الشاعر لقمان محمود في «وسيلة لفهم المنافي» قصيدة «التراب» أنموذجاً

بقلم: هشام القيسي

  في سيميائيات التراب، ننفتح على جملة مثابات تتداخل فيها مدلولات مختلفة ، إجتماعية ، وجودية ، سياسية ،   فلسفية ، تمثل ذاكرة مفتوحة لها منطقها وتركيبها مثلما لها رؤاها وسط تأملات ومشاهد حادة تحمل وجعها ونقدها في آن واحد إزاء عالم تعصف به تجارة مشاعر البشر بدلالة السياسة ، وما تستثيره من شهوات مضافة لا تقف عند مستوى محدد . لذلك بات التدهور القيمي يؤشر بشكل جلي من خلال تناقضات سالبة تمد الأرق والتأمل فيه معا بتدفقات لها وقعها ومداها .
  من هنا نقف عند قصيدة التراب ، متصدرة مجموعة الشاعر لقمان محمود الجديدة – وسيلة لفهم المنافي ، ابتداء من عنونة القصيدة باعتبارها فضاء النص ومحرك العلاقات الداخلية . فالتراب برؤيا الشاعر ينساب إلى معان تتناغم جميعها تحت إسقاطات حاضن المكان ، وحيثما تكون تؤدي ترميزاتها إلى وظائف أخرى في النسيج الشعري بطاقة نلمس فيها صدقية العواطف الموقدة للرؤيا ، فالذكريات والمساحة المفتوحة والمكان الأول ( البيت الطيني ) سلسلة إيحائية تشير إلى ذلك : 
مثخنا بالذكريات ، كغبار مفجوع بالتراب 
هكذا أراني متشبثا باللامكان ، وبالقبر الذي يتناثر 
في المنافي 
أمضي إلى بيتي الأول ، أمضي إلى طفولتي 
أتنفس البيت الطيني ، كأنني رئة التراب … .
فالشاعر هنا عبر استرجاعاته هذه يحلم بتفعيل وجود ينتبه له الأمل بعيدا عن الرتابة والذبول وبما يجعله عبرسياقات اتصالاته في كنه وجدان المتلقي ، محفزا ومثيرا كمتغير داخل لصالح دالات الإنسان . 
وتبدو تداعيات المشهد الحياتي المتسارع عبر النداء الحي وانشطاراته ، وما يعكسه من مغزى وإيحاء وتناضر هي في مواجهة الإنتظار تشكل أسئلة وإدانة . فالشاعر ينتقل من أثيره الرحب  
( أتنفس البيت الطيني ) إلى النداء ، فالمنادى يصبح بيئة مشخصة لوجود متحقق عاكس لمؤشرات الحالة النفسية : 
يقينا أيتها الأرض 
إنك ساتر ترابي 
لمكان يسقط ، 
لمكان يصمد 
غير أني قناص فاشل 
أنظر من زاوية معتمة 
إلى الهزائم . 
وكل صورة تتوالد عنها صورة أخرى تسعى لتأكيد مشاهد الوجع ، فضبابية السلب مازالت عاملا فاعلا في منظور الشاعر إزاء قضية باتت حتى اليوم رهينة الرؤى السياسية الخاضعة لمنطق وحسابات العمل والمال ، البعيدة عن المشاعر الإنسانية والحقوق القومية .
فمن دعم ثورة الشعب الكردي : 
( سأروي كيف كان أبي 
 يرسل إلى المعركة قوت عائلته )  
إلى الإسهام الفعلي في الثورة : 
( وعندما أشتدت الحرب أغلق دكانه ، 
  والتحق بثورة لم تصمد طويلا ) 
ثم التضحية :
( عاد أبي منهزما وجريحا ، ومات قبل أن يعرف 
   أن شقيقه قد أستشهد .. ) 
ولهذا فالمشهد الوصفي الخارجي ينعكس بدلالة الألم على الانتكاسة : 
( في تلك الليلة أغمضت عيني على الدموع : 
  ضجيج في الغرف ، 
  ضجيج في باحة المنزل 
  ضجيج في الشارع ، 
  وهدوء على جثة أبي .. )
وتكرار مفردة ( ضجيج ) هو تجسيد لمترشحة المشهدية الاجتماعية الشرقية إزاء حالات الوفاة بشكل عام لاسيما المجتمعات الشعبية . 
والشاعر في قصيدته هذه ، التراب ، يعي جدل الثورة زمكانيا وباستمرارية وهذه الاستمرارية 
نلمسها اليوم في جهة أخرى من قلب الشمال السوري ، حيث يهطل وجع الشاعر من خلال تواليات صورية شعرية : 
( بعدها بأعوام تدحرجت حروب أخرى ، إلى
  جهة أخرى في قلب الشمال : 
  حروب معجلة 
  حروب مؤجلة 
  حروب وقحة 
  حروب خامدة ، 
  حروب حاقدة ، 
  حروب غادرة ، 
  وحرب الأخوة . . ) . 
 أن المشهد المصنوع من خلف الأبواب ومن خلف الأستار وفق شهوة وأعتبار الحس الرأسمالي هي صور طبق الأصل لمعطيات البراجماتية وفلسفتها ( العملية ) التي تفضي إلى الاستحواذ والسيطرة ورسم ملامح جديدة على أرض الواقع . وحينما نقارب تداعيات ما تؤول إليها الأحداث نجدها متوافقة ورؤية الشاعر عبر صور الحروب : 
( معجلة 
  مؤجلة 
  وقحة 
  خاملة 
  حاقدة 
  غادرة 
  حرب الأخوة ..) . 
من هنا يمكننا القول، أن صدمة الحاضر تضفي على نصوص الشاعر حركية باتجاه توضيح الدلالات القيمية بما يجعل هذه الإرساليات عبر طاقاتها الموحية متناغمة في ذاكرة المتلقي وبشكل دينامي لشدة هول الحدث. وهذا ما نجده في المقطع الأخير من خلال استثارة الانتباه وفق مفردات تكشف حدة الصراع بين القيم ونقيضها ، بين اليقظة والخيبة ، بين المستور والمعلن على حد سواء ، وبالظلم الذي بات عند الشاعر دائرة مفتوحة وغير مغلقة يئن هو فيها ، وتئن آلآم  شعبه الكردي فيها أيضاً: 
 ( غير أني لا أحتاج إلى براهين جديدة 
    في أنهيار الأعمار والحقائق ، وأنت على 
    ما أنت عليه : فاتحة للأبد قبر الحياة .
   لكل ذلك سأكتم أنيني ، فالمشهد على حاله 
   من ( كوباتي ) إلى ( شنكال ) . 
قصيدة التراب إذا صيرورة المسيرة الكردية المتفجرة حرارة وإيمانا بأوجاعها وبطولاتها .
   

*جريدة بلادي

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…