وليد حاج عبدالقادر / دبي
لعلني لن أكون مجازفا في ادعائي بأن هذا القص ليس سوى ملامح لنص مؤسطر تتقاطع بقوة من خلال تجميع لنصوص عديدة وهذا القص الملحمي الذي يرتقي في قدمه وليتموضع بين الملاحم العظيمة التي صفيت لها الفكر البشري وتراكمت منها وعليها حكايا وعبر تختزل القيمة بمدلولاتها المتعددة فتنتشي حينا حبا وحينا غدرا ولتلتقي من جديد تلملم كم أوجاعها فتفرز تلك المادة الهلامية تسطر بها أسطورتها بقيمها المتسلسلة وتتقاطع لابل ربما تلتحم مندمجة مع بقايا أقدم أو مستحدث ولكنها : في المحصلة تحمي جينة ديمومتها كنسغ حقيقي لقيم بشرية تقمصت روحية أنصاف هلام / بشرية وتشي بحقائقية كونها تتقمص نزوعية مافوق بشرية اتسمت بآلهة أو أبناء ولربما أجيال تناسلت من صلب أجداد / آلهة تتدرج لتصل الى أس الكون والحياة والجيل – النسق الأول من الآلهة الآباء وأعني بهما آبسو الأب السماء وتامات الأم / الأرض .
هذه القيم بأقاصيصها وسرياليتها التي أوجدت لها منفذا متدفقا تلتف أو التفت على المحظورات التي تموضعت كنتاج لتوارد أطر لمعتقدات وثقافات أخرى كانت أهمها الديانات التوحيدية ولتتحول تلكم السرياليات الى قصص لأبطال شجعان وبموصوفات خارقة من جهة أو أولياء صالحين كانوا أسبغت عليهم نوع آخر من الطوباوية المقدسة . ومن هنا ومن خلال هذا العرض المكثف أقر : بأن هذا النص الذي أخذ مني جهدا غير مزعوم تجاوز أكثر من عشرين سنة ، وأسئلة واستفسارات وتواصل مع عديدين ونداءات على وسائط التواصل الإجتماعي في العودة الى استذكار وتنشيط الذاكرة التي وهنت وموضوعة قصة – هش مراري – التي كانت جدتي لأمي المتوفاة منذ أكثر من خمسين سنة ـ 1965 ـ والتي لازالت بعض من نبرات صوتها تضج في مخيلتي وهي تروي لنا حكاية أو قصة ولربما – سريليا هش مراري _ التي شذبت دينيا واندمجت في سياقية ـ يي ش مه جيتر ـ أي المفضلون على بني الإنسان والتي تتموصف فيها أو بها فئة الجان .. هذه القصة ـ السيرة ـ الملحمة وكعادتها في الإرث الرافدي تصر أن تتمظهر أيضا بنزعتيه الذكورية والأنثوية ولكن من جديد كل بوصفتيه الخاصيتين بهما في النسخة الذكورية منها والمجسدة بالإسم أيضا ككلمتين أراهما مدمجتين تحملان معنيين متناقضين كركيزة لعصارة الفكر البشري في ميزوبوتاميا التي ابتدأت من لحظة انفصال الإنسان عن الطبيعة ومن ثم استغلاله لها والتحكم بها وأعني من جديد ـ هش = الوعي والحياة ومراري = الإختناق والموت في النص الذكوري يقابله في النص الإنثوي قصة أو سيرة ـ قازي أو كجا طير أو طيرك وإن كان الأبطال أو الشخوص في الحالتين هم من علية القوم / البشر / في القصتين إبن ملك وحيد / والفتيات في الحالتين من العامة أو غير مشهورات وإن كانت الجمال في الحالتين خاصة للمرأة هي عنوان تبلور وتشكل الروحية الحركية في متن الأحداث .. والآن : إلى أحداث القصة بعد إجراء التقاص والتقاطع مع النسق المحكي ومن عدة مناطق بدءا من بوطان المدينة والتي كانت سياقية الأحداث أنقاها لغة وتماسكا في الأحداث ومن ثم النسق الكوجري وعدة أنساق أخرى ومجتزءات تداخلت مع أنساق لقصص وحكايا أخرى وهنا لابد لي من الإعتذار مسبقا من الذين أرسلوا لي الحكاية إذا ما لاحظوا غياب أو استبعاد بعض من تفاصيلهم وتركيزي على المتشاركات عساها تضيء أو تقدم مبحثا يمكن من خلالها تتبع هذه الحكاية والتي ترتقي ، لابل وتصرح عن ذاتها بأنها ليست سوى النسخة الكوردية من أسطورة إينانا ودوموزي .. تقول الحكاية : كان لأب ثلاثة فتيات الكبرى والوسطى أمهما موجودة والصغرى لا أم لها ـ كل الأنساق لا تحدد أو تحكي أي شيء عن ام الصغيرة ـ وفي يوم من الأيام يقرر الأب أن يتوجه الى ـ الأعالي / وي ب بانيڤا هري / حسب رواية منطقة بوطان ـ وحسب الأنساق الأخرى يسافر لقضاء أعمال فسأل بناته الثلاث كل عما ترغب ليجلبها لهم فأخذت الكبيرة والوسطى كل تطلب ما تشتهي من أشياء وألعاب وثياب وما شابه سواها الصغيرة التي ترجت أباها أن يمهلها لصباح الغد حتى تستشير ـ حكيمها ـ وهنا يمكن التوقع أن يكون ملا مثلا أو ـ سيد ـ أو سادن معبد وربما كاهن أو حتى إله مجسد بتمثال ـ حيث تتقصده الفتاة التي ما أن تشرح له الوضع حتى يقول لها بأن تطلب من والدها ليجلب لها _ هش مراري ـ وإن لم يلب وصيتها فأن الأرض ستنشق أمامه بنهر كبير ـ رواية بوطان كونها على شط دجلة ـ والروايات الأخرى ـ بحر كبير ولن يتمكن من عبورها والعودة ، أسرعت الفتاة الى أبيها وأبلغته بطلبها وانطلق الأب وما أن أنجز عمله حتى بدأ في شراء ما أوصته ابنتاه ونسي الصغيرة وحاجتها وانطلق في العودة ولينشق أمامه نهر / بحر كبير ولتوه تذكر وصية ابنته فقفل راجعا الى المكان وأخذ يسأل الناس عن وصية ابنته ودله بعضهم على قصر أو قلعة ـ وربما تكون معبدا أيضا ـ ل ـ قرالي كاورا ـ وبعضهم يقول ملك الجان ، حيث سيمكنه من الحصول على طلبه . وبالفعل انطلق الى الموقع وانتظر كثيرا الى أن لاحظه بعض من الخدم فتقدموا منه يسألونه عن حاجته وكشف عن حاجته ولينزل إليه الملك والد هش مراري الذي ما أن عرف حاجته حتى طلب منه أن يذهب الى السوق ويجلب إناءا من اللبن الناصع وحبة تفاح حمراء ناصعة وبعض من حبات الرشاد الأسود ـ رش رشوك ـ وما أن عاد الأب إليه بتلك الأشياء حتى سأله الملك تحت القسم إن كانت ابنته بيضاء ناصعة مثل اللبن أجاب الأب نعم وخدودها حمراء متماسكة مثل هذا التفاحة أجاب بنعم وعيونها سوداء مثل سواد هذه الحبات أجاب الأب نعم فقال له الملك : عد الى ديارك وجهز هناك غرفة بطاقة وسيكون هش مراري هناك ذات ليلة الجمعة ، وبالفعل عاد الأب ورتب بيتا مثلما أوصي به لإبنته وكانت ليلة الجمعة والطاقة قد دخل منها هش مراري كالطائر وناما كعروسين وفي الصباح ودعها وانطلق وتكرر قدومه على هذا المنوال وذات يوم سألها والدها يستفسر إن كان هش مراري يعطيها هدايا أو أموال أو أي شيء ؟ أجابت بلا ، طلب منها والدها أن تفاتحه وبالفعل سألته وليستغرب هو أيضا وسألها ألا تبحثين تحت الفراش كل يوم ؟ قالت لا .. سألها إذن من الذي يرتب لك الغرفة قالت : أختي الإثنتين .. قال : كل يوم أضع لك تحت الفراش منديلا مملوءا بالذهب .. وبالفعل أخذت هي من ترتب فراشها كل يوم وتأخذ المنديل المملوء بالذهب فاغتاظت الأختان كثيرا وفاتحتا أمهما التي أشارت عليهما بأن يخرجن جميعا الى النهر فتشاغلها هي وتعودان هما الى غرفتها وقد هيمن عليهما فكر شيطاني فتصنعان طوقا على مقاس الطاقة وتغرزان فيها مسامير وقطع من زجاج حاد وتثبتانه على الطاقة وفي الليل حينما اندفع هيش مراري ليدخل اصطدم جسمه بتلك الطاقة ولتنغرز تلك الأجزاء بقوة في كافة انحاء جسده فيعود بالقهقرى الى قلعة والده وبدا كأنه ميت منذ أزمان سحيقة .. كان وقع الضربة كافيا لتسمع هي أيضا صداها وما أن خرجت ولاحظت بقع الدم والطوق حتى فهمت بالذي جرى ، وهنا أيضا نرى مسارين أو نسقين واحدهما يقول بأنها استشارت أيضا ـ سيدها ـ الملا ـ الكاهن ـ سادن المعبد ومنهم من يقول بأنها هجت لا تدري على أي شيء وهي تنحو للوصول الى قلعة والد هش مراري .. وحسب الرواية الأكثر توقعا يطلب منها سيدها / كاهنها بأن تلنتعل نعلا من الفولاذ الخالص وكوبال / عصا أيضا من نفس المعدن وأن تنطلق في سيرها إلى أن يذوب أرضية نعلها الحديدي وعصاها يتصدأ حينها سيفرج لها عن همها ، والرواية الأخرى تقول : بأنها هامت لا تدري على شيء إلى أن وهنت ونامت تحت شجرة ومع شروق الشمس حط رف من العصافير مكون من أم وأب وعدة فراخ وأخذوا يزقزقون فيما بينهم وهي تفهم كل حرف ينطقونه والصغار يسألون الأم عن المرأة النائمة ومشكلتها فشرحت العصفورة لهم عن مصيبتها وكيف أن أختاها غدرتا بها وزوجها بين الحي والميت وهي تستطيع أن تنقذه فيما إذا انتعلت نعلا من الفولاذ واستندت على كوبال من نفس المعدن والى أن يذوب أرضية الحذاء ويتصدأ الكوبال فحينها سيكون من الممكن أن تحصل على الدواء .. عادت المرأة الى بيتها وعملت بالنصيحة وتزودت بالمؤونة وانطلقت باتجاه غير محدد ومع الأيام التي طالت بها وبينما كانت تعبر مرجا من العشب يغطيها الندى والشمس قاب قوسين من أن يغيب أحست وكأن أقدامها غطست أو لامست ماءا .. تأملت نعليها و .. بان التشقق عليهما ، لاحظت كهفا فتقدمت صوبها وهي تنوي أن تقضي ليلتها خوفا من أي حيوان شارد ومع تقدمها جاءها صوت من الداخل يقول : أنني أسمع صوت أقدام وأشم رائحة آدمية وأصوات لصغار يردون عليها : لا يستحيل يا أمنا أن يستطيع آدمي الوصول الى هنا .. لا تتهربي .. أكملي قصة هشمراري .. كاد الهلع أن يفتك بالمرأة المسكينة ومع هذا توارت عنهم وأخذت تصوغ السمع بدقة .وعلمت بأن تلك المرأة ليست سوى ـ بيرا مروف خور وجيليكي وينه – المرأة الشريرة آكلة لحوم البشر وفراخها .. قالت العجوز تخاطب فراخها : هش مراري مطروح في قصر والده وزوجته تبحث له عن الدواء ودواؤه هو فقط صدري اليمين هذا من يستطيع أن يقطعها من دون أن أحس وهذا يعني بأن أكون نائمة ومن ثم ينظفها ويزيح عنها الجلد ويفرمها ويعرضها للشمس ومن ثم يقليها مع دهن مكثف الى أن تتفحم ومن جديد يغطيها بدهن كثيف وتأخذ معها عيدان من ال _ دندفريش _ ويذهب الى هش مراري ويقوم بتنظيف الجروح بماء حار وبالعيدان يضع الدواء على الجراح لمدة اسبوع أو أكثر فسيشفى هش مراري ويعود