جهاد صالح *
من ديرك حملت سلالها, حقائبها, أحلامها, طفولتها التي اغتسلت بعبير عين ديوار, من تلك المدينة الكردية التي تعانق دجلة بدأت رحلتها في الحياة, هي كغيرها من الكرد كبرت باكرا, لم تعش طفولتها كما يعشها أطفال العالم الحر, افتقدت الحنان والحب, وتربّت في أحضان الحزن حين وجدت نفسها في وميض الشقاء ومأساة طفلة تبحث عن لعبة وأغنية للمطر
من ديرك حملت سلالها, حقائبها, أحلامها, طفولتها التي اغتسلت بعبير عين ديوار, من تلك المدينة الكردية التي تعانق دجلة بدأت رحلتها في الحياة, هي كغيرها من الكرد كبرت باكرا, لم تعش طفولتها كما يعشها أطفال العالم الحر, افتقدت الحنان والحب, وتربّت في أحضان الحزن حين وجدت نفسها في وميض الشقاء ومأساة طفلة تبحث عن لعبة وأغنية للمطر
وفي غفلة من الزمان كبرت ولتكبر معها الأحلام وأمانيها التي بقيت تتشبث بندى دجلة وسهول مدينتها الحزينة المزيّنة صدرها بأسلاك الحدود, حين صلبت كردستان وشعبها.
شاعرة انتزعت منها أبجديتها الكردية عنوة وأمام عيني الله, ولتتألق في لغة الضاد, وفصاحة الصحراء.
لكن القدر يلاحقها بأحزان وأحزان, ولتجد نفسها تعيش الغربة رغم أنها كانت غريبة في وطنها, أيام تمضي وسنين شاهدة على حكاية الشاعرة الكردية حينما وجدت روحها تنفح ألما وحبا وشجا وولادة لوجع الأنثى!
من الإمارات وليلها الجميل عكست فدوى مراياها الشفافة في كل الاتجاهات, أشعة لازوردية, شهب ونيازك, وميض فجر ضاحك, غروب يودّع هدوئنا, موتنا الصامت, إنها قصائدها التي عرفت الحياة قبل أن تكون الأوراق صكوكا للولادة, وقبل أن تعيش لذة عناق الصفحات بين طيات كتاب يحمل اسمها ذات يوم, شهادة ميلاد شاعرة جديدة.
قصائدها سلال تحمل وردا قطف من جبال جودي, وأفكارها تعشّقت في معابد زردشت, طفلة رسمت على المدى ملامح وطنها المهاجر, أحلامها تمتطي صهوة الريح وتسافر في سواد الشرق كسندباد يهوى المغامرة..
هي أنثى تهمس في أعماقنا كلمات وحروف من نار, نار معابد ميديا, أبجديتها الشعرية تحمل الدفء إلى جسد شتاءاتنا المجنونة, والمطر يسامر الغيم في ليال مجونها حين تعيش القصيدة آلام المخاض.
شاعرة ترقص في عرس الحياة, حتى شياطين الشعر تخاف أن تحترق في وميض عينيها, تخشى الغرق في أعماق القصيد الساحر, والإلهام يتشبّث بروحها ليصنع في أعماقها المزيد المزيد من الأماني..الحب والفرح ..الحزن..الغربة..الزهور والموت والولادة ..موسيقى الجسد والروح,عذوبة همس الأنثى,الإوز السارح في فضاءات الروح,بكاء البنفسج,ظلال الليل والوطن الذي بيع في أسواق النخاسة,دموع الأرض وسفر السنين,عناقيد الشمس وانكسارات ظلالنا في حضور الصمت , خبز الجسد ونبيذ الروح لحظة هطولات اللذة برقا ورعدا,حلم جلجامش الأسطوري, نرجس بوتان على قبر مم وزين…..
هذه كانت قصائدها, حكاية للحياة والزمن واحتضارات أنثى تعيش الفصول الأربعة, فتبكي مطرا وثلجا, وتصفّر في خريف العمر فرحا وأنشودة تزهر ربيعا على روابينا المتيبّسة, ولتجمع أطيافنا في مساءات العواصف, والشمس تفتح أبواب الدفء حتى نرتوي وتخرج أرواحنا من جلودنا المترّهلة, وفي نهاية كل قصيدة تذرف العين قطرات تزهر بها نرجسا يزيّن فرح آذار.
