ابراهيم محمود
قصيدة مصطفى درويش ” رثاء قلب ” والمنشورة في موقع ولاتي مه ، في ” 22 كانون الأول 206 “، تتعدى نطاق لسان قائلها، وقلبه، وذائقته كذلك، وأحسب أنها مؤهله لأن تنسَب إلى كل من يدرك أنه على حافة هاوية من فشل ما، من سقوط، أو وهو خارج من عالم من المكابدات والتنازعات والانهيارات القيمية، أو تأزمها الشديد والعاصف، ومشاهد الضحايا والجرحى والمنكوبين، ولهذا، وكونها قصيرة ” أقل من 130 كلمة “، تستحق أن تسمي حدودها في الشعر، ونسبها الشعري وانتشار صداها خارج إطار كلماتها، فيبقى القِصر رحباً .
بمزيد من الهدوء، بمزيد من ضبط الرؤية، بمزيد من التحرر من وعي الذات الشخصية، وبمزيد من تفعيل صداقة المتخيل الشعري، أمكن لمصطفى درويش، أن يكون مصطفى شعره، وليس درويشه، إن جاز التعبير.
ولا أعتقد أن ثمة عبارة قادرة أن تحل محل أخرى، أن تترجمها، أن تحضر بالنيابة عن خلافها، بقدر ما تكون معنية بخاصيتها الشعرية، أن تكون منزلاً مرئياً ومتخيلاً في بيت الشعر العالي، ولقد اجتذبني هذا الانفتاح الرؤيوي إلى الداخل المفتوح للمنثور في الفسحة البيضاء ” الالكترونية “، ووجدتني خلَل هذا السطور، مفصحاً عن رؤية نقدية خاطفة، تعبيراً عن مصافحة ليد الشعر الطولى في بنية القصيدة القصيرة الوثيرة، وجواز وجودها بوجود المعزَّز بها:
كجنديٍّ كاد يكون شهيداً بخطوة
و لوحةٍ مهشّمة
ثملٌ أنا، أحمل قلبي بين يدي
أصفعهُ كمن يصفع طفلاً عاقّاً
أركلهُ حجرةً حين ضجر
القلبُ بعد الحبّ
مدينةُ حربٍ
نحتاجُ عمراً لترميمه
Weke leşkerekî bi gavekî nêzîkî ku bibe pakrewan
Û tabloyek perçiqî
Serxweşim ez, di nav destên xwe de radihêjim dilê xwe
Wî sîl dikim weke yek sîlekê li zarokekî bê cir xîne
Bi pîndikim bereke dema ku dil
Toq dibe
Dil piştî hezkirinê
Şarekê şere
Hewcedarî temenekiye bu saxkirinê *
مقطع أول من مقطعين، هو الأقصر، لكنه مكتف ٍ بذاته، كما لو أنه كتِب بداية، ليعرف بذاته، حيث لا شطر يتكرر في تاليه، لا شطر يشرح سابقه أو يلحق به كمقطورة تثقل على محفّز المعنى فيه، إذ ماالذي يصل ” الموصوف بالجندي وما يليه في الشطر” بالشطر اللاحق “ولوحة مهشمة “؟ سوى علاقة مفتوحة، وما الذي يصل الشطر الثالث بتاليه أو سابقه، والذي يقرّبنا من صورة الشاعر وكشاعر، وقد تمشهد في قلب محمول بين يديه؟ وهكذا الحال مع الأشطر الأخرى: إن صفْع القلب باعتباره طفلاً عاقاً، حصاد خيال طليق، ذائقة جمالية مؤممة من التأطير، فالصفع مؤذ، وصادم، ويضعنا في حقل الضارب والمضروب، ولكنه لحظة انتقاله إلى المحدّد بالصفع” المصفوع “: الطفل العاق، ندرك في الحال ما ليس في الحسبان:تألمنا الذاتي، لأن الطفل أقرب كائن إلينا ببراءته، وعقوقه ليس عقوق الكبير: تمرده، شقاوته، لأن صفعه يتضمن حباً وحرصاً، وبالتالي، فإن الصفع يتجرد من اللؤم، الكراهية، الحقد، العداء بالنسبة للحالة الأولى. إذاً ثمة رعب في الداخل والجوار !
ذلك ما يمكن متابعته، معايشته في خاصية القلب ومأساته، واعتباره هو الآخر مدينة، ودمار المدينة، وما يمضي بنا إلى الخارج الفسيح والمنكود معاً، وثمة تسفير علاقة تبادلية بين الصفع باليد، والركل بالرجل، وتدنّي مستوى الحسية، أو الحرارة وقد تشيأن ” في حجريته “، وما يعنيه ذلك من عطب العالم المأمول، من فقد روح التواصل مع الوجود.
