سأغلي لك البابونج وأنا سأشرب اليانسون محلىً بأنفاسك…!

مها بكر

حلب1990
سفر الحرب
حربُ ألمٍ ودمار وأسى ، حرب مسميات كثيرة تضع آلامها وتخيم بثقل ظلالها على الجميع، عرباً، وكرداً، وإثنيات أخرى كثيرة،  هنا وهناك، لينال كلٌّ نصيبه من الوجع وبالتساوي: سماءً وأرضاً ، بشراً وحجراً، طيوراً، وحيوانات

أكثرها فزعاً، كان ذاك النزوح المرُّ ، ذاك الفرار الورع للكرد من جباله الصديقة، الجريحة، صوب موتٍ أعمى، أمهاتٌ يهدهدن صغارهن على بحّة موالٍ كتيم، وعصيٍّ على من يمجد الموت، والإبادة وهو في حالة ضلال سمج ٍ ، صغيرات يجففن دموع آبائهن، وطينٌ يشهد قساوة الدم  والدمع معاً، يسجل خطو مارقيه، بمداد الأمل الخافت،  وهو يكتب الوقائع في صحائف  الطبيعة ، ليبثّها خلسةً لله:  بيان الموت، لا موت حينما تكون أداة الدفاع عنه، عويلاً، وحبّاً، وأغان، وأجساد تتكوم على مصادفات رثة، لايستحقّ الكرد أن يكونوا جمر أتونها…..!
دموعٌ تسرد قصص الموتى للرّيح، ريح تدثر الموتى بالر ّقّة، وتنوح .!
يوم حشر ٍهناك ، وصمت مرعب هنا، إزاء تلك المشاهدات المروّعة ،
يكتمها الآخرون ويعتّم عليها، حيث  ألم  الكردِ،  موضوع  آخر ، ومستثنى
وبينما الجبل وحده، وحده في العراء، يسجل شهاداته الصادقة لله..!
ماكنت أعرف وقتها- أنا الصغيرة- إلا بعد حين، بأن الألم، أيضاً، هو محض
مشاركة إنسانية، نبوح بها للآخر ،عندما يتنحّى الأقوياء/ الأصدقاء ،
بذريعة عدم التدخل بشؤون الغير…
مقالات كثيرة، كبيرة. ندوات ..كمُّ أفواه..عراكٌ على المصطلحات ، كانت برمتها مضللة، لون الألم والحقيقة معاً، بينماالكل  منشغل، ومشغول،
بتسجيل، رؤاه وفق ما تقتضيه ظروف تلك المرحلة، ومعطيا تها السياسية
الناقصة إنسانياً ، وهي في حال تدوين شهاداتها، حيث  كان اللحم الآدمي، وحده ،
مع الفجيعة، أصدق مدوّن ،وساردٍ لما يدور…..!
سفر الحب:
حاملة أوراقي، وهي صررألم الأرمن، أدونها بعين الحبّ ، الحبّ الذي جرفني إلى الكرد، هوأجمل عتبةً نطؤها للولوج إلى قلب الأشياء، جميعاً، وبكلّ إيحاءاتها مشاركة صغيرة، وحارة، خلتها من أجل التضامن مع وجعهم، أثناء تهجيرهم عنوةً إلى تخوم الموت، مشاركةً أردُّ بها نذراً يسيراً من جمائل
الكرد على “أفاديس أوهانيس توتنجيان” الأرمنيّ أبي وأحمدو الكرديّ لاحقاً الذي تلقفه
الكرد، من قسوة تلك المذابح، ومسحوا بالحبّ عن أنامله الصغيرة، حينها شوق أهليه،
 وعذاباتهم وهم عزّل يقارعون الجوع والموت ،بسيوف الألم ، هكذا ليتوحد المشهد
عندي :  تهجير الكرد ومذابح الأرمن، على حد سواء…………!
–  قرأ الجميع وقرأت………….!
