رحلة مع جنكيز جاندار في قطاره الرافديني السريع (المحطة الثانية)

 علي شمدين
ما أن وقع بين يدي النسخة العربية لكتاب جنكيز جاندار الموسوم بـ(قطار الرافدين السريع/ رحلة في التاريخ)، حتى ركبت مع الكاتب قطاره السريع هذا وبدأت أتنقل معه من محطة إلى الأخرى، وبدأت بقراءة صفحات أسفاره الـ(558) بنهم شديد حتى الصفحة الأخيرة التي اختتمها الكاتب بالفقرة التالية: (أعتبر أنني ركبت قطار الرافدين السريع الذي سافرت بواسطته عبر التاريخ من الماضي إلى الحاضر من محطة بيروت، عرّفني الكرد السوريون في بيروت إلى جلال طالباني القائد الكردي العراقي الذي أصبح في ما بعد أول رئيس جمهورية عراقية منتخب، وأنا عرّفت القائد الكردي العراقي بعد سنوات طويلة إلى رئيس الجمهورية التركية تورغوت أوزال، فبدأت تركيا تتعلم أنها لن تستطيع تجاوز الحدود والانفتاح على الشرق الأوسط من دون كردها، ومن دون مواجهة التاريخ../ص556).
بهذه الفقرة يلخص جنكيز جاندار رحلته التي كانت القضية الكردية بوصلتها الرئيسية، ويفصح بوضوح عن رؤيته حول ضرورة حلها ليس فقط لأنها قضية هامة وعادلة، وإنما لأنها البوابة الرئيسية التي لايمكن لتركيا الخروج بدونها من عزلتها الخانقة وبالتالي انفتاحها على الشرق الأوسط وتحقيق حلمها العثماني، ولا ينسى أن يحدد بدقة المفتاح الذي حاول أن يفتح به هذه البوابة التي ظلت مغلقة بيد من حديد لقرون طويلة، وكان المفتاح هو جلال طالباني الذي التقى به الكاتب لأول مرّة في بيروت مطلع عام 1973 عن طريق صديقهما المشترك عبدالحميد درويش، وهذه الفرصة التاريخية هي بالذات التي تحدث عنها جاندار في كتابه وقال بأنها ساهمت في تغيير مسار حياته لينطلق بقطاره مسرعاً في رحلته الطويلة والشاقة عبر التاريخ.
 عبر صفحات كتابه (قطار الرافدين السريع)، يغوص جنكيز جاندار بمهارة فائقة في أدق تفاصيل الجهود التي بذلها فيما بعد وبالتنسيق مع جلال طالباني في هذا الميدان، والمغامرة معاً في التوسط بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني التي تتوجت في الأخير بإعلان عبد الله أوجلان عن أول هدنة تاريخية في (16آذار1993)، بهدف خلق المناخ اللازم للبحث في إيجاد مخرج مناسب لحل القضية الكردية في تركيا، ويؤكد بأن الرئيس التركي تورغوت أوزال هو الذي أسس لهذه المبادرة، وهو الذي كان مصمماً على كسر المحرمات في السياسية التركية تجاه الشعب الكردي، ومصراً على تجاوز الخطوط الحمر التي أحيطت بقضيته القومية على مدى قرون، يقول جاندار: (إن تورغوت اوزال يحوّل ما يفكر فيه إلى كلمات فوراً، وهذا ما يثير الانطباع حوله بأنه فظ، ولكن هذه الصفة جعلته -كاسر المحرمات- على ما يبدو، فهو يقول ما لم نعتد على قوله، وما هو غير متوقع، وما يخطر بباله فوراً، ولكن خصوصية تورغوت أوزال المدهشة أكثر والتي سأعرفها في ما بعد هي ثقته المفرطة بنفسه../ ص77.