ومن الداخل، وما يعنيه الذاتي من علاقة قائمة مع الخارج، إلى رحابة المرئي، ثمة إقرار وقرار:
أوقفوا هذا المطر
إلجموا الهدوء
توسّلوا الليل ألّا يأتي
أوقفوا الموسيقى الهادئة
استبدلوها بأغاني الكراجات
انشروا الضجيج أينما كان
ولا تقرأوا أمامي قصيدة
امسحوا وجه الخريف الحزين
اجمعوا كلّ أوراقه الملهمة
اشتروا للقمر عباءةً تُخفي عورته
دعوا اليوم أن يئد فجره
فأنا تعبت أن أكون شاعراً
تعبتُ من شرب فيروز قهوةً
و أغفو بمسكّنات الثمالة
مللتُ جمع دمعي في حصّالة
الحزن
و مللتُ وجهيَ المزدحم
ليصمت هذا العالم
و ليتوقف نبض قلبي
فقد تعبت أن أكون شاعراً.
تُرى ما الذي يشد هذا المقطع إلى الآخر، وهو ليس الآخر؟ إنه شعره، إنه امتداده وتحولات القيمة الوجدانية، ومن ثم وطأة المعاش تلك التي أفصحت عن خيبة القائم، وصدمة المتوقع فكان هذا التوقيف المفعم بالإنارة:
أوقفوا هذا المطر- ألجموا الهدوء – توسَّلوا الليل ألا يأتي- أوقفوا الموسيقى الهادئة- استبدلوها بأغاني الكراجات…الخ.
لقد تقصدت إيراد هذه العبارات، لأمر يعني النقد المتفاعل مع الشعر، وما يكونه وضع العبارة الشعرية في سياق القصيدة، غيره في وضعية المفرد، أو بغية النظر، فثمة مجال للتركيز واستشراف المغيَّب والشفاف والمتدفق بالمعنى.
أي مطر هذا الذي يلزَم بتوقيفه؟ أي خصب يراد تنحيته جانباً؟ ورنين ” الهدوء ” المشكوك في أمره ” إلجامه “، وهو فائق التعبير والتدبير في الذائقة الفنية، لأن هناك من يتحركون على غير هدى، أو أسلسوا القياد لعواطفهم، وهم متصدعون من الداخل، أو أن الخارج يتطلب مكاشفة أو كشف حساب من نوع آخر، وما يكونه هدوء الموسيقى غير الهدوء الملجوم، فلكل شطر خط تحركه، ومردوده الجمالي والدلالي بالمقابل.
ويمكن المضي إلى النهاية المفتوحة للقصيدة الجامحة والفاضحة لعالم مرصود على حافة هاوية تتهدد الجميع، والشاعر المسكون بكل من الخراب ونقيضه، أَولى بإطلاق أسمائه على الوجود وأشيائه، وحتى كائناته، كما لو أن إنباءه عن الكف في أن يكون شاعراً هو الحد الأقصى من التعبير عن وضع لم يعد ممكناً التنافس فيه، كما لو أنه في بضع كلمات، أودع عالماً بكامله، عالمنا المهدور المعنى، هذا المصاغ قصيدة، وهو سفْر رؤيا في المكان والزمان المعلومين.
أحسب هنا أن الشاعر لم يقدّم استقالته من عالم الأشياء والبشر والكائنات والجمادات، وإنما أنذر المعنيين بالخراب الدائر، وربما هو من بين هؤلاء، وأقرّ بواقعة إيلامية، وهو نفسه منقسم على نفسه: إزاء جسده، قلبه في الواجهة، وجهه المرئي الذي لا يُنظَر فيه جرّاء وخامة المتحرك: مرآة العالم الصدئة، وربما أيضاً وأيضاً، أنه لا يستحق القلب المسمَّى، لأنه فقد القدرة على أن يكون مواطنه، حامله، المأهول بفضائه المهيب، وهو رثَّاؤه، وقلب الشاعر دليله الوضاح، لعله من باب إقامة الحجْر الصحّي على الذات، وإراحة قلبه، إلى إشعار آخر.
* * * * * *
*- آثرت ترجمة هذا المقطع في محاولة للمقارنة، حيث تركته دون تعليق، تأكيداً على أن روح المتخيل الشعري منتقلة بالمقابل، وهو خير شاهد على أن الشعر الجميل قادر على اصطحاب صفته ” الجميل ” معه، وإن انتقل إلى لغة أخرى، شريطة معايشة الحالتين بسوية مطلوبة.
دهوك، في 28 كانون الأول 206