وأنا أعود أدراجي إلى البيت، يتبعني رجل خلته على مشارف النضوج، وبجرأة تستفزّني…..!
هييييييه..!- 
 -مااسمك ِ؟ ثم ّيعود أدراجه ….!
ليفاجئني بعدها بزيارة غريبة، وقصيرة جداً ، حاملاً معه هدية ثمينةً”عشرين علبة مربّى”، وعشرين ليرة سورية، لأشتري لنفسي بها وردة، أختار- أنا -لونها، ثم يغيب لألتقي به ،  بمحض مصادفة، مع مجموعة من الأصدقاء في مرسمه، نجلس وبحركة مجنونة تنم عن حبّ كبير يحمل حذائي، ويمسح الغبار عنه بكُمِّ “جاكيته” وبتلك الحركة، مسح عن قلبي كلّ ما علق به من ألم، يجلب كرسيه، جالساً بجواري  يسألني  بثقة فاقت تصوري : متّى يجلس الرّجل بشجاعة، هكذا ؟ بجوار امرأة….؟
– رددت بجرأة لا تقلُّ عن شجاعته : عندما تحبّه يا خليل..!
فقال: وأنا أحبك أيضا ً……!.
– حبٌ بين جرحين .. حبٌ بعد جرح…!
-حبٌ من طرف ٍ واحد.. حبٌ بين طرفين…!
-حبٌ بمسميات ٍ كثيرة انشغلت بها الجموع….!
وكنت- أنا العاشقة الهائمة- أنهل من قلب رجل ٍأسرني بدفئه وغرابته…؟!
….
..
 – وصالكَ عشرون حرباً خضتها!..
– جنودي ياسمينكَ… سيوفي رسائلكَ …!
أشحذها،بما تخطّه لي من دمع ِعيدٍ وخواتم عقيق
ولجتكَ…!
ولجتُ الهوى من بابِ الأسى الشاسع .
صغيرةٌ ترفُ على جموح الرِّقةِ بجنحي ليلٍ مرير.!
التقيتكَ “ذاكَ العام”  ِمرّتين….
خمريّ ٌ ثوبي َ كان.. ونارية ٌ ظلاله ..!
سلاليَ ملأى بالشوقِ ِالوثيرِ وبتينٍ ٍصدّاحٍ ٍ
ينزعُ عني وجلَ زهرتين ،عالقتين بأهدابِ عروسٍ ٍلاتطالُ الفرحَ إلا بالدمِ ِ.
ساجدة ٌعينُ الليلكِ على السورِ،كانت تردّدُ وجدَ عاشقين
عيناهما وما تذرفان…!
يداهما وما تجمعان من زهد الفضّةِ ورنين الأمل
 وثمة َقمر….كان ..لامعاً كوجهي ، وأنتَ تنظرُ إليه….
– وصالكَ عشرون حرباً
-عشرون حرباً خضتها لك ،يا بلاداً أيقنتها بعد موتٍ شاسعٍ ٍأنها لي.

– أعدي ليَّ :
 بخوركِ..  نجومكِ..  سرير المشتهى، أناملكِ ، اللوزُ الأخضر
فأنا المحاربُ .. العاشقُ .. المتعبُ مثلكِ
أنطفئُ كلما اشتعلت بنفسجة ٌفي رسائلكِ
طريحُ الحب..!
طريح ُيديكِ..!
طريحُ ذاكَ الثوبِ الأبيض…!
يرفُّ فأرف
 ينامُ.. فأنام…!
يميلُ،فأميلُ …!
فأذوبُ على أطرافه وأنتِ تعبثين بروحي عليه.!