هي تقف من هناك حيث ظلال غربتها تنتظر حلما ضائعا, وأمنية ميلاد مجيد, تنتظر عشقا دفن قبل أن يقبّل وجه الحياة, وترسم على ألوان الأفق ملامح العشق الكردي, تنتظر كاوا..زارا…ممو…رجلا لايصادق سوى الجبال.وحين اللقاء ستتحرر من انكسارات الصمت وضجيج القيامة ولتشاركه طقوس التوحّد أمام نشوة البنفسج البري:
أعلم أنك عائد ستغتسل عند نبعي تمطر على صحرائي تستبيح صمتي تزركش خيوطي بلون اشتهاء البنفسج أتحرر من حمامات صمتي ومن شروقك أضم البنفسج أضجّ بطعم القيامة ألامس صباحات الفجر واحمل أسفاري ألف ألف قصيدة.
أما أجمل طقوسها الإبداعية حين تروّض كل شيء في سبيل أحلامها وأمانيها مابعد الفجر وانبلاج صباحاتها في ليالي مآسيها.ولتصبح سماءاتها تراتيل مقدّسة تصرخ فينا, في نرجس كردستان, ولتهمس بعبيرها, تتشدّق أرواحنا في جماليات صورها الشعرية, فنتلذذ ونثمل من كؤوس نبيذ كلماتها, حينما لفظت شفتاها أناشيد زردشتية صلبت في الماضي والحاضر مع الأماني, تحت وهج النار, نحن أبناء النار العائدون من صمت السماء والأرض, عودة مع الشفق الأحمر:
دم يبكي من بوسعه أن يجففه إن كان الغد مظلما فإطلالة فجرنا آت وان كانت أمانينا مصلوبة فالشفق الأحمر كذلك آت نحن أبناء النار بأناشيد زرادشتية سيلد القبج ويزف الخبر وترشح الأرض نرجسا يا نرجس الشمال يا سماء تراتيل مقدسة فلترتفع أصواتنا في جوارح وطن النرجس.
وفي قصيدتها حلم الشرق تعيش شاعرتنا ملحمة الألم الإنساني, فتكتوي روحها جرحا لازال ينزف, جرحا يغتسل في ملح الشرق بحثا عن السلام. فكما صلب المسيح يوما, صلب أحفاد زرادشت على أغصان زيتون الشرق, فهنا في جهات شرقنا كل شيء كتب عليه أن يموت في الرحم, الحب, الوطن وزهور السلام, والوجع الكردي الذي مازال معلقا بين الأرض والسماء, لم يسعفه ربه بعد:
عاشق يحلم بثغر حبيبته يرسم الوجع الكرديوالوطن يرتع في أسواق النخاسةمن شرق تلوثزردشت يربت على أكتاف رعيته يهمس بالرحيلهكذا كان الشرق قبل أن يعانق يسوع الشمس وينثر أزاهير السلام ذاك الطفل الذي بورك من أحفاد زردشت مصلوب هو الآخر على الخشب لم يسعفه ربه.
ترسم فدوى شاعرة النرجس في غربتها الخجولة خرائط للعشق والهوى, ولتتعمّق الروح الإنسانية لديها حين غاب عنها سيّد قلبها الهائم في أعماقها, فتحطّم جميع المرايا وتضع قلبها المفعم بالحب أمام شذى مخيّلتها, غير عابئة بعوائق الدنيا, تهزم كل الأسباب والأعذار, وتفتح الطريق لعودة الغائب الحبيب ولتعلن له وأمامنا أنها وهبت كل ما لها, من روح وجسد وأحلام لشخص واحد لا غيره, لتصبح صورة العشق في أسمى معالمها المؤثرة والجميلة والرومانسية الأليمة:
سأخترع ملايين الأسباب لتبرير غيابك وأفكر بكلمات تصوّر خرائط عشقيأنا انزلق كحبة رمل تذروها بنات الريح فتغدوا إلها مجوسيا فاتنا كعينيك يجرفني الحنينوأنا اومىء برأسي لك.
