محسن سيدا
يتبوأ ملا محمود البايزيدي مكانة متميزة وهامة في تأريخ الثقافة الكردية نظراً لما قدمه من نتاج نوعي للثقافة الكردية المدونة من جهة ، ومساعيه الحثيثة لحفظ العديد من المخطوطات الكردية من الضياع والاندثار من جهة أخرى ، ناهيك عن محاولته التأسيس لمشروع ثقافي نهضوي كانت اللغة الكردية فيه محور هذا المشروع ولبه .
ولد ملا محمود البايزيدي بين عامي ( 1797- 1799) في المدينة التي حملت اسم احد السلاطين العثمانيين وهو بايزيد الأول ( 1360-1430 ) والذي اتخذ من المدينة مركزاً لرصد حركات جيش تيمور.(1) وتعد مدينة بايزيد من الحواضن الهامة في الثقافة الكردية فالى جانب شهرتها بالسجاد الكردستاني وقلعتها التاريخية ، فقد أنجبت العديد من العلماء والأدباء الكرد أمثال : أحمدي خاني ( 1651-1707م) و اسماعيل بايزيدي ( 1654- 1709م ) و مراد خان بايزيدي ( 1737- 1784م ) . واذا تأملنا سلسلة تواريخ أعلام هذه المدينة ، نجد أن الكتابة باللغة الكردية لم تنقطع في هذه المدينة منذ عهد الشيخ احمدي خاني حتى عهد ملا محمود البايزيدي .
عاش ملا محمود في هذه المدينة التي تعرضت للاحتلال الروسي مرات عدة ( 1828م ) و ( 1854م ) و ( 1877م ) كما أمضى شطراً من حياته في عهد حاكم المدينة الكردي بهلول باشا ، وفيها درس العلوم الدينية كأبناء جلدته من الكرد ، وتعلم اللغات الفارسية والتركية والعربية الى جانب لغته الام الكردية، ترك البايزيدي مؤلفات عدة وصلنا قسم منها وضاع قسم آخر وأهم مؤلفاته هي :
1- تواريخي قديمي كردستان وهو ترجمة الجزء الأول من كتاب ( شرفنامه ) الى اللغة الكردية ، ويستعد الباحث سعيد ديرشي حالياً لطباعة هذا الكتاب مع مقدمة عن حياة البايزيدي .
اضافة الى أعمال أخرى موزعة بين الترجمة والتأليف والتدوين ، وكان للبايزيدي نشاط سياسي الى جانب نشاطاته الثقافية ، فقد ارسلته الدولة العثمانية الى الأمير الكردي بدرخان بك للاعتراف بحكم السلطان العثماني وأوفدته الى هكاري لغايات مشابهة، وعندما جاء خان محمود حاكم هكاري الى ارضروم ، بناء على دعوة رسمية وجهت اليه من قبل كامل بك حاكم ارضروم العثماني ، كان البايزيدي مترجما للامير الكردي ،واعتقل البايزيدي مدة 15 يوماً لاتهامه بالضلوع في الانتفاضة التي قام بها خان محمود ضد الدولة العثمانية(3) .
ولادراك أهمية نتاج البايزيدي ودوره الريادي في الثقافة الكردية لا بد من العودة الى الوراء، والقاء نظرة على مضامين وموضوعات المؤلفات الكردية التي سبقت البايزيدي ، والمناخ الثقافي الذي شهد ولادة التأليف باللغة الكردية .
من المعروف أن الكرد تمكنوا في الحقبة الاسلامية من تأسيس عدة دول وإمارات لعبت دوراً في الحياة السياسية والعسكرية للكرد ، إلا أن الثقافة الكردية لم تزدهر في ظلها ، وبقيت اللغة العربية هي السائدة في بلاطات هذه الدول والإمارات ، ولم يحظ الكرد ، على مدى تاريخهم الطويل ، بدولة قوية تسيطر على ارجاء كردستان كافة وتفرض اللغة الكردية كلغة رسمية ، كما فعلت الدولة الأموية في فرض العربية كلغة رسمية للسجلات والدواوين ، والدولة العثمانية في فرض التركية العثمانية كلغة رسمية للدولة ، ولا يستبعد أن بعض أمراء الكرد فكروا أو كان لديهم رغبة في جعل الكردية لغة رسمية لإماراتهم ، لكن هذه الرغبات لم تتحقق على أرض الواقع .
إن أقدم نص كردي وصلنا يعود تاريخه الى عام 1400م تقريباً، وهو عبارة عن تراتيل مسيحية بسبع لغات مختلفة من ضمنها اللغة الكردية (4) ، واذا كان بعض الدارسين والباحثين يعتبرون الشاعر بابا طاهر الهمداني – توفي في أواخر النصف الاول من القرن الخامس الهجري ؛ الحادي عشر الميلادي- أقدم شاعر كردي وصلنا نتاجه، إلا أن الكتابات الكردية اللاحقة لم تكن امتداداً لنتاجه ، لذلك لا يمكن اعتبار نصوصه الشعرية بداية للأدب الكردي ، ناهيك عن الجدل المثار حول اللغة التي كتب بها بابا طاهر شعره .
شهدت كردستان في العهد العثماني استقراراً نسبياً ، في ظل الإمارات الكردية المتمتعة باستقلال ذاتي ، ساهم في بلورة المدينة الكردية التي بقيت محدودة الفاعلية في المجتمع الكردي كما تشير كتب البلدانيين المسلمين . كما شهدت هذه الإمارات حركة علمية انطلقت من المدارس الدينية وتكايا الشيوخ وزواياهم .