أتأرجحُ،يتأرجحُ قلبي معي ،يمنةً ويسرة،مثل سراجٍ ٍلا يكفُّ نوره عن الأسى
-يحزنُ فأموتُ عند لؤلؤتينِ ِجارحتين
 عند دمعتين تسردان خلسةًً منكِ ،تفاصيلَ زهوركِ
وهي تهيىء للنّحلِ. ِالرّحيق…
– أوفِيتُ للهوى نذوركِ، ولم تذوِ ِسبلي إليكِ
– ولن تشفى رياحيني،إلا بفوحكِ على أنفاسها.
– سعيدٌ هو الذي يطأ مطارحكِ
وملكٌ من يتفيأ تحتَ أغصانكِ الثمينة
قمحٌ، شهدٌ ،ماسٌ ،دمعٌ ، دمٌ ،زغبٌ ،طحالبٌ
وعقدة قصب أ ُجَنُ بها وشَعركِ يمازح صفير ريحٍ وزمهرير.
شرهٌ ولا أرتوي إلا من جراركِ ،أشربُ منها وأتوبُ عندَ وجنتيكِ الوِردُ
وتتوبُ معي قوافل الخطايا، محّملةً بالإثمِ والتمر.
تغتسلُ بأنهاركِ وأنتِ تهلينَ أميرة، تقلبيّن بين دفاتركِ  ملامحي
بينما عينايَّ تغزلان لك الندى
بينما أتطيبُ ولا أبرأ….!
أغرفُ ،أنهلُ ،أتجلى،أتوسلُ الخالقُ المولى…
كيف وأنتِ؟ نجمة ٌصغيرة ٌوتحيكُ كل،هذا الفرح..
كلّ هذا الضوء

أَتذكرُ..؟
– أول لقاء ٍبيننا…..
أول ليل ٍ، أول ليلك ٍ وأول ذهبْ …!
أذكرُ ..كانت تنورتك  من مخمل إنكليزيّ ٌ مُعَرّقٌ، بورود ٍ لانلمح لونها
إلا وأنت تقتربين كوهج الشمس، حينما تبرق على وجه دجلة، تدقين القلب
 ويفتح لكِ، يلقي عليك وعن ظهر قلب خساراته، خسارةً…… خسارة
كنت ِتفيضين، وأنا صامت ٌألمُّ زبدكَ عائماً، على وجه حقيبةٍ صغيرةٍ تتسع
لقمرين شاردين من ألمٍ حالكٍ وليل، تتمايلين وكأنك تقلدين مشاوير الحصى
 وتأتأة الرمل على البحر تقرعين اليباس بضحكاتك ، تكسِّرين بها ضجري، و
تتركينني أتطاير فرحاً، كقشة غافلتها الريح، تهمسين بطّلك الشهي فيبتل ّعشبٌ، و  
تموت أسرار……!
– رأيتكِ في ذاك العام مرتين..
 أخضرٌ حزنكِ ، وهو يسجل عبقك المارق على جسر مررت به  يوماً
متجملة بعشبتين هائمتين في عروة قميصكِ القتيل، تؤرِّقين بهما الذاهبين والآيبين،
وعن سفوحك، رحت ُأزيح تفاصيل ندبين غائرين…!
أغرسك وردةً كلما ذبلتِ ،وكلما جفت رياحيني في دروبها إليكِ
وعلى شعرك انسكبتُ أقرأ رقرقة مياهك، فرَّت إليها عصافير الحبّ متجملة
بهديل حمامتين، هائمتين، بعشبتين في عروة قميصك القتيل،   تكتمين العطر،
 وأنا أنثره بين شغاف قلبي بهدوء نهارٍ حنون….
سفر الريح:
نساؤه يخرجن من اللوحة، يتجولن كريح ترشد ليلٍ ضرير الى سرير ألمٍ وحب
الى بيانها ، بيان العشق يسكبه اللون مباركا يتعمد به النرجس الشغوف، الصفصاف
العاقر ينقله الطير للطير، بخفة الريش بحلاوة طبعه حينما يتقن قراءة الجهات الى
قوس قزح ، يحلق باللوحة الى سرها، مقامها الرفيع ، كتوماً وعراً بوضوحه لايأبه
باتباع الجمهرة أيّاً كانت، بل بهبوبها إليه ، عبر سبلٍ آمنة مقلقة، مطمئنة لطيوفه
 وهويفتنها  ،يتلوها بلون سره العدم .
