الإهداء دوماً يكون إلى الساعين لكسر الحدود.. المتمرّدين على التزوير.. الجابرين كسورَ الخرائط.. الماحين خطوطَ الطول والعرض، ليكون لهم أطلسهم المحقّ حقَّهم، والفاضح عُري التاريخ وجرمه أمام صمود الجغرافيّة، رغم مداومة الطعن فيها، ومضاعفة النزف البشريّ منها..
إنّ هذه الجغرافيّة المطعونة تاريخيّاً تُدفع إلى التناسف ذاتها، لتنسف نفسها، وتغور، ومن ثَمّ ليتبدّد انتماء الإنسان نفسه ويتجزّأ، ليتخبّط بين أجزاء مجزّأة ومحوَّلة إلى متاهة تُتيهه في بحثه عن دروب الخلاص، هذه الدروب التي تساق إليه معلَّبة تعليباً عدائيّاً، لا يهدف سوى تجريده من كلِّه، ليتوهّم بأنّه يعيش، وإن كان عيشة روبوت مهيكل، مسلوب الروح الحيّة، آليّ يدار ويُحرَّك بأزرار حسب الطلب، ولا شكّ حينذاك سيكون من الطراز الآليّ الرديء الصنع، أو المعدّ للاستخدام لمرّة واحدة فقط..
هذه هي الصورة اليتيمة التي يريد أيّ مستغلٍّ أو عدوّ أن يرى عدوّه عليها، لأنّها تطابق مواصفاته التي ينشدها له، وتراه يستميت لإبقائه كذلك..
إنّها مشاهدات ووقائع تماسست معها، وهي تداعيات تتبعها، أو تسبقها، أو توازيها، منها ما لمسته، ومنها ما أتألّم له، ومنها كذلك ما تقصّدت إطالة التوقّف عنده، لأنّ تهميشها واقعيّاً لا يلغي دورها التاريخيّ برأيي، وليس بالضرورة أن يكون المُمحى الكيان، وفق منطق العدوّ المطبَّق، منسيّاً بالنسبة لنا، لأنّ تحدّي الأعداء يكون بذكر من يريدون لنا أن ننساهم أو نتناساهم، والتذكير بهم، لأنّ الذاكرة هي أكثر من يوثَق به، عندما ينعدم من نثق بهم، فهي لا تخون من لا يخونها، ولا تُفقده نفسها.. وتساعد من يلتجئ إليها، وتخبّئ له ما يظنّ بأنّه لن يحتاج إليه..
الذاكرة هي لوح الكرديّ المحفوظ، الذي ينشدّ به إلى الجذور، ولا يَنْشدِهُ معه أمام استعراضيّات جوفاء، والذاكرة أكثر ما يحتاجها الكرديّ في أرضه التي يسكنها، وفي أيّ أرضٍ أخرى يمكن له أن يسكنها.. لذا فيجب أن يكون الكرديّ مسكوناً بالذاكرة المحفّزة للمستقبل، لأنّ:
ذاكرة الكرديّ سلاحه..
ذاكرة الكرديّ رباطه المقدَّس..
ذاكرة الكرديّ ميثاق شرفه مع تاريخه..
ذاكرة الكرديّ رهانه على نفسه وتاريخه ومستقبله..
إنّ هذه ليست مزاودات أو مضاربات في الساحة، إنّها سياحات بين الحدود، ووقوف على الأسلاك المكهربة القاتلة تحدّياً، إنّها مفارقات الذهنيّة المتشتّتة، إنّها التماسات الانتماء الوحيد، ونبذ الانتماءات المتضالّة معاً.. وهي صرخات رفضٍ تعني كلّ مهتمّ، مغتمٍّ، رافضٍ للواقع الكارثيّ المفروض بسياط الأحلاف المبتزّة والتحالفات المُنهكة، وهي بالمقابل عناوين للبحث عن افتراضٍ لواقعٍ كان واقعاً قبل أن يُفترَض افتراضاً..
ويستمرّ الطعن مخترقاً هذا الجسد الذي بات يجاهد على نفسه والبلاوى التي يُبتَلى بها، آملاً في استفاقة قريبة من التنويم والتنوُّم، أملها في ذلك، كاوا:ها الحدّاد العالِم المعاصر، ليقضي على الضحّاك المخضرم الظالم المريض.. في انتظار كاوا، الحلمُ، والتحدّي، والتجذّر..
الحدود اللحُود، الحدود التي تشكّل بتراً للشرايين وتقسيماً إجباريّاً للقلوب، هذه التي سيلقى بها على الطرفين دون أيّ اعتبار لإنسانيّة مجتثّة من جذورها، ليكمل الإنسان المقسّم بين الحدود حياته مقسّم الأعضاء والعواطف، مشتَّت الرؤى، معدوم الكيان، لتتطوّر الحدود بمفهومها الفاصل، وتضيّق على الحدوديّين، إذ تصير لحود الآمال، وقبوراً لمن يحاول خرقها وتجاوزها من الطرفين بدون الاتّفاق مع أحدهما، وسدوداً لكلّ تواصلٍ محتمَلٍ..
هكذا حدودنا، هي السدود،.. إنّها اللحُود..!!!
أترك للذاكرة بعضاً من الذكريات التي سأحتاج إليها حين يحينُ حينُها، في مكانٍ آخر، لن يبتعد كثيراً عمّا سبق الحديث عنه، إنّما سيتخصّص أكثر، رغبة في التعميم المُبتغَى.. لأعود إلى الواقع، إلى المشاهدة دون التداعي..
تأخّرنا عن المأذونيّة ليلة قضيناها في نصيبن، بعد أن أُرجعنا من الحدود، إذ أغلقتها السلطات، بسبب الجوّ المثلج والممطر، إضافة إلى انقطاع التيّار الكهربائيّ..
كان عدد المتأخّرين كبيراً، حيث سُدّت مجموعة من الطرق بسبب تراكم الثلوج.. إذ أنّ بضاعة الزوّار كانت مزيجاً من الهدايا والمشتريات، منها للتجارة، ومنها ما أوجبته ضرورات الزيارة..
لم أقيّد نفسي بالدارج من بعض العرف الذي يُنهك، ويمنع الكثيرين من التزاور، وتُرغم، كذلك، كثيراً من المتزاورين على اختلاق أسباب عدم قيامهم بواجبهم تجاه جميع الأقارب، على اختلاف درجات القرابة، ومن تلك الأسباب، أنّهم لم يكونوا يعرفون أقاربهم كلّهم بالتفصيل، أو أنّهم قرّروا، في اللحظة الأخيرة، أن يقوموا بالزيارة، وعندها كان الوقت قد فاتهم..
وحقيقة، تشكّل هذه الأمور عبئاً حقيقيّاً، على السَرختيّين، وعلى البنختيّين، على الجميع سواء بسواء، لكنّني خرجت عن المألوف، تجاوزت الألغام، كسرت الحواجز، سوّيت الأرض، وتخفّفت من أعباء العادات، إذ كانت “بضاعتي” كتباً، لا غير..
على الحدود، استقبلنا عسكريّ بابتسامة بلاستيكيّة بلهاء قائلاً: شو اللي أخّركن اولاك يا …..
هكذا استُقبلنا على الحدود..
تُرى كيف كنّا سنُستَقبل لو كنّا لصوصاً أو مهرّبين.. ؟!
لا أريد أن أسمع الجواب..