روايتي التي لم يقرأها أحد.. عن قامشلو وهي في مهب الكوردية المتطايرة

ابراهيم محمود
لن أكون ناقداً لروايتي ” لا قمامة في هذه المدينة ” الصادرة عن ” اتحاد الأدباء الكورد- أربيل، 2013 “، بقدر ما أكون قارئاً لجوانب حيَّة منها تتفاعل حتى الآن، ومن باب التأكيد على نقطة تأريخية، وكموقف من إشارات هنا وهناك تشير إلى أن الرواية ” كذا ” هي الأولى عن ” الثورة السورية ” ورياديتها، والتاريخ هو الحكم الفصل في ذلك . فروايتي تلك، والتي أنجِزت في عام 2012، ومن خلال مدينة غير مسمَّاة” هي قامشلو في الأصل، نموذجاً ” ، عما يجري، وعما سيجري، كما هو محتواها، كانت الأولى حسب معلوماتي، ولن أعلّق على السبب الذي أبقاها في العتمة، رغم أن هناك من حصل عليها باليد، وسواه بريدياً. وهأنذا أشير إلى نقاط منها، تفصح عما توقَّعته فيها وربما حتى في المستقبل المنظور. ولا بأس أن يتردد عنّي ما يتردد في مسلك كهذا، فالإجراء له منحى ثقافي، بعيداً عن كيل مديح، مكتفياً بمقتبسات غالباً تأكيداً لما توجَّهت ُ.
ما الذي دفع بي إلى هذا الإجراء؟ كما نوَّهت، فإن تاريخاً ما زال يتشكل في أكثر من منحى، ولكنه يتعرض لتلوينات مختلفة، ومنها الجانب الأدبي، والروائي بصورة رئيسة، وآمل ألا أكون الكاتب والناقد لروايتي في آن.
وحين أكلّف نفسي بهذه المهمة، فلخدمة حقيقة هذا التاريخ ذي الصلة بالزمان والمكان وتداعياتهما المتشظية، وكيف كان الناس مع بدأ انفجار الأحداث في المنطقة، وأبعادها في جهات شتى، ومنها المدينة التي أقيم فيها أساساً ” قامشلو “، أي طرق تفاعلات الناس من مستويات مختلفة وسلوكياتهم.
إن غاية ما أطمح له، كحق ثقافي لي، هو التنويه إلى الموقف مما كان يجري في بداياته الأولى بالنسبة لما جرى في سوريا، وكيفية تلقّي الكورد بأطيافهم المختلفة لذلك، ضمن موشور سياسي، إيديولوجي، ثقافي، نفسي وضمن مستويات، ولكم كتبت من مقالات في هذا الشأن، وبمزيد من التحفظ عما كان يجري، وما يمكن أن يحدث، وكيف سيتم التعامل مع هذه المتغيرات حتى في المستقبل المنظور، في نص روائي يرتكز إلى أصوات يمكن أن تعني جل الأصوات المتشابكة والمعروفة من كل مواقعها، وما يترتب على كل علاقة جانبية.
في الرواية، لم أبعِد نفسي، وباسمي المعروف” ابراهيم محمود، عن الرواية وحيثياتها، ولعله الاسم الوحيد الذي يمكن متابعته، أما الأسماء الأخرى، كما سنرى، فهي ملعوب فيها تماماً، وهو إجراء لا أظنه بمحظور اللجوء إليه في وضع كهذا.
ولا بد أن أشير إلى أن الرواية عبارة عن لوحات، رغم أن إخراجها قد ألغى هذا الفصل في الانتقال من لوحة إلى أخرى، وكان الذي يعنيني في هذا التكتيك الكتابي  أمراً واحداً، خطيراً تماماً بالنسبة إلى الدائر، وهو تلغيم الحدود، وخروج الجميع من بيوتهم، كما لو أن الجميع مرئيون، ولهذا تخلو الرواية من كل عنوان داخل إجمالاً.