هذا السواد الفاحم سيرة الكرديّ مخضلاً بوهج شعارات المارقين الرثة على دروب
 جثته المضيئة ،إنه سيرة الثوب الكردي الطاهر ، وهو في حالة تبيان مآثره الجمة .
سيرة الهباري ُمخرَّمة بحزن القتلى ،بينما السروال أنثويا ، أخّاذاً ينجب الشهداء والشهوة، توشحه المرأة بحزنها السموق ، تفاسيره نُسِجتْ بعماء خطوط كأنها نخلة غريبة، لاتجيد لغتنا من بابها الى محرابها…!
– تصحبك لوحة خليل عبد القادر الى قرىً متوشحة بزخم ليلك وعشب مضيئ،
يترامى على أطراف حداد التخوم ،عمرًا بأكمله يستيقظ وهي تجرّ حراك الظلال
والغمامات بلون الوجد تنسكب علينا ،لتخضرّ نجمتان يابستان ،نكتحل من زرقة سرائرها ، ونفرّ إلى سطوة شعر” سطوة شاه” أعماه قلب امرأة وثلج. أخضره وجل مكسور الخاطر، وحنون، عند أعتاب خلاخل نساء ،ينقشن وشومهن بالحناء
على درب الحب ، على تفاسير اللون، لنغدودق بدمعهن، مثقلين بوهج الحسرة، وهي ترميهن ، من موت إلى حياة ، يغرسن أوجاعهن والعطر يندب وطناً وشيك ، نساء يسرحن في مراعي الوجع، نخالهم جنوداً بعيون مطفأة، وبارود متقد بنحيب الموت ،بينما القتل لغة نافلة عنهم  ،وجادة في قواميس الآخرين ، فبحنِّو الصبر، ويقين الأفول، يأسرالكردي قيد مقيديه ..!.
يالها من معضلة سؤال لحوح
 أطرحه عليك
كيف تحبس شخوصك بألمها؟ وكيف ؟
تطلق لها العنان في فضاء هذاالترف “اللوحة “
وأنا واقف أمام اللوحة، هذه المساحة الصغيرة،كما سميتها ،أمعن فيها رويداً رويداً….!
حتى تكبر . وتصير كالمدى ،واسعة،أرشّ عليها خلطتي، اللون مجبولاً بالمعنى ودلالته …..!
فتنبت الظلال هنا! ، وتنموالشخوص هناك ، كما أحبّ ، وكما يريد اللون ، أنا من يأخذها إلى الوسع، وليست هي من تضيق بي، كلانا يرسم حريته للآخر، ومعاً ،أنا واللّوحة على حدٍ سواء …!
سفر الورد
مكتظّة  برياحينه وأنا أمسك بيد النسيان ،مؤرِّقي الأجّل ، صديق الغياب الأعمى وهو يجرّني إلى تلاوين حزنه، ورونق الأمل ، رونق خيالاته تشطح بي، حتّى يجثو قلبي أمام  ذاك الكمّ الهائل من الحزن، واللوحات ، باحثة عن مرآة عشق ، تسرد لي أين تقف ظلال المرأة المقيمة في اللون، حاملةً تعبها وطيوفها ،مشرقة بين الترابيّ، والفيروزي المائل إلى الزرقة…تقف.. وكأنها “تنطرني”، كلّما قرأتُ عتبات سرّها،فاردة ًلي ظلّها لا يشبهها أحد، وتشبه ألم اللوحة،نافرةً ومختبئةً بين نساء مختلفات، ينقرن هبوب الأزرق عليها  ، والأزرق رعشة فرشاةٍ، وأنين  يغزل السرور الشهيّ ، لترتديه  قرنفلة تباغت بها الدروب إلى القلب، ترفّ  فرشاته، و كأنّها رفيف حمائم الله ، تقود الملائكة في عربات من نور، إلى أسفار اللون ،  يمزج اللون باللون ، ليصطفي الأبيض له من رنين مزيجهما  زهوره ، يمزّق بها وحشة الفراغ، متوجاً بها شجر المكان…!