فجأة تخرج عن صمتها, تمزّق ضجيج الأمكنة, تحرق كل الخرائط. فتبدأ بالعزف, ألحان مكتوبة بدم الآريين من قومها, سمفونية عشق النار, تلفح لظاها كل ممالك السومريين, وكأنها تركع أمام أمير مجوسي تحكي له ملحمة وأسطورة أناس هم سنابل قمح, خبز لجوع الشر وغضب الرب, تملأ من دمهم المسفوح محبرتها لتكتب قصائد تعزف ألحانا, قد تخترق ذات يوم كل ألغاز الصمت, ولترقص النار على شدو ظلال أصبحت بلون التراب, وبطعم وجع أول أبجدية كردية نطقت بأسم الله وبالحب والأمل والحياة:
سمفوني المنفى مجوسي الكنه مذ قابلته غنّت أوتاري تشدو بألحان سومرية سلالة ملامحه تتنبىء بأصل آرا تجف الأبجدية عند قدميه نفرش أصصا من نار بلاد تائهة عن الرب نفرش السماء لحافا والأرض وسادة هم فتات الله قبلة الشمس وان استغاثت نارها أطعمها دما ومن عرقه سننشد لغز الصمت.
تبدأ الشاعرة في لغة الغموض والضبابية, لتوهمنا أنها لم تعد تفقه شيئا من هذه الحياة حيث طغت عليها آهات وكوارث ومآسي, فلياليها سوداء, حزينة, لا نجوم فيها ولا أقمار, لحظاتها موحشة والغبار يملأ الأمكنة كلها, ومقاعد الحياة فارغة من زوارها لديها, حتى أضحت حياتها تافهة وأحلامها تتعمق في الغربة, تستفقد الإحساس بالحياة, حتى موزارت بألحانه وموسيقاه لا يستطيع أن يزيل عنها كل أحزان الأرض, وهنا نبكي معها ألمها الأنثوي ونقف على تلال أعماقها المتّشحة بالألم الإنساني, نعم إن كل موسيقا العالم لا تضاهي نغمة حزن حياتية نعيشها كل يوم وصباح يحمل في فجره أنشودة للألم:
صوت يتكسر يتململ وسط ليل آفلة نجومه يسفر عن صباح كالح لالون له ولارائحة موسيقا خافتة باهتة تفسّخت جثث المقاعد الخوابي تعوي فارغة نسيج عنكبوت يلف المكان كم أنت مملّ يا موزارت وتعزف لحنا لست افهمه الآن تجبر نسيجي من صور المآسي صرت كمن يسمع موسيقى جرائم أيادي تنتهك عرض الشمس.
إلا أن كل ظلالها السوداء وأحزانها لا تمنعها من أن تتجرّع نبيذا احمرا يسكرها, ولتحلّق بها إلى أحلام وأماني في شرقنا حيث لا يوجد شيء لنا سوى الأحلام الأحلام, فتنبش بين سطور التاريخ عن حلم جلجامش, تتزين بأقراط نفرتيتي, تصدح بأغاني وأناشيد وبكاءات على أيام دفنت في مقابر الماضي, ولتوقفنا أمام أغوار نفسها لتبكي مروج ميتان, حين نزف الجرح من جديد في أعماقها ولتبدأ رحلة الوجع الكردي في متاهات الشرق الآثم بحقنا دوما:
تعال نغني للنبيذ للشرق التائه عنا نستحضر حلم جلجامش الصادح بالنشيد الضائع بين سطور التاريخ نرسم أرضا تبادلنا الأغاني نشتاق لعذابات الماضي نسكر الليل برحيق النرجس الأبيض كقلب ذاك الكردي ذو العنفوان الرافض نزيف الدم نرحل إلى مروج ميتان, بلاد رجموها بالكفر صلبوا فرحها هل تبكين نفرتيتي!!!
لمعان أقراطك يخفي دمعك.
الأجمل ما نستشرف لدى فدوى أنها أضحت كأميرة تنتشل أوراقها من أوجاع الغربة, ولتحوّل كل أحزانها إلى أمل يغتسل في مياه دجلة بحثا عن الوطن والعشق والفرح وجمال الشرق المغتصب منذ أزمان مغبرة.