ثمة ما يرتد إلى بداية الأحداث، وما يجعل النهاية مؤجَّلة:
” هذه المدينة ومنذ أن عاشت الأحداث الصاخبة وغير المتوقعة تمام التوقع لهذا البلد انغمرت في حرب تكهنات، غير الحرب الحقيقية والضحايا والمنكوبين ومفارقي بيوتهم بسببها داخل البلد وخارجه، والدمار الذي ينتشر انتشار النار في الهشيم في بقع غير محددة منه، مدينة لا يبدو أنها معنية كثيراً بما يجري شعوراً من أهاليها أنها في مأمن من الأخطار، سوى أن المقيمين فيها من لغات شتى لا يكفّون عن تثبيت أنظارهم على شاشة التلفزيون والانتقال من قناة لأخرى لمعرفة آخر الأخبار، مثلما أن خروجهم الأسبوعي حتى الأمس القريب، كل يوم جمعة، من خلال لافتات وصور ورايات تترجم التنوع الكبير للأهالي، يبقيهم في الواجهة، كما أنه يظهر مدى تخوفهم من تصاعد وتيرة الأحداث بين أن تكون ثورة أو انتفاضة أو تمرداً أو شعوراً بالقهر، وتبعاً للذين جسَّدوها، والحرب الدائرة في البلاد منذ أكثر من سنة لا تتورع في جعل أي كان فريسة لها: قتلاً أو تجريحاً أو ملاحَقاً، حتى المقيم في بيته أنا كان موقعه أو مكانه، والأخبار تعلِم عما يجري باضطراد..ص13 “.
ولقد كتبتُ، كما كتب غيري، ولو من زاوية مختلفة عن مشاهد كانت مرئية، وفي حاضنة قامشلو كنموذج عن البنية النفسية، للذين كانوا يعبّرون عن تفاعلهم مع الأحداث، وما كان يرسمه كلٌّ منهم في داخله، أي ما يجعل من الجاري ” بقرة حاحا ” الحلوب المشهورة، وأزعم كامل الزعم، أن نسبة كبيرة من هؤلاء الذين ينطنطون ويجري تصويرهم على الأكتاف أو في المقدمة،  قد استفادت من هذه ” اللقطات ” في التوجه إلى حيث المقام الآمن أوربياً.
أما عن القمامة، فهي يمكن أن تتضمن كل ما هو منفّر، إنما ما يعرّف بسلوكيات البشر، إلى جانب انقيادهم وراء أهوائهم عبر السلوكيات تلك، فهي خلاصة ما يستهلكون، إنما شاهدة عيان بالمقابل على ما هم عليه، وما يؤول إليه أمرهم سفلياً، أي يمكن للقمامة باعتبارها شديدة الارتباط بسقط المتاع، مثلما أنها تترجم سلوكيات الناس القاعية، مثلما أنها تظهِر تفاوتاتهم، وفي أمكنة كثيرة، منها:
” ما الذي جعل القمامة في واجهة المشاغل الدائرة؟ ساءلتًني، وأنا أستعيد مشاهد حية لقمامات تنتشر هنا وهناك، لقمامات متحركة لا تستثني ساحة أو منعطف شارع أو زاوية إلا وتترك لها فيها أثراً، بقدر ما تعلِم من يجب عليه أن يعلم أن ثمة بصمة قماماتية تستأثر بالمكان إذ إن كل باب يقابل قمامة، وكل نافذة مطلة على قمامة، وكل قمامة تبدو معزَّزة بأخرى في المدينة..ص11″ .
” إن هذه المدينة ومنذ فترة تعيش حمّى القمامة التي باتت مألوفة في أمكنة مختلفة، على الأرصفة والساحات العامة، وحيثما وجِد فراغ في مواجهة المحلات الرسمية أو المؤسسات الحكومية ذاتها ومفارق الطرق، قمامة تعطي صورة حية عن المدينة ذاتها، صورة لا تترك حياً كما تكون الحياة، وكما ينشد الحياة. إن لكل حي قمامته الخاصة لكن دون أن ننسى أن ثمة من يبعد عنه قمامته، كأنه يوحي أنه دون قمامة، أن محيط بيته نظيف، وهو يلقي بأكياس قمامته بعيداً عن حيه أو بيته ليظهر أنه نظيف أكثر من الآخرين ممن يعرفونه.ص 13 ” 
” القمامة التي لا تنفصل عن الحالمين والوعاظ ورجالات والذين يتهربون من الألقاب، والقمامة التي لها صلة قرابة بالأحلام وكوابيسها، القمامة المرئية واللامرئية .ص 54 ” 
” صار في مكنة الأم أن تخيف صغارها بأن ثمة ما يمكن أن يخرج من داخل القمامة ويقتحم البيت، إن لم يلتزم الهدوء وينقطع عن البكاء.ص 64 ” .
