قراءة في كتاب (رؤى ومواقف) قراءات سياسية وأدبية للكاتب صالح جانكو

عبد الرحمن محمد
من الأقلام الواعدة والقامات الطموحة في عالم الأدب والثقافة، شأنه شأن الكثيرين من أبناء قامشلو الذين طالما حَلمت أقلامهم بمداعبة صفحاتٍ حُرة، لتنجب جملاً وعبارات وقصائد زاهية ترفرف كالفراشات في حدائق الأدب والفكر والمعرفة، كثيراً ما بقي قلمه حبيس جيبه، وهو يصرخ بصمت موجع وعندما يطلقه ليبوح على الصفحات بما يُسر، كانت الصفحات تبقى حبيسة مصنفات وأدراج تنتظر فجراً حراً يكون فيه الوطنُ وما فيه حمامة سلام.
رٌغم الكبت والصمت الذي عانت منة الحركة الثقافية إلا إننا بين الفينة والأخرى رأينا كتاباتٍ قيّمة ونتاجات أدبيه وفكرية واجتماعية تخرج من طيات الصَمت المطبق، لتهمس إن الحياة ستستمر وإن أجمل الورود وأعطرها تنبت بين أقسى الصخور.
في كتابة الثاني الذي أصدره الكاتب والباحث صالح جانكو خلال عام واحد،والذي يحمل عنوان ( رؤى ومواقفقراءات سياسية أدبية) ما هو إلا تجسيد لتعطش المثقف الكردي المتعطش للعطاء بعد أن تغيرت الموازين على الأرض وتغيرت حسابات كثيرة وتلاشت غيوم العتمة عن روج آفا .
العمل الثاني لصالح جانكو الذي تم نشره بعد مجموعته الشعرية الأولى (هكذا أرصد غفلة الحكاية ) في مئة و أربعين صفحة من القطع المتوسط، و بعيداً عن الشعر وساحاته يتناول الكاتب في دراسة ومتابعة دقيقة أهم جانب في الحياة السياسية واليومية وهو الإعلام وعلى وجه الخصوص الإعلام الكردي  وإشكالياته ومعاناته الأزلية وما لاقاه ويلاقيه من نكسات حدّت من تَقدمهِ ومساهمته في رفع درجة الوعي والثقافة المجتمعية الكردية. 
يبين الكاتب أولاً عجز الحركة السياسية الكردية عن التأسيس لمشروعٍ فكريٍّ سياسيٍّ ذو ملامح قوميةٍ واضحةِ المعالم، ثم يركز على المسؤولية الجماعية وتحميلها أسباب  تردي الوضع السياسي العام، والانقسام الذي انعكس على الواقع الفكري والثقافي ويبين إن الحل أيضا لا بد أن يكون جماعياً.
و يبين الكاتب كيف إن الانشقاقات السياسية في بداية القرن الماضي أدت دوما إلى انشقاقات طالت كل شي في حياة المجتمع الكردي، و خاصة في الإعلام و بالتحديد في الصحافة الكردية، التي ولدت آنذاك، و كانت الجهة والوسيلة الإعلامية الوحيدة حتى وقت قريب، و يسرد  بإيجاز (خيبات الأمل) التي كانت تتعرض لها الصحافة الكردية والتي كثيرا ما طالت صحفا ومجلات كانت غضة القوام و متواضعة البنيان. 
و يبين الكاتب الجهود الجبارة للعائلة (البدرخانية ) التي أسست الصحافة الكردية وكرست لها الكثير من وقتها و جهدها  ثم يعرج على أهم الصعوبات التي واجهت الإعلام الكردي فيوجزها في عدة نقاط منها :
1-غياب الديمقراطية في ظل القمع السلطوي وانعدام أي شكل من أشكال حرية الإعلام.
 2–الوضع الاقتصادي المذري للحركات و الأحزاب السياسية والافتقار لمصادر تمويل للإعلام.
 3- الافتقار للدعاية والإعلان والخصوصية. 
 4-السطحية في معالجة القضايا و الموضوعات لافتقاره للكوادر المختصة.
ولا ينسى أن يطرح بعض الأفكار والاقتراحات للنهوض بالإعلام إلى ما يرتجى منه، وذلك بما يلي :
-1– رفع الوصاية الحزبية عن الإصدارات الثقافية والفكرية.
  2- التخصص في إصدار المجلات والابتعاد عن الشمولية. 
 3- تأمين كوادر مختصة متفرغة وتأمين مصادر رزق لها.
 4- التشجيع المادي والمعنوي للمثقف والكاتب. 
5- التقليل من الإصدارات الهزيلة المفتقرة لمقومات النص الصحفي والأدبي.
6- السعي للتعاون بين الأحزاب السياسية والجاليات الكردية لتقريب وتوحيد الإعلام.
و يمضي صالح جانكو في مقاربته ليبين الدور السلبي للإعلام – كما يراه- دون قصد، في التشتيت الفكري والنفسي وعدم رسم خصوصية للفكر والثقافة والإعلام الكردي القومي والاعتماد على الصحافة فقط، كمنبر إعلامي هزيل في ظل طُغم استبدادية تحكم بالنار والحديد.