تنتشل الشاعرة أزمانها وكل أيامها, ولتحمل سلالها الملونة بأجمل زهور ونرجس بوتان, بلاد عاشت وحضنت أروع عشق, ملحمة الحب الكردي(مموزين), ولتغسل جراحاتها في نهر هيزل وكأنها تتطهر من أوجاعها ومن غبار وأوساخ الغربة, ولتفرش كل قصائدها وأحلامها الجميلة, في ضحكة شمس الصيف الكردي, ولتسابق أحصنتها الريح, تهيم في كل الدروب, بحثا عن النسيان لتحاسبه عن زمن الخطيئة, مستفسرة عن آيات الإنكار والظلم الذي وقع على أمّتها, لكنها تظل كالنار التي لاتهمد, فهي حلم لايموت وأمل يصنع الحياة من رماد النار:
الملم ما تناثر من جسدي افرش سمائي كصيف كردي يداعب جيادي أزهاري تنزف..تهوي..تستباح أوراقها حلمي قريب بعيد تائهة ذاكرتي تجوب السهول تعانق قمم بوتان تسرح بخصلات شعري تغسلها بمياه هيزل أميرة مروانية أنا على جيدها أزهار نرجس ذابلة بفعل النسيان انفض غباري في جداول بستا تأسرني آيات الإنكار على شفاه أخوة غيّبوا عنا نار الحياة أنشودة مجوسية أنا لاتخفيها ذرات رمال صحراوية.
هذه كانت شاعرة النرجس الأبيض فدوى الكيلاني, المرأة الكردية التي تعشّقت كلماتها وحروفها في طقوس صلاتية هائمة في معابد زرادشت, وطافت أطيافها جبال كردستان ووديانها, ورسمت على سطر التاريخ ملامح الوجع الكردي, قصائدها كانت أبجدية كتبت بلغة النار, فأشعّت وأحرقت رماد السنين, وحطمت كل أواني الصمت, وعبقت نرجسا عطّر المكان والزمان, واستطاعت أن تهمس بعذوبة أنثوية في أغوار أعماقنا, لتزرع في حدائقنا زهورا وورودا, هي حكايا للحب والألم والغربة, والحلم الذي يبحث عن العشق والوطن, وذكرى الأمل العائد من رحلة الشمس التي لاتغيب.
هي لم تجمع قصائدها بعد بين صفحات كتاب, حيث إنها تنتشي وهي تلمح قصائدها تطير بحرية في كل الفضاءات والأمكنة, تطرق جميع الأبواب, وتنساب كشعاع سحري من نوافذنا, لتضيء عتمة الزمن وغفلة السماء عن أحزاننا المتراكمة, سلالها القصبية تحمل كلمات وأحرف تزهّدت في الحب والأمل من نار زرادشت نبي الكورد, مزّقت كل حواجز الدنيا, وجعلت من خجل الأنثى قصائد تغازل لوعة الجسد وجوع الروح في نشوة ولذة انتشلت عن أوجاعنا كل أوراق التوت.
لقد حاولت أن أتعمّق إلى أعماقها من خلال قصائدها, في أمل أن أحطّم كل الأصول والطقوس في وسط الكتابة والقلم والأدب, وأن أتناول شاعرة مازالت تحلّق بحرية في سماء الكلمة, ولم تصبح بعد أسيرة دور النشر وتجّار الأدب, وبيّاعي الإبداع على أرصفة الشوارع, حيث تجتمع الكلمات والروح والحياة والأمل وسمو النفس, وأحلام وأماني المبدع, بين صفحات كتاب يباع بثمن بخس, أو تظل كل تلك المبادىء والأحلام السامية المقدسة والكلمات المعبرة الجميلة بأوراقها, منزوية فوق رفّ مكتبة, يتيمة معزولة, يلفحها الغبار والنسيان. جنازة المبدع.
هذا هو الواقع الحزين لمبدعينا وكتّابنا وشعرائنا, والجميل أن نرسم معا نحن صورا لأحلام وأماني ممن يصنعون الحياة بإبداعاتهم من خلال الكلمة والشعر والقصيد والفكرة, ويساهمن في انتشال الواقع من أمواج اليأس والألم الإنساني, ونبذ الظلم والعنف, ونغني ملحمة للحب والوطن والأمل والحلم الجميل, ولو بكلمات تدفىء العتمة فينا وتنيرها, وتزيل عن ذاكرة الزمن أهزوجة النسيان التي تخفي من ورائها مأساة إنسانية, وتشعل شمعة للبسمة ولو للحظات, حينها نكون قد أدّينا الرسالة ولملمنا بعض الزهور الذابلة, في أمل أن نتذكرها بالخير, حين أفرحت تلك الزهور عاشقين, وزيّنت حدائق الوطن يوما ما, هكذا هم المبدعين, والشعراء رسل للخير وللحب والأمل بقصائد تتلوّن وتضاء, بمجرد أن تشهد الحياة بوميض عيوننا وقراءتنا لروح المبدع الذي يعيش الألم والفرح, ألمنا, فرحنا, عندئذ تشهد الشمس والسماء على قداسة ونبل تلك الأشعار والقصائد والكلمات, وهذا ما ارتأت الشاعرة فدوى لأن تهمس به في أرواحنا, فأبدعت وبرعت في ذلك بعذوبة أنثوية جميلة.