” تشهد المدينة ذات الحضور القماماتي هذه الأيام الكانونية نشوء مهن كانت حتى الأمس القريب تمثّل ضرباً من ضروب الخيال وأبعد منه، إلى درجة أن قسماً ملحوظاً من أهل المدينة، ومن النشأة، لم يكونوا يعرفون شيئاً عن حقيقتها ، والأهم من كل ذلك، هو أنه كان يكفي أن يسمّي أحدهم ما يشير إلى الصائر مهنة في حضور آخر، ليعتبر المقابل أنه قد تعرَّض للإهانة.
صار هناك تاجر البعرور، وتاجر الروث، وتاجر الخشب الأكثر تعرضاً للاستعمال.. جراء ارتفاع أسعار المحروقات وفقدانها من محطات البنزين،وليجد الناس أنفسهم في مواجهة برد قارس لا سابقة له منذ سنوات، الأمر الذي دفع بهم إلى البحث عن مصادر بديلة، تلك المصادر التي أعادت إلى أذهان المميزين بذاكرة ريفية مشتعلة، وفي عمر متقدم، كيف أن الروث بالذات بتنوع أشكاله أو أصنافه، كان يمثّل إحدى العلامات الفارقة للقرية، بما أن استهلاك الوقود الصناعي كان شبه معدوم، وكونه كان يقتصر، وبصورة محدودة جداً، على الإنارة الوجيزة باعتماد على قنديل يعاني احتضاراً جرَّاء اطلاق دخان يغزو الصدور، ليأتي المصباح، ومن ثم ما كان يسمى بـ” اللوكس” الدال على ترف مقتنيه، بسبب قدرته على إضاءة المدينة، ودون أن يعني كل ذلك التخلي عن الروث في التدفئة وتسخين الماء للغسيل والاستحمام البسيط.ص80 “….
تلك وقائع قماماتية، لا أظن أن أحداً حوَّل القمامة تلك التي كانت تُرى في أمكنة مختلفة إلى موضوع رواية، وما يحيط بها من مناخات ومن تشابك مشاعر وانفعالات وأفكار ورهانات، وأحسب، كما هي معرفتي المتواضعة بقبحيات المكان أو سوءات الناس من خلال نفاياتهم وهي معروضة أمامهم، وما يترتب على كل مشهد من تشكيل ردود أفعال، ومن ثم تلوين مشاعر، وتداخل أفكار، الأمر الذي لا يبقي شيئاً على حاله، لأن ما يتفسخ في الداخل بمرجعيته القماماتية، إنما هو العائد إلى الذي يخرج عن السيطرة، بمقدار ما يدعو إلى تبيُّن البلبلة القائمة، وفي ضوء هذه اللقطات الموصوفة، يمكن تدوين أسماء الناس ودلالاتها وصلة كل اسم بما هو قماماتي، فتصبح القمامة كاسم ودلالة لسان الجاري، وظهور الخفايا من الصدور.
ثم يأتي الجانب المهم، جهة الأزمة وما يمكن النظرفيه استناداً إليها:
” والأزمة التي استفحلت ارتبطت باختفاء الوقود من محطات الوقود، فظهرت مذاهب ومشارب في تهريب الوقود من أماكن مختلفة، وفرض أسعار صدمت الغالبية، في الوقت الذي شعر الناس فيه بالبرد القارس، وخصوصاً هذا العام، فكان لا بد من توجيه الأنظار إلى مصدر رئيس بحثاً عن الحرارة، حيث الغاز نفسه أصبح أقرب إلى الممنوعات، وربما في أيدي بعض المرابين، رغم محاولات البعض للحيلولة دون ذلك، فكان الخشب هو البديل، ليكون هناك تفنن في طرق الحصول على مصادر التدفئة، لتكون الأشجار في الواجهة، وبشكل خاص، حين تكون بعيدة عن الحماية، ليشتغل النشر فيها ليل نهار، الأمر الذي استجابت له رغبات الباحثين عن الثراء السريع، وهم يمدون في حدود النيل من الأشجار، عندما امتلأت زوايا الشوارع، والمحلات التي خصّصت لهذا الغرض، رغم رطوبتها وقد حوّلت إلى قطع، وفي جنون شغل المدينة كاملة. إنه الجنون الذي تباهت به المدينة جرَّاء متغيرات لم تحسن تصريفها بدقة ! ص19 “.
