبينا، الألغام، الأسلاك الشائكة، مخابئ العسكر الحراس الأتراك. عواء كلاب الحدود، الكرة العالقة داخل السياج الشائك، وميض الرصاصات المضيئة قد مزق خارطة على أدمغتنا. نحن أطفال المدينة التي مزّقت خارطتهم.
أنا، الطفل الذي يكون على الحدود…وقد مزقت خارطة طفولتي. كيف صار دماغي منسوجاً بعواء كلاب الحدود، وميض الرصاصات الهوائية ورائحة الحقول المشبعة بالألغام والقنابل.
والآن، عندما تمْثُل الحدود أمام عيني، عندما تنكتم أنفاسي، تضيق، أتوجه بناظري إلى السماء …حيث تبحث عيناي عن سماء زرقاء… مثل سماء طفولتي. إنما هي موضع الوسْم..
أنا لست ” سرختياً ” ولا ” بنختياً ” أيضاً…إنما صاحب خط دون علم وإشارة…) .
دهوك

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

كانت الورشة ساكنة، تشبه لحظة ما قبل العاصفة.

الضوء الأصفر المنبعث من المصباح الوحيد ينساب بخجل على ملامح رجلٍ أنهكه الشغف أكثر مما أنهكته الحياة. أمامه قالب معدني ينتظر أن يُسكب فيه الحلم، وأكواب وأدوات تتناثر كأنها جنود في معركة صامتة.

مدّ يده إلى البيدون الأول، حمله على كتفه بقوة، وسكبه في القالب كمن يسكب روحه…

صدر حديثاً عن منشورات رامينا في لندن كتاب “كلّ الأشياء تخلو من الفلسفة” للكاتب والباحث العراقيّ مشهد العلّاف الذي يستعيد معنى الفلسفة في أصلها الأعمق، باعتبارها يقظةً داخل العيش، واصغاءً إلى ما يتسرّب من صمت الوجود.

في هذا الكتاب تتقدّم الفلسفة كأثرٍ للحياة أكثر مما هي تأمّل فيها، وكأنّ الكاتب يعيد تعريفها من خلال تجربته الشخصية…

غريب ملا زلال

بعد إنقطاع طويل دام عقدين من الزمن تقريباً عاد التشكيلي إبراهيم بريمو إلى الساحة الفنية، ولكن هذه المرة بلغة مغايرة تماماً.

ولعل سبب غيابه يعود إلى أمرين كما يقول في أحد أحاديثه، الأول كونه إتجه إلى التصميم الإعلاني وغرق فيه، والثاني كون الساحة التشكيلية السورية كانت ممتلئة بالكثير من اللغط الفني.

وبعد صيام دام طويلاً…

ياسر بادلي

في عمله الروائي “قلعة الملح”، يسلّط الكاتب السوري ثائر الناشف الضوء على واحدة من أعقد الإشكاليات التي تواجه اللاجئ الشرق أوسطي في أوروبا: الهوية، والاندماج، وصراع الانتماء. بأسلوب سردي يزاوج بين التوثيق والرمزية، يغوص الناشف في تفاصيل الاغتراب النفسي والوجودي للاجئ، واضعًا القارئ أمام مرآة تعكس هشاشة الإنسان في مواجهة مجتمعات جديدة بثقافات مغايرة،…