فلتقف ظلالنا, ولتنتظر ليالينا, وأمكنتنا, وأزماننا الهوجاء, قصائدها السحرية, على أمل أن نعيد معا ترتيب أوراق حياتنا في بهجة وفرح وحب عظيم.
19 فبراير 2007
* صحفي وشاعر- سوريا
Xebat_s@hotmail.com
شاعرة انتزعت منها أبجديتها الكردية عنوة وأمام عيني الله, ولتتألق في لغة الضاد, وفصاحة الصحراء.
لكن القدر يلاحقها بأحزان وأحزان, ولتجد نفسها تعيش الغربة رغم أنها كانت غريبة في وطنها, أيام تمضي وسنين شاهدة على حكاية الشاعرة الكردية حينما وجدت روحها تنفح ألما وحبا وشجا وولادة لوجع الأنثى!
من الإمارات وليلها الجميل عكست فدوى مراياها الشفافة في كل الاتجاهات, أشعة لازوردية, شهب ونيازك, وميض فجر ضاحك, غروب يودّع هدوئنا, موتنا الصامت, إنها قصائدها التي عرفت الحياة قبل أن تكون الأوراق صكوكا للولادة, وقبل أن تعيش لذة عناق الصفحات بين طيات كتاب يحمل اسمها ذات يوم, شهادة ميلاد شاعرة جديدة.
قصائدها سلال تحمل وردا قطف من جبال جودي, وأفكارها تعشّقت في معابد زردشت, طفلة رسمت على المدى ملامح وطنها المهاجر, أحلامها تمتطي صهوة الريح وتسافر في سواد الشرق كسندباد يهوى المغامرة..
هي أنثى تهمس في أعماقنا كلمات وحروف من نار, نار معابد ميديا, أبجديتها الشعرية تحمل الدفء إلى جسد شتاءاتنا المجنونة, والمطر يسامر الغيم في ليال مجونها حين تعيش القصيدة آلام المخاض.
شاعرة ترقص في عرس الحياة, حتى شياطين الشعر تخاف أن تحترق في وميض عينيها, تخشى الغرق في أعماق القصيد الساحر, والإلهام يتشبّث بروحها ليصنع في أعماقها المزيد المزيد من الأماني..الحب والفرح ..الحزن..الغربة..الزهور والموت والولادة ..موسيقى الجسد والروح,عذوبة همس الأنثى,الإوز السارح في فضاءات الروح,بكاء البنفسج,ظلال الليل والوطن الذي بيع في أسواق النخاسة,دموع الأرض وسفر السنين,عناقيد الشمس وانكسارات ظلالنا في حضور الصمت , خبز الجسد ونبيذ الروح لحظة هطولات اللذة برقا ورعدا,حلم جلجامش الأسطوري, نرجس بوتان على قبر مم وزين…..
هذه كانت قصائدها, حكاية للحياة والزمن واحتضارات أنثى تعيش الفصول الأربعة, فتبكي مطرا وثلجا, وتصفّر في خريف العمر فرحا وأنشودة تزهر ربيعا على روابينا المتيبّسة, ولتجمع أطيافنا في مساءات العواصف, والشمس تفتح أبواب الدفء حتى نرتوي وتخرج أرواحنا من جلودنا المترّهلة, وفي نهاية كل قصيدة تذرف العين قطرات تزهر بها نرجسا يزيّن فرح آذار.
هي تقف من هناك حيث ظلال غربتها تنتظر حلما ضائعا, وأمنية ميلاد مجيد, تنتظر عشقا دفن قبل أن يقبّل وجه الحياة, وترسم على ألوان الأفق ملامح العشق الكردي, تنتظر كاوا..زارا…ممو…رجلا لايصادق سوى الجبال.وحين اللقاء ستتحرر من انكسارات الصمت وضجيج القيامة ولتشاركه طقوس التوحّد أمام نشوة البنفسج البري:
أعلم أنك عائد ستغتسل عند نبعي تمطر على صحرائي تستبيح صمتي تزركش خيوطي بلون اشتهاء البنفسج أتحرر من حمامات صمتي ومن شروقك أضم البنفسج أضجّ بطعم القيامة ألامس صباحات الفجر واحمل أسفاري ألف ألف قصيدة.