تلك إضاءات لتاريخ، لا أظن أن أياً كان ممن عاشوا هذه الفترة بغافل عنها، إنما الفكرة تتمثل في كيفية تجسيد هذه المشاهد، ومن هم الأقدر على الاحتفاظ بها، أو إظهارها للعيان، وكيف يمكن للناس أن يتفاوتوا فيما بينها، إزاء هذه المصاعب لا بل التحديات ويختلفون قيمياً.
وربما كان الموصوف في هذا المشهد، ووقتذاك، تعبيراً عن تلك النزوعات الإنسانية الخاصة، أي جهة اغتنام الفرص، أو ما يُسمَّى بـ” ركوب الموجة “، ويا لكثرة هؤلاء وطاعونيتهم، أعني بذلك، إمكان ليس تخيُّل أفراد في جهات شتى، تعاونوا فيما بينهم، أو تصل ما بينهم وشائج قربى في تفعيل الفساد والائتمار به، لقاء ما هو مادي ومعنوي، انتقاماً من الماضي القريب ومن يمثّله، وليس من داع لأن يشار إلى أي اسم على أرض الواقع، فما أكثر ما بات يعرَف بأن فلاناً صاحب ملايين، أو أصبح ميلونيراً بكل معنى الكلمة، أو أن أحدهم صار في موقع يقرّر فيه فيه مصائر عباد من حوله: من أهله وناسه أو بني جلدته، وثمة بون شاسع واسع بين الموقع الذي يسمّيه وما هو عليه واقعاً في الثقافة والمهنة، من باب إذلال الذين يعتبرهم أفضل منه عملياً، والحقد الممارس في هذه العلاقات جرّاء الحاجة إليه:
” يتجول السيد نيق في المدينة فرحاً بمقامه الجديد، وهو في سيارة مرفَّهة، إذ ينظر يميناً وشمالاً، ومن وراء نظارة سوداء، حيث لا يكف عن معاينة كل ما يتحرك في الشارع، وتحديداً بالنسبة لوجوه السابلة، غير عابئ كما ينبغي بالقمامة التي تصدم أنظاره، إلى درجة شعوره بالنرفزة غير القادر على التخلص منها. ص 20 ” .
وهذا يزيد ما تقدم وضوحاً بالتأكيد، إنما ما يحفّز على النظر والتأمل بعمق :
” السيد نيق حالة خاصة وعامة في الوقت نفسه، إذ يسهل إيجاد من هو على شاكلته، ولكنه في ظهوره اليومي في أمكنة كثيرة، كان يلفت النظر، ليوحي باختلافه عن الآخرين، حتى عن أقرب معارفه أو الذين يفكرون مثله تماماً، الأمر الذي لم يكن يخفي امتعاض العديد ممن أسندوا إليه القيام ببعض الأعمال، وهو يتصرف كما لو أنه سيد كل قرار يتنفذ واقعاً.ص20 ” .
وبما أن مدينةً لا تعني نفسها، إنما أكثر من كونها مدينة، وهي في الصورة الجديدة، وهول التحول بأكثر من معنى، يمكن الحديث عن الجنس المستثمَر في تحقيق منافع أو حتى انتقامات عبر الاتصال المباشر، إلى جانب النيل من كل صوت حر حقيقةً، أو امرأة ترى فيه مبتغى لها، أو أنها تختلف عن سواها كلياً، وما يعنيه الجسد وقد بات معروضاً لنزوات رجال هم أنفسهم معروضون لنزوات من نوع آخر، وما يترتب على مثل هذا التفسخ الخلقي من صدوع قيمية عميقة، لتصبح القمامة ذاتها في مقام الجسد المتفسخ والقيم المشروخة والمتداعية هنا وهناك، وما أقل أقل الذين يمكنهم البقاء في المكان في وضعية توازن، وهم محارَبون داخلاً، خارجاً، وتحديداً حين يرتفع رصيد الرذيلة ويكون لها القدح المعلّى، والتمثيل في الفضيلة ومجسّديها:
” ترفع أم لِقُو صوتها وتمد بيدها صوب ابنتها، قائلة:
أنت مثل زنبرك الساعة، إلى أين أنت ماضية يا لقو؟
كان ذلك مبعث رضى للقو التي تجاوزت الخامسة والعشرين في عمرها:
لهذا يضبط شباب الحارة ساعاتهم على إيقاع مؤخرتي!
