ومضات من ماضي نصران (مذكراتي) الجزء الثاني

د. محمود عباس

   نصران، قرية ببيوت قليلة، بسيطة البناء، لم تتجاوز أعداد ساكنيها في قمة ازدهارها عشرين عائلة كردية المنبت، مرمية على ضفاف نهر سوبلاخ، الذي كان دائم الجريان، كثيرة الأشجار مقارنة بالقرى المجاورة، على جنوب الحدود التركية بمسافة لا تتجاوز الخمسة كيلومترات كخط نظر، وشرق قامشلو بعشرين كيلو متراً، بجانب الخط الحديدي القادم من برلين والواصل إلى البصرة. بناها والدي، وحيد والديه، مع والدتي، واللذين لم يتجاوزا بعد العشرين سنة من العمر، معهم أخي صبري في سنته الأولى، وجدتي، وعمتي الصغيرة، وفي بنائها سيرة.
  بعد مقتل جدي (عباس محمد عباس) بيد الفرنسيين غدراً، في 19 حزيران عام 1923م ولم يكن قد بلغ الثلاثين من العمر، ووالدي (محمد عباس) طفل دون الرابعة، الحدث الذي جعل من ذاك العمر بالنسبة له الحد الفاصل بين الطفولة والمسؤولية، أعدوه واعتبروه منذ حينه كبير الدار وصاحبها ومسؤولا عن أخواته الثلاث اللواتي يكبرونه عمراً وأخ أصغر توفي في سن المراهقة ووالدتيه إلى جانب والدته. أصبح الطفل الوريث دون أن يعي ما يجول حوله سوى أنه كان يشعر بأن والده غائب عن الدار طوال الفترة، ولا يوجد أحد يحتضنه بتلك الحمية والحرارة ذاتها، كاللحظة التي تركه فيها، والتي كانت الأولى والأخيرة العالقة في ذاكرته، كما قالها لي مرة، عندما كنت معه دون أخوتي، على تل مقبرة دوكر، وهو يبحث عن أحجار ليعيد تشكيل قبر الجد والوالد، وكان يقول بأنه يتذكر أو قيل له فيما بعد بأن والده الشهيد دفن بجانب جده، بعد أن أتي بجثته من ضمن معسكر الفرنسيين في بياندور بعد تحريرها، ليدفن هنا، والتي بالكاد كانت الشاهدة تظهر فوقهما، وأنا طفل دون سن المدرسة، أحاول أن أساعده، باحثا عن الأحجار، دون أن يثير القبرين حينها كثير اهتمامي، رغم أن الرواية كانت مثيرة آنذاك، ولذلك رسخت في ذاكرتي، أتذكر حتى اللحظة معظم تفاصيلها، واهتمام الوالد بالمقبرتين، أتذكر عندما وضع عباءته على طرف، وقراءته الفاتحة، باحثا عن الشاهدين في البداية، وتحديد مكانهما، كان الجو ربيعا مشمسا، الأرض كانت مكسوة بالخضار، كنا قادمين من مدينة قامشلو، أتذكر لحظة تعجبي عندما طلب من سائق السيارة أن يوصلنا إلى طرف المقبرة، وأودعه، ولم يطلب منه إيصالنا إلى نصران كعادته. 
   ومثلما لم تغب تلك اللحظة عن ذاكرتي، لم تغب ذكرى والده عنه، والطريقة التي كان يسرد بها الرواية بهدوئه المعتاد، ما بين التحدث مع الذات، أو نوح لا شعوري على الوالد، وهو يحن إليه رغم العقود الفاصلة بينهما والذاكرة اليتيمة التي ربطته به، ولكنني شعرت ولازلت بأنه كان يوجه معظمها لي، ليوصل ما بيني وبين الجد، ويخلق علاقة روحية ربما شعر بأنها غائبة، فكان الحديث في ظاهره لي حينها ونحن نرتب المقبرة، والتي ترسخت في ذاكرتي، شعرت حينها بشعور غريب، مزجت بين اللامبالاة والتأثر، وأعلم الأن بأنها كانت حاضرة في لا شعوره وبعمق، وهي كل ما كان يتذكره من خيال والده الممتضي على حصانه مع مجموعة من أهل القرية، ضمه إلى صدره، وبعد قبلة أخيرة على خده، ناوله لأحد رجاله، يتذكر كيف كان يبكي عليه، والوالد يمضي مع مرافقيه من الخيالة، أعاد لنا الحدث بمناسبات فيما بعد، على أنها اللحظة الوحيدة الراسخة من والده في ذاكرته.