* **
الزّهرة نائمة في إناء أعجمي، ومركون ألمها في خزائن  للعطر،تمكث ُعند حواف الغبار، عند  أذكارالنساء،  وهي تُتلى في ليلة القدر ،عساها تورق دعواتهن، وثمرتها مغفرة ،أجُّلها غسل آثام حبّ نوراني، وخطايا، هي مضئية بين سطور التوبة، في صحائف الذنوب ..!
وبينما الملائكة تصغي وتعانق “حسي أوسو” ،تاركةً الليل حارس خرافها،نجومها كًمدِ
حرائر أثواب صباياها باللّون العنّابيّ، وتقودالخرز،  فيروزياً،يُشترى من نساءٍ مغربياتٍ،يقرأن الكفّ والطالع  في صباحاتٍ غامضةٍ وموجعة ،  تاركة ً الليل حارس مؤونها من الزّبيب ،والتين المجفف، وسلالُ مكسراتٍ تأتيهم غالباً، من أقاربٍ غائبين خلف أسوار تركيا “سرّ ختى”أسوار الألم..!
دبسٌ من عنب “عنتاب” هو ترياقٌ لاصفرار القلب، و ذبول الدم بين أوردته .
– تمهلي مها.. !يقاطعني خليل  ليقول: وعسلٌ حرّ ،من مملكةِ نحلٍ تجفّفُ نافلَ دمنا،
تمزجه مع رحيق قبلنا نتبادلها مع أحاديثنا  الساخنة، والتنور، يشعل رسائله الحارّة للآجر…!
-من كل ذلك أستعيد عوالمي ،من عين ذاكرتي وبصيرة التربة هناك ،وهي كخير مؤرخٍ وشاهد ، لاحتفالات الألم وطقوس الموت والولادة،مازلت أنهل حتى البرهة من بذخ جبل كوكب ، مكللا بلون ألفّ زهرة وزهرة، تلك هي الخميرة التي أعجن بها لوني ،وأستخلص منها  ملامح  عوالمي ،شكل قامات شخوصي ،درجات اللّون، وهو يغيب ويحضر ،غائما ،شغوفاً أونحيلاً ، غامقاً اوفاتحاً، أو ربّما كتوماً مثل،سرّشجرة رمان أوخوخ تمكثان هناك…!-
-لاأرسم الأشجار فقط  إنما أغرسها بعناية المزارع والرسام معاً،أتخيلُ أغصانها تتحرك وأخالها  ظلال شخوصٍٍ لأ ناسٍ عبروا اللّوحة،وتركوا لي عناء مهمّة ترجمة ألمهم ….!
-تكويناتي، وخطوطي في اللوحة، لها غير تلك الأبعاد التي يتحدّث عنها النقد الجافّ
– البعد الأول…البعد الأعمى
– البعد الثاني …البعد المضلل
– البعد الثالث …البعد الخمول
ثمة أبعاد دون مسميات، هي من هبوب الألم والخبرة المضنية تختبئ في اللوحة ،
هي من صنع الفنان وحده ،بُعدُ لوثة الإبداع الذي ،يبقى عصيّاً على النقد، وهو في حالة
 قراءاتٍ كثيرة،وخاطئة في معظمها للوحة ….