ولكن العمر يمضي يا لقو!
وأنا بدوري ماضية مع العمر يا أم لقو، ثم إنني تربيتك يا ماما..
أنت تهينينني يا لقو!
حاشا يا أم لقو، إنما هي الحقيقة، ألست أنت من دفعتني في هذا الاتجاه، أليس هذا البذخ الذي تعرَفين به، من وراء مؤخرتي التي لا تكفّين عن السخرية منها؟
ولكن عليك أن تفكري في المستقبل يا ابنتي!
ها نحن نتحرك صوب المستقبل، وها هي القمامات في كل مكان فأي مستقبل يُرى هنا ؟ ص21″.
في مشهد آخر، ثمة العلاقة القائمة بين أزمة المواد الغذائية والذين اعتبروها فرصتهم المنتظرة في ابتزاز الناس تحقيقاً لمآربهم، وصعود ” السلَّم ” الاجتماعي بمقاييس تعنيهم، حيث المادة الغذائية ترموميتر أخلاقي وبازار قيمي في الأصل:
 ” تفاقم أزمة المواد الغذائية في ظل الأوضاع الصعبة جداً في البلاد، ومنها هذه المدينة، كان هاجس الجميع دون استثناء، ولكن الذي لا يستطيع أحد تجاهله، هو ظهور تنظيرات وتحليلات واجتهادات معتمدة لدى أهل المدينة، وطرق تعامل مختلفة مع كل مادة تموينية، أو قائمة المواد التي مارست شللاً في أنشطة كثيرة تخص حياتهم اليومية: في الوقود والغاز، وكذلك الخبز، فلم يعد التفكير منصباً في كيفية الاستجابة لجنون الأسعار المنفلتة من عقالها لدى نسبة كبيرة، وإنما في كيفية تأمين هذه المواد، وإن كان هناك من حاول طرح المسألة من أكثر من زاوية، مثلاً: من وراء هذه الأزمة التي شملت البلاد والعباد، ماذا أصاب المدينة بأهاليها، أين هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم الحريصين على الشعب، كيف يُسمَح لهؤلاء الذين يفرضون الأسعار التي يريدونها دونما محاسبة، وسط احتجاجات ومجابهات واتهامات للمعنيين بها.ص25 “
وضمن هذا الإطار ما يجعل المتفاقم مجالاً لأكثر من تحليل أو تصوير ومكاشفة:
” إن تراكم القمامة في أمكنة مختلفة: وسط المدينة، وفي الساحات العامة، وبجوار الفرن الآلي، وأمام المدارس، ومنتصف الأرصفة..الخ، كان يشكّل شاهد العيان الحي، على أن ثمة أزمة تعصف بالبلاد والعباد، وأن مخاوف تعتصر الأكباد، كما تثير الفزع والرعب في النفوس وتدفع بالجميع إلى التفكير في الأخطر، تستدعي المزيد من التفكير في الجاري باضطراد.
لقد انقسمت الثورة على ثوارها وأذاقتهم مرارة غير متوقعة، أو جرّاء استسهال فهمها، رغم وجود من أراد الحفاظ عليها، ربما هو خوف من الوقوع في مجابهة مع الذين كانوا على أتم وعي من أن تسمية الشيء لا تعني معرفته على حقيقته، بقدر ما هو تنوع الموقف من النظام وحدوده ورموزه، ليس من باب ارتفاع الأصوات التي تطالب بإظهار التأييد له، وإنما للفت الأنظار إلى هذا الخراب المرعب الذي لم يسلم منه أحد أو يكاد، ولو أن هناك تفاوتاً، من خلال حركة الهاربين من الموت المدمّر، خارج البلاد وداخلها، والذين يعيشون عنفه كذلك طبعاً.ص26 “.
ولأن قامشلو ذات حضور كوردي بأكثر من معنى، فمن الطبيعي أن تكون الرواية مركّزة عليهم في قواهم المختلفة على الصعيد السياسي وخلافه، وأبعاد هذه المسلكيات، من الطبيعي أن تكون قراءة الكوردي أكثر إمعانَ نظر من سواه:
” ” تسابقت القوى الكردية فيما بينها في المدينة تعبيراً عن شعورها بما هو مطلوب منها في المرحلة الحساسة جداً تلك التي تعيشها المنطقة العربية وفي البلد، والمدينة التي تضمها بصورة خاصة، تسابقت على الطريقة التي تمكّن كلاً منها من إحراز قصب السبق قبل سواها، تعبيراً عن أنها الأكثر جداراً بدخول حلبة التاريخ، وتنبيهاً للآخرين بمدى أسبقيتها في تمثيل الكرد.ص30 “.
من الطبيعي أن يكون الاسم الوارد في المقتبس أدناه أحد تلك الأسماء النطاطة، وما أكثر مشاهد النطوطة في حالات من هذا النوع، أعني ما هو انفجاري كالوضع السوري، والمجالات التي لا تحصى، ولا يحاط بها، جهة الباحثين عما يريدون، أو من ينتهزون فرصاً :
 ” ” يعرف قيقو جيداً هذا الذي يسابق البقية في المظاهرة المحصورة بين شارعي عامودا ومفرق طريق الحسكة، أي شارع منير حبيب، أنه المشهود له بسرعة تنقلاته وقدرته على لفت الأنظار، كغيره، ليكون له مقام وحظوة لدى المعنيين به وبسواه، وهو يقفز عالياً في الهواء، وبالكاد يلتفت إلى الوراء، وهو يرفع يديه هاتفاً بصوت عال ٍ ومسموع: حرية.. حرية.. آذادي.. آذادي..وثمة من ينافسه دون اللحاق به كونه هيَّا نفسه جيداً للفرصة المنشودة، وثمة من يصوّره عن قرب وفي وضعيات مختلفة، ليتمكن من شد انتباه المتابعين لحالات من هذا النوع، أي باعتباره في طليعة الثائرين..ص35 ” .
وحين أصرّح باسمي الصريح، رغم أنه داخل في الرواية، إلا أنه يكاد يسجّل واقعة تلو أخرى، كما هو معلوم لمن يستعيد الذاكرة المكانية للفترة تلك بصورة مكثَّفة:
” يدخل الآخر الذي هو أنا، باسمي الشخصي الآن: إبراهيم محمود، إلى سوبرماركت، ويسلّم على صاحبه، محدّداً له أسماء السلع التي يريد شراءها. يقفز صاحب السوبرماركت من وراء الطاولة، تاركاً الآلة الحاسبة جانباً، ويبدأ بوضع ما طلبت في الزاوية، ثم يبدأ في الحساب، ومع ذكر كل مادة، يحوقل ويعوذل لأن السعر يتغير بين اللحظة والأخرى.ص 36 ” .
وحين أشير إلى أكثر من اسم له صلة بالكتابة، فمن باب التشديد على نقطة رئيسة، وهي ظهور ذلك الكم الكبير من مدَّعي الكتابة، وأبعادها، وما فيها من ادعاء ملَكة ثقافة ومعرفة بالجاري:
” يكتب واي، وهو كاتب ذو طموح لا يعادله أي كان، كونه تلمَّس في الظروف الصاعدة فرصة للصعود باسمه، وهو يحاول تقوية علاقته بالمحيطين به، يكتب بمزيد من التحدي للذات، مفصحاً عن أن ثمة مرحلة جديدة يجب علينا التحضير لها. هكذا بلغة الجمع يكتب!ص49 “.
إنما في الاسم التالي، ثمة ما يعمّق بؤرة التوتر، ومن يمكن أن يكون لمن يتعقب آثاره واقعاً:
” ربما من الصعب وصف الفرح الذي تملك كِيْنَكِي الكاتب الكردي المخضرم، والذي ذاع صيته في أكثر من جهة كردية وهو غير مصدّق للفرصة التي واتته كآخرين من الذين يكبرونه،وكذلك يصغرونه سناً، حيث تتعدد اهتماماتهم في المجال الكتابي بالكردية والعربية، ليس لأنه يريد التعويض عما فاته في السنوات الماضية، وما استشعره إهانةً بحقه، لأن آخرين خطفوا منه الأضواء، واعتبر ذلك جريمة، وهو لم يتوان في اعتماد الغمز واللمز في النيل منهم، أي استظهار تلك الدونكيشوتية المستهلكة في كتاباتهم وتصرفاتهم، وحبهم لمن يكيل المديح لهم، وإنما لأن مستجد اليوم يتطلب معايير مختلفة، لأن الظرف مختلف، وقد آن أوان البروز وتصدر الواجهة..ص68 “.