  يعرض جاندار بوضوح التحديات القاهرة التي واجهت رئيس الجمهورية تورغوت اوزال في مشروعه هذا من جانب الجيش والاستخبارات والقوميين العنصريين وفي مقدمتهم رئيس الحكومة آنذاك سليمان ديمريل، ويؤكد بأن أوزال لم يرضخ لتلك التحديات وصمد أمامها بعناد حتى اودت في الأخير بحياته وبمشروعه الذي كان المخلصون من الشعبين الكردي والتركي يراهنون على نجاحه ويبنون عليه آمالاً عريضة، فينقل الكاتب على لسان تورغوت أوزال شعوره بالمسؤولية تجاه القضية الكردية واعتبار حلها دين برقبته وبحثه عن السبل اللازمة للوفاء بهذا الدين مهما كلف الأمر: (إذا جاء مقترح الحل مني- من اوزال- فسيعارضه سليمان ديمريل بالتأكيد، فهو لايريد أن يمنحني شرف حل القضية، ولكنني سأنتظر فترة، ثم سأعلن مقترح الحل مهما كلف الأمر، هذا دينُ شعبي الأخير عليّ، وواجبي الأخير، سنبقى كما نحن إذا لم تحل هذه القضية، حل هذه القضية دين برقبتي بصفتي رئيساً للجمهورية../ ص22)،
ومن هنا فقد استنفرت كل الجهات التي لاتريد حل القضية الكردية، ووقفت بكل قوتها في مواجهة أوزال ومحاولة التخلص منه، وعلى هذا الأساس يؤكد جاندار منطقية الإحتمالات التي تقول بأن تلك الجهات نجحت في تصفية اوزال ومشروعه الذي كان على وشك الإنجاز، فيقول: (هناك قناعة منتشرة على نطاق واسع بوجود قوى لاتريد الحل، ويبدو احتمال أن تتخلص تلك القوى من تورغوت أوزال من أجل إعاقة الحل، إنه يحمل معنى ومبرراً منطقياً لكثير من الناس../ص25)، ويضيف قائلاً: (لم يمت تورغوت أوزال، قتل حين كان على وشك حل القضية الكردية، لعل الحقيقة لن تُعَرف في أي وقت../ص26).
يؤكد جاندار بأن أوجلان كان ملتزماً بالهدنة التي أعلنها، وكان مصراً من جهته على تنفيذها دون أن يأخذ بالنظر موقف النظام السوري الرافض لها، لابل أنه سارع من جهته إلى تمديدها مرة أخرى من دون شروط مسبقة ولأجل غير مسمى بهدف إعطاء الفرصة لأوزال كي يذهب بمشروعه إلى الأمام، ولكن صادف هذا التمديد مع الأسف الشديد عشية الإعلان عن وفاة الرئيس التركي تورغوت أوزال، الأمر الذي دفع بالهدنة نحو طريق مسدود، يقول الكاتب: (روى لي كاميران قرداغي بأنه كان في بيت أوجلان بدمشق عند سماعه الخبر، وأنه رأى استغراب أوجلان الذي سأل جميل بايق: كيف حدث هذا؟../ ص485).
 ويدعم جاندار رأيه هذا  بأقوال (كاميران قرداغي وكمال بورقاي وجلال طالباني)، الذين اجمعوا على نفس هذه الرؤية، وصرحوا بأن عبد الله أوجلان كان مقتنعاً بالهدنة ولم يكن على علم بعملية الهجوم على طريق (بنغول- إلظاغ)، وينقل الكاتب على لسان جلال طالباني قوله بأن أوجلان لم يأمر بخرق الهدنة وإنما جهات أخرى هي التي نفذت عملية مقتل الجنود من دون علمه، فأضطر هو إلى تبنيها كي تبقى الأمور بين يديه، فيقول جاندار: (لقد تبنى عبد الله أوجلان الأمر أمام طالباني بذريعة أنه إذا لم يتبنَّه فسيفقد تأثيره على فدائيي حزبه، هذا ما نقل إليَّ../ ص485).
حول مصير الهدنة بعد غياب أوزال، يقول جاندار: (كانت لدي شكوك جدية من استمرارية الهدنة بعد موت أوزال في 17نيسان1993، إذ كنت واعياً إلى أنه ليس ثمة أحد في الدولة التركية غير تورغوت أوزال يريد أن يفعل شيئاً من أجل القضية الكردية، ويطوّر مشاريع من أجل الوصول إلى حلّ، غير هذا ليست لدى أحد الجرأة التي لدى تورغوت أوزال../ ص484)، وعلى أرضية هذه الحقيقة جاءت عملية بنغول بمثابة الشرارة التي أشعلت الحرب من جديد وبشكل أقوى من قبل كما توقعه أوزال، فيقول جاندار: (لقد جاء مقتل 33 جندياً غير مسلح في كمين على طريق بنغول في 24آيار1993 نهاية للهدنة../ص26).
 وبالرغم من انهيار الهدنة على إثر مقتل الجنود الأتراك، إلاّ أن سؤال: (من شن ذلك الهجوم؟ أو الأصح بقرار من؟.. / ص485)، ظل يقلق جاندار محاولاً إيجاد الجواب بين ثنايا تصريحات بعض القادة الكرد الذين عاصروا تلك المرحلة، حيث يتهم البعض منهم المخابرات الإيرانية، والبعض يتهم قيادة القوات المسلحة التركية في ملاطيا، والبعض الآخر يتهم شمدين صاقِق وقوات حزب العمال الكردستاني المحلية في ديار بكر، إلاّ أن جاندار يرجح الرأي التالي: (ثمة شريحة واسعة تمتد من جلال طالباني إلى كمال بورقاي تعتقد بأن المخابرات السورية هي التي قامت بهذا العمل بسبب انزعاجها من الهدنة../ ص485).
السليمانية 25/7/2016
————————–
المقال منشور في جريدة الديمقراطي العدد (368)/ أوائل أيلول 2016

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…