في ظل هذه التطورات التي شهدها المجتمع الكردي ، ظهرت أجيال من الكرد لا يعرفون من اللغات غير الكردية ، وفي هذا السياق يذكر الباحث معروف خزندار في كتابه ” تاريخ الادب الكردي ” أن الشاعر الكردي حارث البدليسي كتب ملحمة ” مجنون ليلى ” نزولاً عند رغبة فتاة كردية لا تعرف اللغة الفارسية ، ، إن حالة هذه الفتاة تجسّد ظاهرة شهدها المجتمع الكردي ومن خلالها يمكن مقاربة الدوافع التي وقفت وراء التأليف باللغة الكردية الذي أصبح حاجة ضرورية لتلقين طلبة العلم (فقه) مبادىء الدين الاسلامي ، فظهرت بعض المؤلفات الكردية ذات الصلة المباشرة بالدين الاسلامي مثل ” الصرف العربي باللغة الكردية ” لعلي الترماخي ( ولد 1591-92 م ) وهذا الكتيب عبارة عن شرح باللغة الكردية حول الصرف العربي مع مقارنات من اللغتين الكردية والفارسية ، أي أن غاية المؤلف هي اللغة العربية وليست الكردية وانما استخدمت الكردية كوسيلة إيضاح في فهم قواعداللغة العربية ، وكذلك منظومة ” نهج الأنام ” لـ ملا خليل الأسعرتي ( 1753-1843م) وهذا الكتيب بدوره عبارة عن ملخص لتعاليم الدين الاسلامي كتب نظماً وباسلوب مدرسي مبسط ، أما ” نوبهار ” للشاعر أحمدى خاني فقد وضعه لتعليم أطفال الكرد اللغة العربية وليست الكردية ، والمفارقة أن الكرد اليوم يؤلفون المعاجم والقواميس لتعليم أبنائهم اللغة الكردية .، إضافة الى العشرات من الموالد النبوية المكتوبة بالكردية وباللهجات كافة .
يستخلص من مضامين هذه المدونات السالفة الذكر ، أنها كتبت لسد حاجة المدارس ( حجره) الكردية ، وكذلك تستخلص منها الدوافع الدينية ودورها في الكتابة بالكردية ، وهذا الكلام يمكن سحبه على كتب أهل الحق واليزيدية أيضاً.الى جانب هذا الخط و المسار في التاليف باللغة الكردية ، ظهر اتجاه قومي في التأليف جسده أحمدى خاني في ” مم و زين ” .
كان لا بد من سرد هذه النماذج من المؤلفات الكردية لفهم مكانة البايزيدي و أهميته في الثقافة الكردية ، اذ لا تكمن أهمية البايزيدي في كونه رائداً للنثر(5) الكردي وأول مترجم في تاريخ الكرد واول مؤرخ يكتب بالكردية فحسب ، بل تأتي أهميته أيضاً من كونه لم يكتب في إطار الزوايا والتكايا كمن سبقه ، بل اختار موضوعات جديدة لم يطرقها أحد من الكرد قبله . ولأول مرة نقرأ نصوصاً باللغة الكردية لا تمت الى الدين بشكل مباشر ، و إنما تتناول موضوعات جديدة كالتاريخ والأمثال الشعبية والقصص النثرية وعادات الكرد وتقاليدهم . فقد تمكن البايزيدي بنتاجه هذا من توسيع الحقل الثقافي الكردي ، و من استخدام اللغة الكردية واختبارها في ميادين معرفية جديدة ، لم تسبق لهذه اللغة ، حسب علمنا، أن خاضت غمارها .
و ربّ قائل أن البايزيدي وضع بعض كتبه بتوجيه من القنصل الروسي اوغست زابا ( 1800- 1891م ) وقد أكد البايزيدي ذلك في مقدمة ترجمته لـ “شرفنامه” ، فإن هذا لا يقلل من قيمته العلمية والريادية في تأريخ الثقافة الكردية المدونة ، واذا كانت ترجمة ” شرفنامه ” جاءت بمؤثر خارجي ( اوغست زابا ) ، فإن الدوافع والأسباب التي تحدث عنها ملا محمود البايزيدي لترجمة الكتاب كانت كردية صرفاً .
إن البايزيدي يجسد بنثره وموضوعاته الأدبية حضور المدينة الكردية في الحدث الثقافي الكردي ، ورغم تخرجه في المدارس الدينية ، فإن نتاجه الثقافي أقرب الى الثقافة المدنية منه الى الثقافة الدينية التي طبعت الموروث الكردي بطابعه طوال قرون من الزمن . ومن هنا أعتقد أن البايزيدي يجب أن يدرس ضمن هذا السياق الثقافي التاريخي الذي يتطلب منا تفسير العلاقة بين المدينة الكردية وانتساب أعلام الكرد الى مدنهم بدلاً من الانتساب الى القبيلة. وفي الختام لا بد من القول أن الاهتمام ازداد ، في الآونة الأخيرة ، بأعمال البايزيدي ونتاجه ودوره الريادي في مجالات عدة ويمكن الاشارة هنا الى كتاب الدكتور فرهاد بيربال حول البايزيدي وريادته في الترجمة والنثر ، لكن معظم المعلومات عن البايزيدي حتى اليوم ، مقتبسة من كتابات المستكردة الروسية مارغريت رودينكو ( توفيت عام 1976م ) والتي بدورها أخذت عن أوغست زابا، ونأمل في قادم الأيام الحصول على معلومات طازجة عن هذا العالم الجليل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :