وداعاً يا أمّي الأخرى، وليس حماتي

 ابراهيم محمود
اليوم، صباحاً، أعلِمت، وأنا في دهوك، أن أمي الأخرى، قد توفيت في قامشلو” في 28 -1-2017 “. لقد رحلت أمي الأولى: والدتي، قبل سنوات، ولكم كنت أتلمس في أمّي الباقية الأخرى مؤاساة وحضناً دافئاً. إذ خلاف المتردد كثيراً عن الحساسية التاريخية القائمة بين المعتبَرة ” حماة ” وصهرها، أو بالعكس، لم أستشعر يوماً بهذه الحساسية، بالعكس، كان مجرد التذكير بذلك، يعزّز في داخلي شعوراً بالثراء الروحي، فأمي هذه، والتي رحلت أبدياً هذا الصباح، وهبتني ما لا يمكنني وصفه: زوجة: شريكة حياة، ما تمكنت من بنائه بالحرف، ومنذ أربعة عقود، حيث أعجز عن حقيقة شعوري الروحي إزاءها، إذ لولاها، ما أظنني تمكنت من مواجهة كل هذه الضراوة الحياتية، وأنا في معمعان الكتابة وحرقة الكتابة، ومواجع الكتابة.
لله درك يا أمي الأخرى، لكم كنت رائعة بقلبك الذي تلمسته في كل ما هو دافىء، وسلس، وعطر، وشفاف، لكم لكنتِ عظيمة بأمّيتك التي منحتني الكثير من المدد الروحي وبلاغة الحيالة الفائقة الوصف وحكمة التحدي للصعاب، والثراء الداخلي، ثراء، كانت ابنتك: زوجتي هي الشاهدة على كل ذلك. لله درك لكم كنت مفعمة بالتفاني، بالطيب حتى آخر لحظة من حياتك، وأنا أسمع صوتك، وقد قبّلت يدك ” وجهاً وقفا قبل أسبوعين “، وأنت مريضة، كما لو أنها القبلة الأخيرة التي بثّت في داخلي زخماً حياتياً، لا يحاط إنسانيته.
لكم كنت الأثيرة والمنيرة كاسمك ” نورا “، وكنت نوراً على مدى سنّي عمرك المتخم بالمعاناة، كأي أم موهوبة للعطاء وليس للأخذ، نور خلل غضون جبهتك العريضة، خلل خديك اللذين احتفظا بمرجعية نور حتى اللحظة الأخيرة، خلل الرجفة التي كانت تتملك شفتيك وأنت تحاولين إرفاق كلمة تتفوهين بها بعسر، لتطمئننا أن كل شيء على ما يرام، نور في قوامك، وقد شابك هلالاً، في التجاعيد التي استوطنت كفيك كما لو أن النور استعصى عليه فراق اليد المباركة.
وداعاً يا أمي الأخرى، وليس حماتي، أقولها بعسر، ليس لأنني أعجز عن التفوه بالكلمة هذه، وإنما لأنني أحسك بين جنبي، وأن هذه اللحظة الطاعنة في خاصرة الزمن، لا يؤخَذ بها بسهولة.
رحلت رحيلك الأبدي، كما رحلت أمي الأولى رحيلها الأبدي، لأشعرني وقد امتد بي العمر أكثر وأكثر، رغم أننا حاولت المكابرة وحصر الدموع: دموع ابن آخر يبكي أماً له ليست كأي أم في المقام المحمود والسالف الذكر، وأنا أواسي زوجتي، وحولنا من تبقَّوا من أولادنا، ونحن نستشعر غربة تضفي على رحيل من نحب مرارة أخرى، لسعة ملح حارة في جرح نزيل غربة، لا يندمل، كما لو أن هذا الرحيل القاسي أشعرنا أننا في مهب مفاجآت، ومنذ سنين، تلد الواحدة الأخرى، كما يلد الحزن غماً وهماً وشعوراً بالعجز، شعوراً بوطأة السنين المضاعفة، بالوحدة النافذة ببرودتها القطبية في نياط القلب، بخلل يستنفر احتياطي الروح في وضع استثنائي كهذا.
اغفري عقوقي لأنني بعيد عنك، عن لحظة رحيلك النهائية، اغفري لعجزي عن وداعك المباشر، عن مجيئي إليك، وأنت محمولة إلى مقامك الأخير في هذا اليوم العاصف !
اغفري عقوقي إن وجِد، وليس لدي سوى هذه الأضمومة من الكلمات  شهادة ضعيفة لي على مدى اعتزازي بأمومتك المسماة، شهادة لا أملك سواها، ليتك تقبلينها، وأنت هناك هناك.
وداعاً يا أمي العزيزة الأخرى، وداعاً ليدك التي لطالما منحتني قوة شبابية متجددة، لابتسامتك التي لم تشبها شائبة، لكل ما تفوهت به بلسمياً، وداعاً لجسدك الميمون، لاسمك الذي سيبقى معانقاً مرافقاً لنا بنوره في ليلنا الطويل الطويييييل.
دهوك، في 28-1-2017 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

إلى أخي آزاد؛ سيد العبث الجميل

في مدينة قامشلو، تلك المدينة التي يحل فيها الغبار ضيفاً دائم الإقامة، وحيث الحمير تعرف مواعيد الصلاة أكثر من بعض البشر، وبدأت الهواتف المحمولة بالزحف إلى المدينة، بعد أن كانت تُعامل ككائنات فضائية تحتاج إلى تأشيرة دخول، قرر آزاد، المعروف بين أصدقائه بالمزاج الشقي، أن يعبث قليلاً ويترك بصمة…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يُعْتَبَر عَالِمُ الاجتماعِ الألمانيُّ ماكس فيبر ( 1864 _ 1920 ) أحَدَ الآباءِ المُؤسِّسين لِعِلْمِ الاجتماعِ الحَديثِ . وَقَدْ سَاهَمَ بشكلٍ فَعَّالٍ في دِرَاسَةِ الفِعْلِ الاجتماعيِّ ، وتأويلِه بشكلٍ مَنْطقيٍّ وَعَقْلانيٍّ ، وتَفسيرِه بطريقةٍ قائمة عَلى رَبْطِ الأسبابِ بالمُسَبِّبَاتِ .

عَرَّفَ فيبر الفِعْلَ الاجتماعيَّ بأنَّهُ صُورةُ السُّلوكِ الإنسانيِّ الذي يَشْتمل…

سيماف خالد محمد

أغلب الناس يخافون مرور الأيام، يخشون أن تتساقط أعمارهم من بين أصابعهم كالرمل، فيخفون سنواتهم أو يصغّرون أنفسهم حين يُسألون عن أعمارهم.

أما أنا فأترك الأيام تركض بي كما تشاء، تمضي وتتركني على حافة العمر وإن سألني أحد عن عمري أخبره بالحقيقة، وربما أزيد على نفسي عاماً أو عامين كأنني أفتح نافذة…

ابراهيم البليهي

منذ أكثر من قرنين؛ جرى ويجري تجهيلٌ للأجيال في العالم الإسلامي؛ فيتكرر القول بأننا نحن العرب والمسلمين؛ قد تخلَّفنا وتراجعنا عن عَظَمَةِ أسلافنا وهذا القول خادع، ومضلل، وغير حقيقي، ولا موضوعي، ويتنافى مع حقائق التاريخ، ويتجاهل التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة الإنسانية فقد تغيرت مكَوِّنات، ومقومات، وعناصر الحضارة؛ فالحضارة في العصر الحديث؛ قد غيَّرت…