أما أجمل طقوسها الإبداعية حين تروّض كل شيء في سبيل أحلامها وأمانيها مابعد الفجر وانبلاج صباحاتها في ليالي مآسيها.ولتصبح سماءاتها تراتيل مقدّسة تصرخ فينا, في نرجس كردستان, ولتهمس بعبيرها, تتشدّق أرواحنا في جماليات صورها الشعرية, فنتلذذ ونثمل من كؤوس نبيذ كلماتها, حينما لفظت شفتاها أناشيد زردشتية صلبت في الماضي والحاضر مع الأماني, تحت وهج النار, نحن أبناء النار العائدون من صمت السماء والأرض, عودة مع الشفق الأحمر:
دم يبكي من بوسعه أن يجففه إن كان الغد مظلما فإطلالة فجرنا آت وان كانت أمانينا مصلوبة فالشفق الأحمر كذلك آت نحن أبناء النار بأناشيد زرادشتية سيلد القبج ويزف الخبر وترشح الأرض نرجسا يا نرجس الشمال يا سماء تراتيل مقدسة فلترتفع أصواتنا في جوارح وطن النرجس.
وفي قصيدتها حلم الشرق تعيش شاعرتنا ملحمة الألم الإنساني, فتكتوي روحها جرحا لازال ينزف, جرحا يغتسل في ملح الشرق بحثا عن السلام. فكما صلب المسيح يوما, صلب أحفاد زرادشت على أغصان زيتون الشرق, فهنا في جهات شرقنا كل شيء كتب عليه أن يموت في الرحم, الحب, الوطن وزهور السلام, والوجع الكردي الذي مازال معلقا بين الأرض والسماء, لم يسعفه ربه بعد:
عاشق يحلم بثغر حبيبته يرسم الوجع الكرديوالوطن يرتع في أسواق النخاسةمن شرق تلوثزردشت يربت على أكتاف رعيته يهمس بالرحيلهكذا كان الشرق قبل أن يعانق يسوع الشمس وينثر أزاهير السلام ذاك الطفل الذي بورك من أحفاد زردشت مصلوب هو الآخر على الخشب لم يسعفه ربه.
ترسم فدوى شاعرة النرجس في غربتها الخجولة خرائط للعشق والهوى, ولتتعمّق الروح الإنسانية لديها حين غاب عنها سيّد قلبها الهائم في أعماقها, فتحطّم جميع المرايا وتضع قلبها المفعم بالحب أمام شذى مخيّلتها, غير عابئة بعوائق الدنيا, تهزم كل الأسباب والأعذار, وتفتح الطريق لعودة الغائب الحبيب ولتعلن له وأمامنا أنها وهبت كل ما لها, من روح وجسد وأحلام لشخص واحد لا غيره, لتصبح صورة العشق في أسمى معالمها المؤثرة والجميلة والرومانسية الأليمة:
سأخترع ملايين الأسباب لتبرير غيابك وأفكر بكلمات تصوّر خرائط عشقيأنا انزلق كحبة رمل تذروها بنات الريح فتغدوا إلها مجوسيا فاتنا كعينيك يجرفني الحنينوأنا اومىء برأسي لك.
فجأة تخرج عن صمتها, تمزّق ضجيج الأمكنة, تحرق كل الخرائط. فتبدأ بالعزف, ألحان مكتوبة بدم الآريين من قومها, سمفونية عشق النار, تلفح لظاها كل ممالك السومريين, وكأنها تركع أمام أمير مجوسي تحكي له ملحمة وأسطورة أناس هم سنابل قمح, خبز لجوع الشر وغضب الرب, تملأ من دمهم المسفوح محبرتها لتكتب قصائد تعزف ألحانا, قد تخترق ذات يوم كل ألغاز الصمت, ولترقص النار على شدو ظلال أصبحت بلون التراب, وبطعم وجع أول أبجدية كردية نطقت بأسم الله وبالحب والأمل والحياة:
سمفوني المنفى مجوسي الكنه مذ قابلته غنّت أوتاري تشدو بألحان سومرية سلالة ملامحه تتنبىء بأصل آرا تجف الأبجدية عند قدميه نفرش أصصا من نار بلاد تائهة عن الرب نفرش السماء لحافا والأرض وسادة هم فتات الله قبلة الشمس وان استغاثت نارها أطعمها دما ومن عرقه سننشد لغز الصمت.
