أصدقاء الروح : شكراً لكم

 ابراهيم محمود  

 

” بصدد الملف المخصص عني في جريدة”
بينوسا نو “

  
قيل عن اليونان عن أنهم وحدهم يستحقون أن
يكونوا أصدقاء الفلسفة! وبغضّ النظر عن مدى دقة هذا التنسيب أو العبارة، إلا أن
القول لافت للنظر بمضمونه تاريخياً، ولعلّي حين اطلعت على العدد الجديد، من جريدة
بينوسا نو ” ذي الرقم ” 29 –أيلول 2014″ باللغة
العربية، وقد نشِر فيه ملف يخصني وتحت عنوان ” شهادات حول المنجز الكتابي
للمفكر الكردي ابراهيم محمود “، تملّكني شعور بالغبطة، فالمنجزَ يشير إلى
المحقَّق، إلى ما بلغه المرء، ويحمل قيمة لافتة بمحتواه بدوره، ولا بد أن هذا
المنجز هو الذي يصل بالمرء ويسمّيه مفكّراً.
هذا الربط بين المنجَز والتفكير بقدر ما
يفرِح، فإنه يشكّل عبئاً ثقيلاً. فأن يكون المرء مفكراً هو أن يكون في مستوى المفردة/
المفهوم، وهي انعطافة استثنائية في الحياة حيث المطلوب من المرء هنا أن يواجه ذاته
أكثر،  أن يكون أكثر دقة، أكثر يقظة فيما
يقول ويعمل، أكثر محاسبة لنفسه من ذي قبل . 
لم أعتبر نفسي يوماً مفكراً، ولن أعتبر نفسي
مفكراً ما حييت، ليس لأنني أرفض هذه التسمية، وإنما لأن مجرد قبولها يعني الوقوع
في غوايتها، في فخ المعنى، وفيها توقيف ورهن الإقامة في المكان والزمان، لأن
المفكّر لا يكون إلا حين يودّع الحياة أو تودعه هذه، حينها ينظَر في أمره: ما إذا
كان مفكراً بالفعل أم لا، كون المرء حصيلة حياتية لما عاشه، لما كان عليه باعتباره
رحالة أمكنة وأزمنة. 
ورغم ذلك، فإن الجاري بمنح المرء لقباً، أو
تسمية لهو اعتراف بصنيعه البحثي أو الأدبي، ومن باب التقدير له وهو على قيد
الحياة، وعلى الممنوح أن يعيش خارج اللقب ليس رفضاً له، وإنما لينمّي ذاته البحثية
أكثر. 
وما كتِب عني في ” بينوسا نو”
بعددها الجديد، كما لو أنني عشت حياة كاملة، كما لو أن ثمة وداعاً لي وأنا على قيد
الحياة، كما لو أنني ” هنا “.. منبعث من جديد.. وكل كتابة ملهمة إحياءٌ
ما لذات الكاتب. 
ولا بد أن القلة الكاثرة  من الأصدقاء ” بتعبير أحدهم ” ممن
كتبوا عني منحوني دفق حياة، رغم أن الحياة التي أعيشها ” وفي هذه اللحظة، لا
أظن أن أحداً يتمناها بشظف عيشها، وبؤس مردودها الاعتباري “، كما لو أنني أعيش
احتضار الروح وحولي ما كتبت، وكأن كل ما نشرت وما هو قيد النشر، وما ينتظر نشراً
طبعاً يسخر مني، وينخر في روحي بالذات، ويرثيني رثاء مراً ويطعّم الرثاء بهجاء
مفلق له صداه في الجوار الأصم، وفي جهة ” كردستانية : إقليم كردستان “،
كان يؤمّل منها أن تشحن الروح العادية، فكيف بروح تعيش الكتابة الحارقة المحرقة
للروح منذ أكثر من ثلاثة عقود؟ 
ورغم ذلك، فإن الذي بثته كتابات القلة
الكاثرة من أصدقاء الكتابة والروح الخاصة بها، أخرجني من ” غرفة العناية
المشددة ” لحياة ثقيلة الوطء، وإلى هواء محبتهم الطلق، لتكون ” بينوسا
نو”: بينوسا نو. 
وبحسب الترتيب في الجريدة العتيدة، ولأكون في
موقع رد بعض جميل هؤلاء ذوي الحضور الكتابي، وهم” مع حفظ الألقاب
مسبقاً”: عبدالواحد علواني، ابراهيم يوسف، نبيل سليمان، أحمد خليل، محمود
عباس، فدوى كيلاني، عبدالباقي حسيني، خورشيد شوزي، أقول: شكراً لكم يا أصدقاء
الروح. يقيناً، إن ما تخلل نصوصكم المضيئة يمثّل أكثر من مؤاساة، أكثر من التفاتة
نظر جميلة ومهيبة، أكثر من يقين يضعني في صورة يقين بوجوب الإقامة في الحياة أكثر،
بوجوب شحن الروح التي لا تخفي يأسها، بوجوب أن تتمثل بأس الحياة بحثاً عن الأفضل،
وصولاً إلى هذا الوسام المعطى مسبقاً : المفكّر. 
أوه، يا مهندسي الروح، لقد علمتموني الحساب،
حساب قياس مسافات الحياة المقطوعة، والمسافات التي يجب قطعها، حساب المسافات
المضمرة والمقدَّر، الحساب الذي يضاف إلى رصيد الروح: ما معنى أن تصبح مفكراً،
كإنسان وككردي ضمناً. 
أجدد شكري لكل ما كتبتموه، وأعاهدكم، كما
أعاهد روحي على أن أتعلم المزيد من الحساب لأستحق انتماء إلى هندسة الروح تلك التي
تقيمون فيها، ولولاها لما كان الذي كان . 
  