أحسن من الأول .. و .. نامت العجوز مع فراخها ولتنهض هي من مخبئها وتذهب اليها وبخنجر حاد تقطع صدرها اليمين ـ ولا أية رواية تذكر مصدر الخنجر ـ وتنطلق ـ في رواية أخرى ـ يقال بأنها تقتل العجوز وفراخها ـ ومن ثم تقوم بتنفيذ كلام العجوز بالحرف فتصل الى أطارف قرية وتترجى صاحب بيت أن يمنحها ـ سكينا لتقطع بها لحما تصنع منه زوادة ـ يلاحظ غياب الخنجر ـ فيناولها صاحب البيت سكينا وتقوم هي بتقطيع الصدر وتفرمها فرما ومن ثم تنظفها ومن جديد تترجى صاحب البيت أن يمنحها قليلا من الدهن فيلبي طلبها وتقوم بتحميص اللحم إلى أن يقترب من التفحم وتطلب دهنا إضافيا تغطي به والرجل لا يقصر معها وتنطلق الى حيث مدينة والد هش مراري وقبل دخول المدينة تتنكر بزي راع أقرع ـ كوري / كجل ـ وما أن دخلت المدينة حتى أخذت تلف حول القصر وتدور وهي تصرخ بأنها حكيمة تداوي الجروح والإلتهابات والأمراض المستعصية فيسمع الغلمان صوتها وينادونها فتدخل البيت والغرفة التي يتمدد فيها هش مراري وهو كالميت منذ عهود .. تأملته وجراحه التي قاربت من التعفن وقالت : أستطيع أن أشفيه فقط إمنحوني عشرة أيام والآن لتساعدوني حتى أغسل جراحه بماء حار ، وبعد الحمام أخذت تنظف مكامن الجروح بعود وبآخر تداويها وهكذا الى اليوم العاشر حيث فتح هش مراري عينيه وبدت منه صوت آهة فهرعت هي الى حيث والده الملك يجلس تبشره بأن ولده قد شفي .. وما أن دخل الأب على ولده ورآه بحالته الجديدة سألها أن تختار أي شيء مهما ندر أو غلي ثمنه قالت له : أريد أمرين .. لباسه الملطخة بدماءه ووعدا منكم أن تمنحوا الأما لمن يطلبها محتميا بي أنا طبيب هش مراري وأن تعفووا عنه مهما بلغت فداحة ذنوبه فوعدوها وانطلقت هي عائدة الى دارها ومن ثم نظفت البيت والطاقة وتجهزت لقدوم هش مراري وهو ما أن استعاد عافيته وقوته حتى صمم على أن ينتقم منها لغدرها وسعيها للفتك به وبأبشع طريقة .. وبالفعل ما أن خيم الظلام حتى كان قد عبر الطاقة واقفا أمامها وهو يشهر سيفه في وجهها فصرخت طالبة بحق الأمان الذي وهبوه للطبيب الذي عالجه و .. ارتخت يداه والسيف مال صوب الأرض وهي تقدمت منه وفتحت الكيس الذي فيه ثيابه المدماة وقالت : أنا طبيبتك ولست قاتلتك أما من فعل ذلك فهما أختاي ولينطلق بها الى حيث قلعة أبيه وما أن دخلا القلعة ولمحها والد هش مراري حتى جن جنونه وهم أن يقتلها وهو يلوم ابنه كيف ذهب الى هذه الغدارة فصاحت فيه تحتمي بالطبيبة ورمت الثياب المدماة أيضا بالأرض وحكت لعمها القصة وليأمر الأب حاشيته في الإستعداد لعرس ملكي كبير لإبنه وعروسته ….. ولتنتهي القصة هنا والتي في محتواها تشي بكثير من التقاطعات في قصة الحياة والموت أو الصعود الى العالم السفلي وصراع إينانا وأختها أرشكيجال إلهة العالم السفلي والذي سنرى لاحقا في قصة ـ قازي ـ أو ـ كجكا طير ـ واختلاف المعادلة بشكل آخر حينما تكون الفتاة متحكمة بطاقية التنكر ـ قالك ـ لتبدو كالطائر ….
********
* مقطع من كتابي قيد الإنجاز بعنوان ملامح ميثولوجية .. وجهة نظر في الذهنية التراثية الأسطورية الكردية