ثم يبين في جداول تفصيلية حجم الإصدارات المتعددة من الصحافة الكردية، من صحف وجرائد خلال القرن الماضي و يبين أعدادها وصفحاتها وما تعرضت له من انشقاقات، ومراحل توقف وعودة للصدور، و الملاحظ إنه لم يغفل عن أية إصدارات ولو كانت لعدد واحد،(وهذا بحد ذاتهِ جهدٌ كبيرٌو بجثٌ مضني وعلى قدرٍ كبيرٍ من الأهميةِ والمسؤوليةِ التي لم يجرؤ أحد على الخوض فيها )  
أما في قراءته لكتاب (صورة الأكراد عربيا بعد حرب الخليج الثانية ) للباحث الأستاذ إبراهيم محمود فيطرح الكاتب الكثير من الأسئلة الجريئة ويدقق في تفاصيل الكتاب، وتناول الباحث لأهم القضايا اليومية الملحة ويضع إصبعه أكثر من مره على الجرح، ويسأل ومعه الكثيرين عن الكتب القيمة العديدة التي تصدر بين الفينة والأخرى وتبقى متوسدة رفوف المكتبات والمطابع، ولا تلقى أية إشارة إليها رغم  قيمتها الفكرية والأدبية ومواضيعها الهامة، ويبين بالتفصيل كيف تغيرت صورة الكردي في الإعلام العربي عامة وبعد حرب الخليج  خاصة، مع الإشارة إلى بعض الجهات الرسمية والأفراد الذين تعمدوا تشويه الثقافة والفكر والواقع والتاريخ الكردي، وضرورة أن ينبري لهم المثقف الكردي بالدلائل والاستبيان والتعريف بالحضارة والتاريخ و الأدب الكردي الذي يضرب بجذوره في عمق التاريخ و بأسلوب من التوضيح والحوار و ضرورة التفاعل الحضاري بين الشعوب. 
(متى استطاع أي حزب تحقيق الديمقراطية الداخلية، سيكون قادراً حينها على قبول الآخرين والتعامل الديمقراطي معهم )هكذا يعلق صالح جانكو في مقالته – زمن الديمقراطية و الحوار – و يؤكد على مبدأ الحوار في التعامل، والتعددية، والعمل على الحد من حالة التشرذم و عدم التفرد المفرط ونبذ الآخر، وضرورة النقد البناء .
و في مقالة أخري بعنوان (أسئلة برسم المثقف الكردي ) يعرج الكاتب على هموم المثقف وما يعانيه من ضغوط، و يطرح أسئلة جريئة  يبقي للقارئ حرية الإجابة عليها، ويقول (إن المثقف هو الإنسان القادر على ابتكار الخطاب المقنع و رسم ملامح التغيير والمساهمة في تقديم الحلول الخاصة في الأزمات العامة) و أن شرّ مرض يعاني منه المثقف هو الانتماءات الضيقة التي تجعله متشنجاً عنيفاً معادياً لكل تصرفٍ أو فكرٍ مغاير له، وأن يبرز هويته على حساب إلغاء الآخرين .
 
و في قراءاته الأدبية  يقدم جانكو  للقارئ  قراءته لثلاث روايات لثلاثة كتاب هم منارات في الكتابة الروائية، هي رواية (المنغولي) لإبراهيم محمود، ورواية ((صالبا )) للمخرج و الروائي يلماز غونيه، و رواية(( الحب في زمن الكولير)) لغابرييل غارسيا مركيز، و ديوان   شعر ((فليكن موتي سعيد)) لفايز العباس،  يسرد فيها بأسلوب سلس لبعض ما جاء في تلك الروايات والأعمال و بأسلوب جزلٍ بسيط  لتسلسل أحداثها، ويشوقك و دون أن تشعر لقراءة تلك الروايات، وأن تعيد قراءتها  لتكتشف فيها أفكاراً وجملاً ربما لم تلحظها في قراءتك السابقة،  ويقنعك بأنك ولاشك ستكتشف درراً ثمينة  في أعماق تلك البحور الأدبية، وفي قراءة ديوان  فليكن موتي سعيداً  ل فايز العباس يقتطف صالح جانكو بعض الأزهار من حديقته و يقدمها للقارئ ليشمها و يتشوق لاقتنائها، و ما أرادة الشاعر من تقسيم داخلي في الديوان، و يعلل ذلك حسب وصفه و تذوقه  لديوانه بنظرة المتمرس والناقد المتذوق و كأنما يقلب لك الديون صفحة بصفحة لتجد نفسك وجهاً لوجه أمام قصائد تأخذك إلى عوالم شعرية مفعمة بعبق الكلام و سحر اللفظ الجميل والمعنى الآسر.
صالح جانكو وفي عمله المطبوع الثاني يقدم عصارة جهوده الفكرية، التي مرت بذاكرته سنين عديدة وهي تختمر في ذاكرته وتعاني أوراقه و أقلامه مخاضاً طويلاً قبل أن تنجب هذه النتاجات من الشعر إلى قراءات في السياسة والأدب و لكنه بالتأكيد يقدم دراسة واقعية، لا يتجرأ الكثيرين على الخوض في بحورها، و يطرح العديد من الأسئلة الجريئة التي تحتاج إلى إجابات جريئة أيضا تكون بمستوى تساؤلاته، لترتقي في النهاية إلى حوار مثقفٍ واعٍ يحمل إجابات شافية على أسئلة طالما حلمنا بالإجابة عليها.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…