الشعوب بمعالمها ومشاهيرها إبراهيم محمود مثالا

د. محمود عباس

لا يخلو شعب من معالم ومشاهير تفتخر بهما، إلا تلك الشعوب التي تقف في مؤخرة المتخلفين من بني البشر؛ وذلك لقلة علمها ومعرفتها وثقافتها بما تملك من هذه المقدرات. كلما كان شعب ما متخلفا كان جاهلا بقدر معالمه ومشاهيره. والشعب الكردي لم يشذ عن هذه القاعدة، بل مثلها خير تمثيل، حتى يكاد ينوب عنها في الشواهد والأمثال. والدليل على هذا العديد من عظماء شرقنا من الكرد لم يشتهروا في الوسط الكردي؛ وإنما كان اشتهارهم في أجواء جيرانهم. ولا داعي أن نزيد على هذا، سوى أن ننوه أن معظم هؤلاء المشاهير الكرد أنكرت أجواء الجيران انتسابهم إلى الكرد، بل اعتبروهم من مشاهيرهم. كي نكون دقيقين في دعوانا هذا، نتناول معاناة ناقدنا الكبير إبراهيم محمود لنؤكد على صدق قولنا، كوننا نكاد ننوب عن تلك القاعدة.
الناقد الكبير إبراهيم محمود شهدت بتفوقه الخارق في مجال النقد على مستوى العرب من المحيط إلى الخليج. لم يثر هذا أي انتباه للكرد إن كان ذلك في وسط المثقفين الكرد أو في أوساطهم العلمية الخاصة. بقي هذا العَلَم، بحق، منسيا يقوم بتدريس الفلسفة في مدينة محكومة بقوانين استثنائية منذ عقود. ولم يحظَ هذا البارع الاهتمام المستحق من قبل الأوساط العربية، المعترفة ببراعته في هذا الجانب، كونه كردي. هكذا عانى الناقد الفذ من الإجحاف إلى أن اضطرته ظروفه للعبور إلى الإقليم الكردستاني، الذي زخر بالجامعات والكليات منذ عقود، وحتى قبل ضلوع ناقدنا البارز في الساحة الأدبية كأحد أبرز رموز هذا الفضاء الأدبي. ولم يخطر ببال الحريصين على تنشئة أجيال الكرد الأدبية، على أن يكون تعليمهم على أياد أهل هذا الضرب من العلم، واستعانت بمن هم دون هذا المستوى إلى حد لا يقبل المقارنة. وبمحاكمة منطقية منصفة، كان من الأولى أن يكون هذا الناقد الضليع أول من يدعى ليدرس في جامعات كردستان الجنوبية، ليس تكريما له؛ وإنما حرصا على الجيل الناشئ ليبرع في هذا المجال؛ حيث علينا نحن الكرد أن نكون بارزين في كل المجالات؛ لكي نجلب انتباه المعنيين بشؤون شرق أوسطنا على جدارتنا، حتى لا ينجروا كثيرا وراء محتلينا واختلاقاتهم بحقنا. ولم تقف معاناة هذا البارع بوصوله إلى كردستانٍ لا قيود فيها على الكردي، فعمل في مجال غير مجاله، وإن كان قريبا منه، ولكنه حرم من براعته في مجال التطبيق ونقل معرفته إلى أبناء قومه بكل إخلاص، ليخرِّج أجيالا من الكرد يبهرون العالم كأسلافهم، ولكن في هذه المرة، ككرد أصلاء، أجحفنا بحق مَعْلَمِنَا. ولم يكن الحاصل نهاية المعاناة له، لقد تلقفته معاناة مغلفة بمأساة تحير لهما الألباب. فَصُرف من الوظيفة إثر قطع الحكومة المركزية رواتب موظفي الإقليم، عندما تدخل بعض المقدرين له، وُعدَ بإعادته إلى وظيفته المتواضعة، ولدى امتثاله ليعاود وظيفته طُلبَ منه الجنسية العراقية. وهذه المرة أجاد خيار الكرد وأمناؤهم في التعامل مع مشاهيرهم وتثمين مكانتهم. ولا يخفى على القاصي والداني أنه بوسع المؤسسات توظيف مواطنين من غير مواطنيها كونهم خبراء، ولكن هذا القانون لا يشمل علما من أعلامنا. في هذه الحالة يعتبر الناقد الكبير موظفا عاديا حاله كحال قاصدي دول الخليج من رعايا الدول الفقيرة. ويكفينا معرفة وإدراكا أن إقليمنا الجنوبي هو كالخليج للقاصدين إليه.
هذا المشهد يدلنا على أن أسلافنا قد تعاملوا مع مشاهيرنا بهذا الأسلوب؛ حتى اضطر أولئك إلى الانخراط في أوساط الجيران متناسين أصالتهم الكردية، واليوم نحاول، عبثا، استرجاعهم إلى حاضنة وطنهم الأم. ولكن هيهات أن نتوفق في مسعانا هذا، طالما لا زلنا ندين بنفس الذهنية الآتية من القرون السحيقة، والشاهد على هذا عَلَم من أبرز أعلامنا.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
نشرت في جريدة بينوسا نو العدد-29-  الناطقة باسم رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

ولد الكاتب والصحفي والمناضل الكوردي موسى عنتر، المعروف بلقب “آبي موسى” (Apê Musa)، عام 1918 في قرية “ستليلي” الواقعة قرب الحدود السورية، والتابعة لمدينة نصيبين في شمال كوردستان. ترعرع يتيماً بعد أن فقد والده في صغره، فحمل في قلبه وجع الفقد مبكراً، تماماً كما حمل لاحقاً وجع أمّته.

بدأ دراسته في مدارس ماردين، ثم انتقل…

أسدل يوم أمس عن مسيرتي في مجلة “شرمولا” الأدبية الثقافية كمدير ورئيس للتحرير منذ تأسيسها في أيلول 2018، لتبدأ مسيرة جديدة وسط تغييرات وأحداث كبرى في كُردستان وسوريا وعموم منطقة الشرق الأوسط.

إن التغييرات الجارية تستدعي فتح آفاق جديدة في خوض غمار العمل الفكري والأدبي والإعلامي، وهي مهمة استثنائية وشاقة بكل الأحوال.

 

دلشاد مراد

قامشلو- سوريا

19 أيلول 2025م

الشيخ نابو

في زمن تتكاثر فيه المؤتمرات وترفع فيه الشعارات البراقة، بات لزاما علينا أن ندقق في النوايا قبل أن نصفق للنتائج.

ما جرى في مؤتمر هانوفر لا يمكن اعتباره حدثاً عابراً أو مجرد تجمع للنقاش، بل هو محاولة منظمة لإعادة صياغة الهوية الإيزيدية وفق أجندات حزبية وسياسية، تُخفي تحت عباءة “الحوار” مشاريع تحريف وتفكيك.

نحن لا نرفض…

نجاح هيفو

تاريخ المرأة الكوردية زاخر بالمآثر والمواقف المشرفة. فمنذ القدم، لم تكن المرأة الكوردية مجرّد تابع، بل كانت شريكة في بناء المجتمع، وحارسة للقيم، ومضرب مثل في الشجاعة والكرم. عُرفت بقدرتها على استقبال الضيوف بوجه مبتسم ويد كريمة، وبحضورها الفعّال في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد جسّدت المرأة الكوردية معنى الحرية، فلم تتوانَ يومًا عن…