ثقافة الحوار *

أحمد حيدر 

    ثمة بديهية ، بات لزاما علينا إدراكها،واستيعابها،ولم تعد تحتمل المواربة  أوالتنصل منها ، نظرا لأهميتها، وحساسيتها في ظل مايشهده الواقع من أحداث وتطورات خطيرة ، وأن أي سعي إلى إلغائها، وتحت أية ذريعة كانت سعي عقيم ، وهي :ان الهوية الثقافية ومكوناتها لا تقوم على المطابقة ، والتماثل ، إنما على التعدد ، والتنوع الذي يفضي إلى إثراء المضمون الحضاري لمفهوم الهوية الثقافية (ويمكن أن تكون مركبة – حسب رأي الدكتور كريم أبو حلاوة –  ومفتوحة ، ومرنة  وقابلة لإعادة التشكيل ، وهي مرهونة بقدرة المجتمع على تأمين وإشباع الضروري للحاجات الثقافية والجمالية والروحية لأفراده ،لا عادة صياغتها بما يتوافق مع المهام المطروحة  ويستجيب للحاجات المتجددة)

 وأمام هذه المعطيات التي تفرض نفسها علينا ، نرى أن الحوار العقلاني – المدخل لفهم الذات أولا ، وفهم الآخر ثانيا – بين مختلف مكونات المجتمع ، وتياراته  (واجب عين) و ضرورة  للتواصل الإنساني ، من اجل إزالة الغبش ، وإجلاء الحقائق ، للوصول إلى قواسم مشتركة تؤسس لدينامية مغايرة ، تضمن استقرار وأمن المجتمع ، ونسيجه الاجتماعي والسياسي ،  تكون مقدمة لإعادة النظر في الفضاء الثقافي الراهن ، ترفع الأوابد عن الإبداع ، وآفاق الثقافة الجديدة التي   تشجع الحوار في كل الحقول والأصعدة ، الحوار الوطني الديمقراطي ، تنبذ القمع الفكري ، والتطرف ، والمغالاة ، وتؤصل الحرية لرأي الآخر ، واحترامه ، بدلا من مصادرته . 
 وعليه ، فالحوار بحاجة إلى ثقافة جديدة ، وفكر يحترم التعددية والاختلاف ، والإقرار بان
(الحقائق المجتمعية ماهيات مركبة ذات وجوه وأبعاد ، لا جواهر بسيطة مطلقة ذات بعد واحد) إضافة إلى الانعتاق من نزعة الانكفاء ، المقيدة للحوار العلني –يتميز بالصدق والشفافية – بين الثقافات الوطنية الأخرى: الكردية ، والسريانية ، والآشورية ، والأرمنية .. ومن الفكر المسبق القائم على نفي الآخر
(الذي يقطع الطريق على أي تفكير) كما يرى سيروس .
واعتماد الحوار في إدارة الخلافات المجتمعية ، دليل على نضج ،ورقي المجتمع  يتطلب  تجاوز خطاب (الخصوصية الثقافية) الثابتة ، في عالم متغير ، وإيجاد علاقات جديدة مع الآخر ، ترتكز على مبدأ التعددية وحق الاختلاف، بعيدا عن إقصاء المغاير ، والتفرد في الرأي ، أومحاولة فرضه على الآخر. الذي من شأنه إثارة التفرقة ، والتوتر ، والاحتقان ، لا أحد يتكهن بعواقبه ، تنبه له الإمام علي ابن أبي طالب في مقولته الشهيرة: (من استبد برأيه هلك ، ومن شاور الرجال شاركهم في عقولهم) كما ان منطق الاختلاف يتكامل عبر الحوار ، لتحقيق توافق في الآراء ،ولا ينبغي أن  يتوقف عند الأحكام القاطعة ، وهذا ما عبر عنه الإمام الشافعي بقوله: (رأينا صواب محتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل  الصواب)    
والحوار الذي الأصل فيه الاختلاف ، والاختلاف هو التباين في الرأي ، والمغايرة في الطرح ، وقد ورد فعل الاختلاف في القرآن الكريم ، في العديد من الآيات منها قوله تعالى 🙁 فاختلف الأحزاب من بينهم) مريم ، وقوله تعالى : (وأرجلهم في خلا ف) المائدة ، وقوله تعالى:( ويحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه مختلفون) البقرة ، وجاء  في الحديث الشريف: (اختلاف أمتي رحمة)
 وجاء في كتب السيرة ان ابن مسعود اختلف مع أمير المؤمنين عثمان بن عفان في مسألة إتمام الصلاة في سفر الحج ، لكنه لم يخالف ، وقال : الخلاف شر ، قد يودي الى القطيعة ، ثم أتم الصلاة خلفه  .
ويرى العلامة ابن القيم: (ان وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم ، وإفهامهم ، وقوى إدراكهم ، ولكن المذموم بغي بغضهم على بغض وعداواته) والاختلاف لا يدل على القطيعة بل على بداية الحوار الذي من شأنه  تعزيز التقارب ، وإزالة الحواجز المتراكمة من سوء الفهم المتبادل بين الشعوب التي عانت من الويلات ، جراء التعصب ، وسوء الظن ، والعنف …الخ
 ويستلزم في الحوار- الذي من دونه يستحيل تطور الفكر البشري- توافر عنصر الإرادة ، والتحلي بالشجاعة الكافية لمواجهة الأفكار الهشة (التي تختزنها الذاكرة الشعبية لثقافة شعب من الشعوب عن ثقافة شعب آخر) ومن المورثات الهشة
( الماضوية) التي تسبغ عليها هالة من ( القداسة)  تحرم النقاش فيها و لا تقبل النقد . وتسد منافذ الحوار . فلا يمكن لأي حوار منشود  أن يكون فاعلا ومنتجا  ، دون امتلاك أدوات الحوار الحقيقية، الذي يعتبر النقد احد عناصره الرئيسة . 
إضافة إلى عناصر أخرى تعين على إزالة التراكمات وتمهد  للحوار (الفضاء الخصب لتبادل المعارف الإنسانية وامتزاجها الخلاق ) على قاعدة التنوع منها :   
القبول بالقيم الديمقراطية ، وحقوق الإنسان ، وفتح المجال أمام المنظمات الأهلية ، والمجتمع المدني  في صياغة السياسات الثقافية .
من هنا ، تأتي دعوة (نرجس) إلى تفعيل الحوار  الديمقراطي ،  وتوسيع دائرته ، ليشمل النخب الفكرية  ، والقوى الثقافية الفاعلة والقادرة على اكتشاف المساحات الحضارية المشتركة ، وبلورتها ، والانطلاق منها في أية مبادرة ثقافية .
ونسعى أن تكون (نرجس) منبرا حرا للمقاربات الإبداعية الجديدة ، والرؤى المغايرة التي تساهم في تحريك الساكن ، في الراهن الثقافي .
نؤكد مرة أخرى ، على استقلالية (نرجس) وعدم انتمائها سوى للموهبة ، ونرحب بجميع المساهمات ، والآراء التي تسهم في اغتناء الفضاء الثقافي  المنشود وتحفظ رسالة الحرف السامية .
—–
* افتتاحية العدد الثاني من مجلة – نرجس –