دهوك: الجمعة، في 3
تشرين الأول 2014 

  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

كانت الورشة ساكنة، تشبه لحظة ما قبل العاصفة.

الضوء الأصفر المنبعث من المصباح الوحيد ينساب بخجل على ملامح رجلٍ أنهكه الشغف أكثر مما أنهكته الحياة. أمامه قالب معدني ينتظر أن يُسكب فيه الحلم، وأكواب وأدوات تتناثر كأنها جنود في معركة صامتة.

مدّ يده إلى البيدون الأول، حمله على كتفه بقوة، وسكبه في القالب كمن يسكب روحه…

صدر حديثاً عن منشورات رامينا في لندن كتاب “كلّ الأشياء تخلو من الفلسفة” للكاتب والباحث العراقيّ مشهد العلّاف الذي يستعيد معنى الفلسفة في أصلها الأعمق، باعتبارها يقظةً داخل العيش، واصغاءً إلى ما يتسرّب من صمت الوجود.

في هذا الكتاب تتقدّم الفلسفة كأثرٍ للحياة أكثر مما هي تأمّل فيها، وكأنّ الكاتب يعيد تعريفها من خلال تجربته الشخصية…

غريب ملا زلال

بعد إنقطاع طويل دام عقدين من الزمن تقريباً عاد التشكيلي إبراهيم بريمو إلى الساحة الفنية، ولكن هذه المرة بلغة مغايرة تماماً.

ولعل سبب غيابه يعود إلى أمرين كما يقول في أحد أحاديثه، الأول كونه إتجه إلى التصميم الإعلاني وغرق فيه، والثاني كون الساحة التشكيلية السورية كانت ممتلئة بالكثير من اللغط الفني.

وبعد صيام دام طويلاً…

ياسر بادلي

في عمله الروائي “قلعة الملح”، يسلّط الكاتب السوري ثائر الناشف الضوء على واحدة من أعقد الإشكاليات التي تواجه اللاجئ الشرق أوسطي في أوروبا: الهوية، والاندماج، وصراع الانتماء. بأسلوب سردي يزاوج بين التوثيق والرمزية، يغوص الناشف في تفاصيل الاغتراب النفسي والوجودي للاجئ، واضعًا القارئ أمام مرآة تعكس هشاشة الإنسان في مواجهة مجتمعات جديدة بثقافات مغايرة،…