– حسناً، سأغلي لك البابونج، وأنا سأشرب اليانسون محلىً بأنفاسك!،
نكمل الحديث عنك ،عن اللوحة ،عن حيواتها ،-
المعتمة والمشرقة معاً، فأنا الشاهدة الوحيدة وربما المتفردة أيضاً ، بقراءة رطوبة جدران مرسمك ، والمطر يُدلف من بين مسامات السقف،واللوحة صامدة لا يمسها مَنٌ ولا أذى، تغرفُ هي من “جعك”، وأنتَ من فرح بقائها ، ورعةٌ، وفية…
كم تفزعني وحشتكَ ، هذه، وكأن ّسرها ، يرقد في قاعك فقط –
-كم تبهرني رقتكَ الآسرة ، لا ألمحها غزيرة ، إلا وهي تنهمر عليّ، وأنا أحزم حقائب التعب، لأغادر، حين ألمحها و” ايفارو” تحتال، لتأخذ ، أكبرَ كمٍ من الألوان الثمينة لصديقاتها ….!
***
أنتَ تسرد أملا طافحاً ويأسا عتيد ، تخبئه بين مكائد الفرح ،
أنتَ تسرد الكثير من أسرار المكان الأول ، وهجه ، رائحته،تصف جذره براعمه، ترسم صورة شيخوخته ،
كما لو كنت حاضراً منذ مئة عام ، أو أكثر، كم عمر ذاكرتك؟ كم تبلغ من السنين  ؟
عمري خريفين وصيفاً يابساً ، شتاءاتٍ باردة وكثيرة ،سنين أغلقت عليها أمي بمفتاح الوقت يرقد
في صندوق عرسها ، مع ثوبين مزخرفين ، وحذاء من جلد الماعز، نسيَهُ جدي وهو ينزح من سنجار
الجريح صوب أنفة سهول “كابارا”.عمري تعباً كثيراً، تجدينه منثوراً بين طياتِ شوارع ، نسيتُ اسمها ،
عمداً وأنا أتيمم بطهرالميديين ، وهم يرتلون أحزانهم ، طيعة وعصية ، وثقَ الكرد أسماءاً كثيرة،
المضيئةُ منها والباهتة،بين سطور كتبهم ،وتركوني دونها وحيداً ،ولكن رطباً أرفُّ بين مراتب الضياء ،
يحملني اللون على جنحيه الرهيفين، أرسم بريشِ النسر ، مغموساً بأزرق دجلة وألم الفرات، تركوني حفيفَ
ألمٍ يمزجه الأصفرُ النابتُ ،على حوافِ الغياب مع ظل ثمرة مجففة وصامتة ،وأنا خيرُمّوثقٍٍ لعذاباتهم 
هكذا يقول اللون للون في اللوحة ،
هكذا تقول الفرشاة الجريحة لأصابعي  …
****
وماذا عن سفر البدء ؟ طفولتك والرسم.. حدثني
كانت أمي تشعل قنديلها وتحت ضوء الأسى أرسم وسامتها ،
 وجهها وقد حفر الزمن عليه أخاديد ، كأنها صدى حوافر خيل سيامند ،
وهو يبحث عن خجي   ، كان أبي حينها غارقا في عدِّ غلال مواسمه من التين،
والعنب،القمح ، متحدثا ببلاغةالقروي ، عن خاصية التربة حتى يسمو بالمعنى
فاحسبه أبلغ رائيا عن الأرض ، لتتلقف بعدها خيالاتي كل ذلك ليسجل الحّوارعلى وجه
الطين كل تلك الأشكال التي فسَّرها أبي ورسمتها أنا بأصابعي الصغيرة، مدوِّناً سيمائها
خطوطاً ولون، كنت أرتجف وأنا أعد ألوان أجنحة الزرازير، كانت أكثر من أصابع يديَّ،
أكمل عدَّهاعلى زاوية ما، قاماتُ أوهام ٍ هي أرق طفلٍ يسرد أسئلته وهو شارد بين دروب
الليل ، هائما حتى أخر شعلة من بصيص ضوء تستدل من خلالها أمي علي تمسح دموعي،
وتغلق أسئلتي الكبيرة أتبعها متأبطاً حلمي  وأصوات القطا، وتعبٌ يحوم حول أسّرة القرويين،
وهي تزين سطوح البيوت كا للألئ.