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

أحمد الصوفي ابن حمص يلخص في تجربته الفنية الخصبة مقولة ‘الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح’، وهو كثير الإنتماء إلى الضوء الذي يحافظ على الحركات الملونة ليزرع اسئلة محاطة بمحاولات إعادة نفسه من جديد.

يقول أحمد الصوفي (حمص 1969) في إحدى مقابلاته : “الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح”، وهذا القول يكاد ينبض في…

عبد الستار نورعلي

في الليلْ

حينَ يداهمُ رأسَك صراعُ الذِّكرياتْ

على فراشٍ مارجٍ مِنْ قلق

تُلقي رحالَكَ

في ميدانِ صراعِ الأضداد

حيث السَّاحةُ حُبلى

بالمعاركِ الدُّونكيشوتيةِ المطبوخة

على نارٍ هادئة

في طواحينِ الهواء التي تدور

بالمقلوبِ (المطلوبِ إثباتُه)

فيومَ قامَ الرَّفيقُ ماوتسي تونغ

بثورةِ الألفِ ميل

كانتِ الإمبرياليةُ نمراً..

(مِنْ ورق)

بأسنانٍ مِنَ القنابلِ الذَّرية

ومخالبَ مِنَ الاستراتيجياتِ الدِّيناميتية

المدروسةِ بعنايةٍ مُركَّزَة،

وليستْ بالعنايةِ المُركَّزة

كما اليوم،

على طاولته (الرفيق ماو) اليوم

يلعبُ بنا الشّطرنج

فوق ذرى…

حاوره: إدريس سالم

إن رواية «هروب نحو القمّة»، إذا قُرِأت بعمق، كشفت أن هذا الهروب ليس مجرّد حركة جسدية، بل هو رحلة وعي. كلّ خطوة في الطريق هي اختبار للذات، تكشف قوّتها وهشاشتها في آنٍ واحد.

 

ليس الحوار مع أحمد الزاويتي وقوفاً عند حدود رواية «هروب نحو القمّة» فحسب، بل هو انفتاح على أسئلة الوجود ذاتها. إذ…

رضوان شيخو
وهذا الوقت يمضي مثل برق
ونحن في ثناياه شظايا
ونسرع كل ناحية خفافا
تلاقينا المصائب والمنايا
أتلعب، يا زمان بنا جميعا
وترمينا بأحضان الزوايا؟
وتجرح، ثم تشفي كل جرح،
تداوينا بمعيار النوايا ؟
وتشعل، ثم تطفئ كل تار
تثار ضمن قلبي والحشايا؟
وهذا من صنيعك، يا زمان:
لقد شيبت شعري والخلايا
فليت العمر كان بلا زمان
وليت العيش كان بلا…