تبدأ الشاعرة في لغة الغموض والضبابية, لتوهمنا أنها لم تعد تفقه شيئا من هذه الحياة حيث طغت عليها آهات وكوارث ومآسي, فلياليها سوداء, حزينة, لا نجوم فيها ولا أقمار, لحظاتها موحشة والغبار يملأ الأمكنة كلها, ومقاعد الحياة فارغة من زوارها لديها, حتى أضحت حياتها تافهة وأحلامها تتعمق في الغربة, تستفقد الإحساس بالحياة, حتى موزارت بألحانه وموسيقاه لا يستطيع أن يزيل عنها كل أحزان الأرض, وهنا نبكي معها ألمها الأنثوي ونقف على تلال أعماقها المتّشحة بالألم الإنساني, نعم إن كل موسيقا العالم لا تضاهي نغمة حزن حياتية نعيشها كل يوم وصباح يحمل في فجره أنشودة للألم:
صوت يتكسر يتململ وسط ليل آفلة نجومه يسفر عن صباح كالح لالون له ولارائحة موسيقا خافتة باهتة تفسّخت جثث المقاعد الخوابي تعوي فارغة نسيج عنكبوت يلف المكان كم أنت مملّ يا موزارت وتعزف لحنا لست افهمه الآن تجبر نسيجي من صور المآسي صرت كمن يسمع موسيقى جرائم أيادي تنتهك عرض الشمس.
إلا أن كل ظلالها السوداء وأحزانها لا تمنعها من أن تتجرّع نبيذا احمرا يسكرها, ولتحلّق بها إلى أحلام وأماني في شرقنا حيث لا يوجد شيء لنا سوى الأحلام الأحلام, فتنبش بين سطور التاريخ عن حلم جلجامش, تتزين بأقراط نفرتيتي, تصدح بأغاني وأناشيد وبكاءات على أيام دفنت في مقابر الماضي, ولتوقفنا أمام أغوار نفسها لتبكي مروج ميتان, حين نزف الجرح من جديد في أعماقها ولتبدأ رحلة الوجع الكردي في متاهات الشرق الآثم بحقنا دوما:
تعال نغني للنبيذ للشرق التائه عنا نستحضر حلم جلجامش الصادح بالنشيد الضائع بين سطور التاريخ نرسم أرضا تبادلنا الأغاني نشتاق لعذابات الماضي نسكر الليل برحيق النرجس الأبيض كقلب ذاك الكردي ذو العنفوان الرافض نزيف الدم نرحل إلى مروج ميتان, بلاد رجموها بالكفر صلبوا فرحها هل تبكين نفرتيتي!!!
لمعان أقراطك يخفي دمعك.
الأجمل ما نستشرف لدى فدوى أنها أضحت كأميرة تنتشل أوراقها من أوجاع الغربة, ولتحوّل كل أحزانها إلى أمل يغتسل في مياه دجلة بحثا عن الوطن والعشق والفرح وجمال الشرق المغتصب منذ أزمان مغبرة.
تنتشل الشاعرة أزمانها وكل أيامها, ولتحمل سلالها الملونة بأجمل زهور ونرجس بوتان, بلاد عاشت وحضنت أروع عشق, ملحمة الحب الكردي(مموزين), ولتغسل جراحاتها في نهر هيزل وكأنها تتطهر من أوجاعها ومن غبار وأوساخ الغربة, ولتفرش كل قصائدها وأحلامها الجميلة, في ضحكة شمس الصيف الكردي, ولتسابق أحصنتها الريح, تهيم في كل الدروب, بحثا عن النسيان لتحاسبه عن زمن الخطيئة, مستفسرة عن آيات الإنكار والظلم الذي وقع على أمّتها, لكنها تظل كالنار التي لاتهمد, فهي حلم لايموت وأمل يصنع الحياة من رماد النار:
الملم ما تناثر من جسدي افرش سمائي كصيف كردي يداعب جيادي أزهاري تنزف..تهوي..تستباح أوراقها حلمي قريب بعيد تائهة ذاكرتي تجوب السهول تعانق قمم بوتان تسرح بخصلات شعري تغسلها بمياه هيزل أميرة مروانية أنا على جيدها أزهار نرجس ذابلة بفعل النسيان انفض غباري في جداول بستا تأسرني آيات الإنكار على شفاه أخوة غيّبوا عنا نار الحياة أنشودة مجوسية أنا لاتخفيها ذرات رمال صحراوية.
