ماجد ع محمد
“إن الشّعر يُقوّم الخطأ، ويُحرك السماء والأرض، الأرواح والآلهة”
كونفوشيوس
بناءً على ما أشار إليه كونفوشيوس في شذرته المدونة أعلاه، ووفقاً لمصادر العصور الصينيّة القديمة، يُقال بأن المعلّم الحكيم كونفوشيوس كان قد خصّص بعض حياته لتدريب مجموعةٍ من الأتباع على فنّ حكم البلاد وحكم الذات، وهو ما يستدعي الوقوف ملياً عند تجربته التي يتوق المواطن السوري الى محاكاتها منذ سنوات، استناداً إلى روحية ما يماثل تلك الشعائر والحسّ الإنساني ذاك، وباعتبار أن بلادنا هي الآن مبتلة بغُزاة الفكر الظلامي فهي أحوج ما تكون الى دررِ حكماء مثل كونفوشيوس يقودونها من خلال أفكارهم المستنيرة الى بر الأمان بعد أن هتكت الحرب يومياتهم وسمّم جحيم التطرف حياتهم،
ولأن الشّعر يقوّم الخطأ حسب كونفوشيوس نعود في زمن الحرب الى قراءة ما يتعلق بأشعار السوريين المنشورة ما قبل الثورة، لعلنا نستشف من خلال المدونات ما يُصلّح أخطاءنا وما قد يُستضاء به لأيامنا الكالحة هذه، لذا سنعود معكم الى مناخ الاجحاف بحق بعض الشعراء الذين لم يحظوا بمقعدٍ ما في أنطولوجيا الشعر السوري التي صدرت عن «احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية عام 2008».
وبما أن ذلك العمل الأنطولوجي لم يخلو وقت ظهوره من المآخذ عليه، لذا لن تكون مادتنا هذه أيضاً خالية من أثر الشكوى، ولعل ما يقوله الشاعر الفرنسي ألفريد دي موسيه في إحدى لياليه: بأن في الشكوى لتعزية وسلوى. يصح قوله هنا بامتياز، لئن في البوحِ الشاكي ثمة ما يحض المرء على الترويح عن نفسه من خلال التذمر والمجاهرة بالرفض لما هو قائم، ولعل الصيغة تلك مواءمة لما نحن بصدده وتتفق مع ما قاله الدكتور أحمد برقاوي يوماً في زاويته الاسبوعية في جريدة الثورة السورية الصادرة بتاريخ 19/5/2009 وذلك عن جمالية الشعور باللاء ورفض النعم الدالة على الهزيمة والخضوع، باعتبار أن نمط الموسيقى اللائية لا تزال غير مرُحب في ديارنا، لهذا فقد ضاق في حينه صدر الجهة المعنية بالأنطولوجيا من تصاعدية أنغام الشكاوي وتزاحم الغيوم العابسة في سمائها، ولما احتوته السُحب من أعدادٍ هائلة من اللاءات.
إذ يبقى الاحتفاظ بمفردات السُخطِ أجدى أحياناً من الركون النهائي والقبول بالأمر القواقع، والاكتفاء برشق التساؤلات ربما يكون أشرح نفسياً من الخضوع ليقينٍ مُر، بما أن في الاتهام يبقى المجال مفتوحاً للتخلص من آثار الشعور بالخيبة والخذلان، أما في حال وُضِعَ حدٌ للسجال من خلال الجدال من غير ايجاد منافذ تتدفق منها الآمال، فمعناه السعي بعينه على طمر الجمرات وهي ملتهبة، وبالتالي كتم أنفاسها من خلال طمي الملف أمام المشتكي وهو في أوج اندلاعه، وهو ما سعت إليه الحلقة المخصصة لأنطولوجيا الشعر السوري عقب صدورها ضمن برنامج هوامش ثقافية على فضائية النظام السوري آنذاك، وذلك لخنق الاحتجاج من خلال رغبة الجهات المهنية في إقفال باب النقد أو حتى الرغبة في النقد لاحقاً، لدى كل من طالته الخيبة ولدغته الهزيمة المعنوية بصدور تلك الأنطولوجيا من غير تضمينها ببعضٍ من نفحاتهم الشعرية.
ونذكر في هذا السياق أن ما جاء وقتها في برنامج الدكتور أحمد جاسم الحسين كان بمثابة شرخ إضافي لتصدعات المصدومين، وذلك من خلال صب ماء الحلقة تلك على الجذوع المشتعلة، علّها بتفحمها تغدو ذخيرة الشتاءات الأنطولوجية اللاحقة، وربما أدرك المتابعون آنذاك بأن لسان حالهم كان يقول: هذه اختياراتنا من المادة الشعرية لمأدبة عاصمة الثقافة، أو وهم قائلين: إما أن تقبلوا بطبختنا هذه وتهضمونها كما هي مقدمة إليكم أو تعرضوا عنها بسكوت، ليتم بذلك إغلاق باب الجدال، فلا تأمل مضاد، ولا رؤية مخالفة، ولا لاءٌ جميلة، بل قبولٌ على مضض واستسلام، وأراني لازلتُ متذكراً الايحاء اللا مفوه به من خلال صراحة معدة الجزء الرابع من الانطولوجيا، وأيضاً من خلال الدور التوفيقي للباحث ابراهيم محمود الذي كان خطابه في حينه شبه مواساتي وبدا تصالحياً من على الشاشة وقتها بالرغم مما يُعرف عن الباحث من الحدة في تناول أقرانه ونقده اللاذع لمنتجاتهم كتابياً، فهم حقيقةً وبعد مراجعة محتوى حلقة النقاش المتعلقة بالأنطولوجيا قد ذكروا مواطن القصور بداية وفي الوقت عينه سارعوا الى ايقاف المد النقدي، بل ورفعوا الحواجز أمام صعود موجات التذمر، قاصدين معاً من خلال الايحاء لكبح جماح تشطيحات الأقلام، وإطفاء جذوة التخييل لدى المحتجين، وذلك بقطع الطريق على المغبونين من خلال رمي نفس التساؤلات، تلك الاستفسارات التي كان المحتجون يرشقونها في كل الاتجاهات علّ ملفوظاتهم تجد لها مكاناً في فكر المعنيين عقب القصف، ليكفروا عن ذنوبهم لما اقترفوه نتيجة شعورهم بتأنيب الضمير، ومن ثم التفكير ريما بتعويض المتضررين، وباعتبار أن البعضَ ممن وضعتهم الانطولوجيا جانباً قد يكونوا ممن عبروا عن آلامهم في حضرة منفذي مهمة الجمع تلك، لذا فهم الأعلم ربما بما يدور من الحرقة في صدور المبعدين، ولعلههُ تقديراً لمشاعرهم تحدث الباحث ابراهيم محمود ما ود الكثيرون قوله ولكن مع الميل الى الاعتدال مع بخه رذاذاتٍ تومئ الى إعادة تشغيل الآمال المعطلة لدى من فاتهم القطار الانطولوجي، كقوله ليكن هنالك أكثر من أنطولوجيا شعرية، أو العمل على جعلها حجر أساس والانطلاق منها الى مشاريع أكثر اكتمالاً، باعتبار أن فضيلة اللاحق فضيلة اللاحق لن تلغي محاسن السابق، وذكرهم العثرات التي لحقت بالمركبة الانطولوجية، واختلاط الذائقة الشعرية بالذائقة المعيارية، من خلال إعطاء بعض الشعراء عشرات الصفحات فيما اقتصرت المساحة المسموحة لآخرين الى أربع صفحات، عدا عن الذين حُرموا كلياً من المكوث بين صفحاتها، فيما صراحة رشا عمران وردودها تالي صدور الأنطولوجيا، أودت بالرغبة الانتقادية لدى المتذمرين بقولها فليعتبروها محاولة ولينطلقوا منها الى أعمالٍ أرحب وأشمل، واعتبار المُنجز أرضية والانطلاقة منها الى ما يريدون، لعلها من خلال تلك التصريحات سارعت المُعدة للتخفيف من وطأة الهجوم على أقرانها في الإعداد، عموماً يبقى وجود الشيء أفضل بكثير من عدمه باعتبار أنها كانت أول أنطولوجيا شعرية سورية من مئة عام، لكن ولنفترض بأن مآخذ وإلتماسات المشتكين لقت من يأخذ بها بعدَ الإقرار علناً بأن هنالك من حُرم من الظهور على المنصة الانطولوجية بغير حق، وأنهم كالمسؤولين الغربيين انصاعوا لمطالب الشعراء الذين مر عليهم القطار الانطولوجي وهم مصطفين على قارعة الأمل، أو ممن مر عليهم الترين مرور الكرام، كالذين ذُكرت أسماءهم وحجبت قصائدهم، وفكروا بعد تقدير معاناة المتضررين بتعويض أولئك بعد إصابتهم بفيروس وخز الضمير من غزارة الحقنِ المتكرر من لدن المنتقدين، واعتقدوا بأن عليهم تصحيح أخطائهم المتعلقة بحبال الميل والهوى الذي لازمهم أثناء إعداد ذلك المشروع، فلجأوا الى ميزان إحقاق الحق ولو بعد حين، وكلفوا بعض المختصين بجمع نتاجات الذين تم نفيهم من الخارطة الشعرية، وارتأوا لأجل الحل إصدار جزءٍ خامس مكمل للأجزاء السابقة، واكن في حال إذا تم ذلك يوماً فمن سيتكفل بإعداده؟ حتى لا يقع الشاعر أو حتى المتلقي مجدداً تحت سطوة الذائقة الشخصية أو الايديولوجية، وماذا سيسمونه وقتئذٍ؟ الجزء المفقود أم الجزء المبتور أم الجزء الملحق أم الجزء المتمم؟ ولنفترض بأنهم ابتدعوا فتوى تنقذهم من هذه الحيرة، ولكن كيف سيجمعون وقتها رقاب المتنافرات؟ إذ منهم من كان عليه أن ينضم الى الجزء الثاني ليتسامر مع علي كنعان وممدوح عدوان، ومنهم من كان يحلو لهم الاطلالة من شُرفة الجزء الثالث مع دعد حداد ورياض صالح الحسين وإبراهيم الجرادي وسليم بركات وبندر عبدالحميد، ومنهم من كان يُفضل الإقامة في معسكر الجزء الرابع الشبيه بفيلق شعري، ناهك عمن لا يليق بهم المقام الا السكن في الدور الأول مع بدر الدين الحامد ووصفي القرنفلي وعمر أبو ريشة بكون القراءة تبقى مركزة في الجزء الأول، وسرعان ما تفتر همة القارئ الى أن يصل الى الجزء الأخير، هذا إذا ما ساعده نفسه الشعري وصبره وحسه التذوقي حتى يصل الى نهاية الفركونة الشعرية، وماهي الطريقة الأمثل لحل إشكالية الفروقات السنية أو الفنية فيما بينهم؟ وهل سيتم الاكتفاء آنئذٍ بنشر القصائد مع الأسماء والعمل على إبعاد تفاصيل حيواتهم والزمن الذي عايشوه بما أن كلَ واحدٍ منهم سيفصله عن زميله المفترض عشرات السنين؟ أم سيعمدوا الى إصدار جزء خامس “على البيعة” على غرار ما تفعله دور النشر التجارية؟ كأن تنشر مثلاً الأسماء والسَير بدون قصائد أو تنشر أشعار بعضهم بدون إرفاقها بأسماءِ أصحابها، ليظهر عندها الجزء المتمم بكامل عيوبه، حتى تقوم كتيبة الشعراء من جديد بجر اذيال الخيبة على طول السكة الانطولوجية، أو ربما يبقوا على حماستهم في رشق البيانات ويتمسكوا بحقوقهم الشعرية ولا يرفعوا شارة الاستسلامْ، بل يبقوا معتصمين بخيوط الأمل لعلّ وعسى أن يطل أحد الذين فازوا بمقعدٍ من الدرجة الأولى في القطار الانطولوجي برأسه من النافذة منادياً بأعلى صوته: انتظروا العام الفلاني بعد الثورة حتى تُصبح دمشق مجدداً عاصمةً للثقافة، عندها أعدكم بأن تكونوا في مقدمة الراكبين، ولكن بشرط أن لا تكفوا عن الصراخ الى ذلك الحين، وأمام محنة من تم نسفهم معنوياً ليس بوسعنا إلا أن نذكرهم بقول الامام الشافعي وهو يقول:
وفي السماء نجومٌ لا عداد لها وليس يُكسفُ إلا الشمس والقمرُ
غافلين عن عمدٍ السطر الذي قبله، لقناعتنا بأن معظم من ضمهم السِفر الانطولوجي جديرون بمكانتهم، أما الذين أزاحوا غيرهم واحتلوا آنذاك مواقعَ لم تكن لهم، من خلال العلاقة الشخصية أو الأيديولوجية مع المُعدين أو التوسط مع مَن كانوا مِن القائمين على المشروع برُمته، فنؤكد بأن لا ضير من وجودهم بين ظهراني أولئك الحقيقيين، بكون القدور دائماً ما تحتاجُ الى الأثافي، ولا يسعنا إلا أن نختم المقالة بما سيُطرب المغبونين وربما يُكهرب المزاحمين وذلك من خلال قصيدة الشاعر البلغاري فيسيلين خانتشيف لتذكير هذا المتطفل أو ذلك الوصولي الذي سيراوده يوماً شعور التباهي وهو يتمتم بتكبرٍ بين أقرانه قائلاً: ليس بمقدور أيِّ كان الجلوس في الإيوان الانطولوجي والنوم على صفحاتها المثيرة، وذلك بكونه استطاع أن الفوز برقعةٍ ما من مساحة المركبة الانطولوجية، ولكي لا يتمادى المعنيُ في تبختره ندعهُ مع قصيدة الشاعر حيث يقول: إياكَ أن تخدع نفسك، إياكَ أن تختال كالطاووس مدلاً بموهبتك، فقد تكون الأول بين الشعراء بعددِ النُسخِ التي يطبعونها لك من دواوينك، ولكنك قد تكون في الوقت نفسه صِفراً … في عالم الشِّعر!.