كبرتُ وغدا اللون شاهدا على سيرة وجع ٍ ، يحرسه التائبون متناوبين حتى مطلع الصبح
برّاقاً على خشوع مئذنة جامع ” حسي أوسو” ، يقظةً ً ترتّل صلاة الغائب
على قبر النشيد.. منذ أول غيمة وأول حجر
جامع قريتنا..
جامع الحزن والحزانى..
جامع المتقين يحمل على كتفيه الطينيتين، ذنوب الذاهبين الى الليل
والعائدين من فخاخ القطا وخزائن المؤونة مشرعة أبوابها للمرتابين
وموصدة بوجه محتاجيها وهم يقتاتون الفتات،
وهم يخطون رسائلهم للسماء،َوشْمَ ألم على جدران مسجدٍ قد تصلُ زفراته لله.
إنها ظلالُ مغن ٍأعمى، من أم ٍعيناها نافذتا مدى،لون بصيرة أرض ٍلا تضل .
يقودني بدراجته الهوائية ،الى أقاصي الغيمات ، أقاصي الذنوب ، أقاصي الفرح .
يعزف الكمنجة بطعم الكمأة، من جبل كوكب تطبخها الكرديات بسمن عربي ً،
وملح ٍ من أكياس خيش ٍ رسومه وهجَ ،ندفَ سنين عالقة بذاكرة التقاويم ملونة بأحمر
مقدس هو من قبس جمرة نساها الأنبياء وهم يخطون صحفهم دوننا ،نشعلها كلما ضاقت
بنا أضلاعنا وكلما لفظتنا الحدود غرباء كلٌ يبنسج له وطناً.. وهماً ينقفنا من رحم مخاض ٍأصفر.
إنها لون لوعة أمي ساردة.. أ  ستغيب ؟
وها …. نسائم أيلول هابة تقرع روحي  ،كعادتك تقول إنهما يومان فقط وسأعود
ثم تغيب وتترك عيناي  على أسوار الزيزفون تنطرك  حتى تذوي وأنت تتأخر في المجيء
تتركني خَمَدَ لفافات تبغَكَ وأنين نار ٍ تبكي غائبيها
ألمُّ وهجك عن المصاطب وتميل الكروم كلما رفَّ جفني قائلة:تكحلت العناقيد اليوم
هيئي ورق العنب انه عائد
***
جموع ورودٍ أتخيلها أمراء بايديهم رسائل حبٍ للنار. ألوان نفيسة تمليها عليه ذاكرة الحقول
بامتدادها ، بيديها دفتر السنين تنسل من التقويم سنة بعد سنة، ألوانها  ..   ضجيجها، نحول
قبراتها وهي تطير باجنحة من فزع ، تنقر العنب ثم تدوِّن نزهاتها الى الكروم، والرمان
الحنون في أبهى حلله قشوره يتخيلها قماش خشن للوحةٍ قد وشح الله سطحها بألف لون ولون
شقائق النعمان، لون حرير أحمر غامق في اللوحة وشفاف كلما لوَّحته الشمس من النافذة يغوص عميقاً
في الجراح ويبقى بلا تفسيرٍ كالتخمين بأكثر من لون، بأكثر من إحتمالات الندى، وهي تدسّ الرطوبة ، و تلم ّشمل العشب.
 لقد شاخت حكاياتي عن النرجس
وكهلت أسرار الزنابق
 هناك ..!
 تركتُها بين مناقير الزرازير
تشدوها للأمكنة
 كي لاتصدأ
 ولاتشيخ مثلي …
 -هكذا كان يتلو عليَّ خليل ألمه بالكردية-
يرسم كلّ ذلك غير آبه بالرّطوبة ورائحة الحزن المتصاعد من ذاك المكان، المكان
 الذي سميته أنا وحدي/ مرسماً
وسمَّاه هو مقبرةً…..!