   بعد استشهاد الجد، وبالضبط بعد قتل الضابط الفرنسي المسؤول، في معركة دياري توبي، التي لحقت بمعركة بياندور، عرف الوالد بين العائلة والعشيرة، الوريث على قريته (محركا) والتي استولت عليها الفرنسيون، بعد مضي خمس سنوات، ليملكوها لفلاحيه من المسيحيين الذين كان جده( محمد عباس) قد أنقذهم من مجازر الفرمان العثماني، مع عائلات أخرى عديدة أسكنوهم في قراهم، منها كرشيران وغردوكه ومحركا وتل جهان وغيرها، متذكرا من مسقط رأسه ذاك وورثته وأملاك والده، ديوانه هناك وبيوت العائلة بغرفها الكثيرة المتداخلة بين بعضها على مسافة من الديوان. أثار البيوت والديوان كانت واضحة حتى نهاية الستينات، من القرن الماضي. لينتقل مضطرا ووالدته إلى حضن عمه، ويتربى في قرية دوكر حاضرة العائلة، رافضا وبعناد، الدراسة في المدارس التي أشرف الفرنسيون عليها، والمنحة التي قدمها له القنصل الفرنسي عن طريق عمه كبير العائلة (سليمان عباس) بإرساله إلى فرنسا للدراسة هناك، كرها بقاتلي والده.
   تزوج وهو في سن المراهقة، أنتقل بين عدة قرى من قرى العائلة، بنى بيتا في قرية غردوكه، في نهاية الثلاثينيات، فهي كانت من أملاك جده الأكبر، بحسب سندات تمليك صادرة من الأستانة تعود تاريخها إلى قرابة عام 1835م، والوثائق لا تزال موجودة حتى الأن، نشرت أحداها في كتاب مارتن فان براونسين (الأغا والشيخ والدولة).  ترك تلك القرية تحت ضغط الفرنسيين، بعد أن استولوا عليها أيضاً، وملكوها للمسيحيين الفارين من الإبادة العثمانية في عام 1915م الذين استوطنهم جده في قراه. منتقلاً بعدها إلى قرية تل برهم، وتخلى عنها تنازلا لأبن عمه عبد الكريم شلال بعد أن طالب بملكيتها جدته بعد وفاة جده (سليمان، كبير آل عباس) ووالده(شلال) بشكل غامض في بيروت، على خلفية مقاومتهم للاحتلال الفرنسي في العشرينيات من القرن الفائت، ومقتل عدد من ضباطهم، وهي الفترة التي بقيت العائلة بدون زعيم، بداية الأربعينيات، فترك على أثرها الأغلبية من العائلة قرية دوكر منتشرين فيما تبقت لهم من قراهم، والتي لم تستولي عليها الفرنسيون وتابعيهم ومواليهم بعد.
  فكانت الفكرة والخطوة لبناء قرية نصران في بداية الأربعينيات، على تخوم حدود قرية دوكر الجنوبية بثلاثة كيلومترات، بخيمة شعر بسيطة مستعارة من أحد العائلات العربية التي كانت تخدم العائلة في فترة الجد محمد عباس، وله فضل ومكرمة عليهم في السابق، ثم بيت، بني بمساعدة خاله رئيس عشيرة حجي سليمانا (حجي علي) رحمه الله، مالك قرية حلوة، على هضبة صغيرة، بجانب نهر سوبلاخ النابع من جبال طوروس، والمار بجانب دوكر المركز الرئيس للعائلة.
   أتذكر الوالد يقول لنا بشكل عرضي بين أحاديث كان يتحدث فيها، عن مكان اختيار القرية في مكانها الموجود حالياً، وحيرته في البداية ما بين التلة الرئيسية شمال الخط الحديدي، والهضبة التي استقرت عليها الخيمة وتشكلت القرية جنوب الخط الحديدي، متذكراً: بأنه قبل الرحيل عن دوكر، وفي الشهور التي كان يجهز ذاته والعائلة الصغيرة للانتقال، حلم في منامه، بحكيم  هلامي الهيئة، يشع، وهو في وضع ما بين البعد والمجالسة، يزوره بشكل خاص ليشاوره في قضيته، مثمناً على خطوته، ناصحا بعدم البناء على التلة الكبيرة، شمال الخط، ذاكراً بأنه في أحشائها تاريخ، والقادم غير حميد، مؤكداً الأنسب على الهضبة بجانب النهر، جنوبي الخط الحديدي. والغريب وبعد مرور عقود من ازدهار القرية، وفي بداية الستينات حدث فيضان ضخم، تجمعت مياه النهر في شمال الخط، المبني كسد، بمنفذ وحيد ضيق، وهو جسر على نهر سوبلاخ، بني من قبل الألمان، فلم يبقى حينها من تلك التلة الشمالية الكبيرة إلا أمتار من القمة، غطيت كليا بالمياه، وفاضت في جميع الأطراف. وكأننا على ذاكرة حلم غريب، فلو كانت القرية المبنية من البيوت الطينية هناك، لغرقت تحت مياه الفيضان، وكان في نفس اليوم الذي اجتاحت قرية تربه سبيه وغرقت نصفها تقريبا، وقتل بحدود ستة أشخاص حينها.

يتبع…

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

2/10/2010

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…