هذه كانت شاعرة النرجس الأبيض فدوى الكيلاني, المرأة الكردية التي تعشّقت كلماتها وحروفها في طقوس صلاتية هائمة في معابد زرادشت, وطافت أطيافها جبال كردستان ووديانها, ورسمت على سطر التاريخ ملامح الوجع الكردي, قصائدها كانت أبجدية كتبت بلغة النار, فأشعّت وأحرقت رماد السنين, وحطمت كل أواني الصمت, وعبقت نرجسا عطّر المكان والزمان, واستطاعت أن تهمس بعذوبة أنثوية في أغوار أعماقنا, لتزرع في حدائقنا زهورا وورودا, هي حكايا للحب والألم والغربة, والحلم الذي يبحث عن العشق والوطن, وذكرى الأمل العائد من رحلة الشمس التي لاتغيب.
هي لم تجمع قصائدها بعد بين صفحات كتاب, حيث إنها تنتشي وهي تلمح قصائدها تطير بحرية في كل الفضاءات والأمكنة, تطرق جميع الأبواب, وتنساب كشعاع سحري من نوافذنا, لتضيء عتمة الزمن وغفلة السماء عن أحزاننا المتراكمة, سلالها القصبية تحمل كلمات وأحرف تزهّدت في الحب والأمل من نار زرادشت نبي الكورد, مزّقت كل حواجز الدنيا, وجعلت من خجل الأنثى قصائد تغازل لوعة الجسد وجوع الروح في نشوة ولذة انتشلت عن أوجاعنا كل أوراق التوت.
لقد حاولت أن أتعمّق إلى أعماقها من خلال قصائدها, في أمل أن أحطّم كل الأصول والطقوس في وسط الكتابة والقلم والأدب, وأن أتناول شاعرة مازالت تحلّق بحرية في سماء الكلمة, ولم تصبح بعد أسيرة دور النشر وتجّار الأدب, وبيّاعي الإبداع على أرصفة الشوارع, حيث تجتمع الكلمات والروح والحياة والأمل وسمو النفس, وأحلام وأماني المبدع, بين صفحات كتاب يباع بثمن بخس, أو تظل كل تلك المبادىء والأحلام السامية المقدسة والكلمات المعبرة الجميلة بأوراقها, منزوية فوق رفّ مكتبة, يتيمة معزولة, يلفحها الغبار والنسيان. جنازة المبدع.
هذا هو الواقع الحزين لمبدعينا وكتّابنا وشعرائنا, والجميل أن نرسم معا نحن صورا لأحلام وأماني ممن يصنعون الحياة بإبداعاتهم من خلال الكلمة والشعر والقصيد والفكرة, ويساهمن في انتشال الواقع من أمواج اليأس والألم الإنساني, ونبذ الظلم والعنف, ونغني ملحمة للحب والوطن والأمل والحلم الجميل, ولو بكلمات تدفىء العتمة فينا وتنيرها, وتزيل عن ذاكرة الزمن أهزوجة النسيان التي تخفي من ورائها مأساة إنسانية, وتشعل شمعة للبسمة ولو للحظات, حينها نكون قد أدّينا الرسالة ولملمنا بعض الزهور الذابلة, في أمل أن نتذكرها بالخير, حين أفرحت تلك الزهور عاشقين, وزيّنت حدائق الوطن يوما ما, هكذا هم المبدعين, والشعراء رسل للخير وللحب والأمل بقصائد تتلوّن وتضاء, بمجرد أن تشهد الحياة بوميض عيوننا وقراءتنا لروح المبدع الذي يعيش الألم والفرح, ألمنا, فرحنا, عندئذ تشهد الشمس والسماء على قداسة ونبل تلك الأشعار والقصائد والكلمات, وهذا ما ارتأت الشاعرة فدوى لأن تهمس به في أرواحنا, فأبدعت وبرعت في ذلك بعذوبة أنثوية جميلة.
فلتقف ظلالنا, ولتنتظر ليالينا, وأمكنتنا, وأزماننا الهوجاء, قصائدها السحرية, على أمل أن نعيد معا ترتيب أوراق حياتنا في بهجة وفرح وحب عظيم.
19 فبراير 2007
* صحفي وشاعر- سوريا
Xebat_s@hotmail.com