***
سفر اللون
يأسركَ اللون حتى تخاله سيدك، وأنت أسيرُ فتنته ، يشعُّ بحرارةِ ،بدفق،
الانفعالات الأولى، التي تتراكم حتى تصل بك إلى قاع البقعة اللونية دون،
أن تلمس تفسيراً لغموضها ودلالاتها ، التي ترميك من همسٍ، إلى همس،
من بلاد إلى بلاد….!
على عجالةٍ ساحرة يمزج اللون باللون بالإحساس، ويشكل خليطه المؤلف
من عوالمه هو وحده ، موازياً بذلك تكنيكاً عالياً وخاصاً ، يدعونا بعد فترةٍ وجيزة،
إلى حرية تشبه، حرية انسياب اللون والألم على سطح اللوحة نكون حينها أمام
قراءةٍ ممتدة ،نستطيع من خلالها أن نلتقط سر اللون والتشكيل، المعبئ بوضوحٍٍ ٍغامض .
أمام متعة الكشف عن تلك الطاقة التعبيرية، الخارجة عن المسميات وتلك المتعة
البصرية التي تملؤنا ، بعناء شخوصه ، بألقها ونضارة حلمها.
هكذا يزيح النسيان حتى آخره، باقياً الذاكرة نابضة، تهبه الحيرة و الضوء ومتعة
تعلقه بشغف اللون وحساسيته…. تلوح اللوحة عند خليل ، بإرثه وقلقه وفوضاه
المرتبة بجنون..يبهرنا وهويفضح الرؤى والرؤيا ،بشاعرية اللون وبشاشة السطوح .
إنه يرسم ظل الشعر من منبعه،حتى آخر طيوف الحداثة.
دفوف الصوفيين وهي ترن،بين أنامل المرأة الخضراء، يؤرّقها المعنى الباطني للون
وهي متوحدة مع وهج، الحالة التي يبنيها ويتلوها :
الأزرق… الجامح
الأصفر… المؤرِّق
الأخضر… اليائس
البني…الملوّن
الأسود … المضيئ
الفيروزي … الجارح
الأبيضُ…الحالمُ…الغارق ُ في توقِ ِالآيبينَ من الياسمين وهو حاملا ًلوعة أحبته للمطر.
بتلك المعاني يؤسّس فضاءاته المتخّيلة، صرامة ٌ في التشكيل عذوبة ٌ في الإضاءات،
يسكبها معا ً ، على سطوحه، وبمهارة المعماريّ، والملون، يقتنص الرماديّ ، من لون العتمة….!
يستخرج ُ من خاصرة الأحمر مصلا ً ، يزيح به شحوب َ تآ ليفه، حينما تعجز ُ الألوان الباردة عن أداء دور الحب في اللوحة،وحينما تبرعُ في الطرف الآخر منها ، برسم متاع الكردي، نجومه ، أغانيه ، ثيابه، رائحة تبغه ، بغاله، سير أبناء عمومته الضالين منهم والصالحين …
– قصص خيالاته وهو يؤسس، لمملكته القادمة متوشحةً بالأحمر، المتكئ على رهافة الأبيض
وهو يجرّها إلى سيرة الضوء، دون رفقة العتمة .
ليقول دمعه سراً لشخوصه:
أنا الملك .. دليلكم إلى ملذ ّات اللون-
فرحُ منارةٍ على درب يأسكم –
أرقُ فتات حبٍ خمدَ أواره عند وداعٍ ٍ أصفر-
أصابعي طيوف حنين ٍ،فرحي حطبُ مدافئكم-
إلتفتوا
 سأغيب
 وأنا الملكُ.
الملكُ …
 الملكْ
شتاء 2007
mahabecker67@hotmail.de

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…