وفي الانتقال إلى الطابع الحلباتي لمجلس العزاء، وكيفية الالتفاف على الجاري دينياً:
” في مجلس العزاء الذي احتشد بالمعزين، يرفع هبُّو صوته معوذلاً ومبسملاً في البداية، ودون أن ينظر في الوجوه التي التفتت إليه، كما لو أنه وحيد في عراء:
إنها آفة العباد التي أتت على البلاد، وخراب البلاد الذي شتت شمل العباد..ص77 “.
وفي مشهد آخر، لا يخفي عنفه الكلامي، لكنه العنف الذي يصعد بما في الداخل من خفايا، والحقيقة التي تعرّف بالشخص الذي يظهر في واقع أمره، وليس كما هو مرئي فيه:
” واجهني أحد المهذارين في المدينة إلى جانب وقاحة وقحَّة في التصرُّف:
يا كاتب هَو، أسمع الكثير من الخرينات التي تثيرها في كتاباتك، إلى أين أنت ماض؟
ربما كنت متلهفاً للدخول معه في سجال سريع، لأنني سمعت الكثير عن حشريته:
ولله يا سيد قيق لا خرينة إلإ ممن يتخرين، أو يتلذذ باعتماد الخراء في لغته اليومية، والخرينة من خرين يخرين خرينة فإذاً أنت متخرين ولا تكون متخريناً إلا لأنك الخرائي فيما تقوله وتقوم به، وهذه الخرية لا تنقطع طالما أن ثمة متخرينين يستحلون الخرينة حيثما كانوا أو حلوا، فالأفضل لك ولي ولغيرنا أن يقدّر مدى ضرر الرائحة الكريهة لخريناتك..
ثم حاولت توجيه نظره إلى القمامة التي أخذت مساحة واسعة من الرصيف والطريق:
انظر جيداً يا قيق، تجد ما يعرّفك بالخرينات الجارية وحينها يمكنك أن تكتشف أي خريان على حاله تكون أنت…!؟. ص 104 “.
وثمة مشهد مختلف عن الوصولية ومذاهبها:
” يجد يانا نفسه في موقع المسئولية التامة، مثلما أنه يستشعر راحة، وهو في موقعه الإعلامي، والمسنَد إليه من قبل قيادته الحزبية، ربما مكافأة على خدماته التي قدَّمها لحزبه، وبالمقابل، ربما لأنه امتلك قدرة على المواجهة، إلى حد أنه كان يبادر شخصياً إلى الإدلاء بتصريحات، كانت تقلق المعنيين به، سوى أنهم يغضّون النظر عنها، كونهم لم يجدوا البديل ليحل محله..ص115 “.
ثمة ما يصدم الجميع، أو يتحدى كل ذي نظر مما يمكن أن يحصل في النهاية:
” المدينة التي تتُرك للباحث عنها، لا تخفي زحف القمامة في كل اتجاه، كما لو أن الأفق سُدَّ، سوى من ثغور بالكاد تُرى، يتسلل عبرها وميض ضوء لا يغري بمغامرة الدخول إليها، أو الخروج منها، ولا حتى الباحث عنها، بقادر في ضوء المقدّر لها على مكاشفتها دون الاستعداد لأن يكون الموقَع به، في طريق لا عودة بعدها منه، أي ضحية قمامة غير مترحَّم عليها..!؟ص128 “.
وليكون القائم في الملحق، وهو جزء من الرواية، تصعيداً بمحتوى الرواية نفسها:
” جاء في حيثيات المحاكمة، لقد استدعي المؤلف إلى دائرة العدلية، بناء على مجموعة من الشكاوى المرفوعة إليها ضده، من قبل الذين كان لهم أدوار مختلفة في الرواية التي تحمل( لا قمامة في هذه المدينة)، وهي لكاتبها: إبراهيم محمود، والقاسم المشترك الأكبر بين هذه الشكاوى، هي أن المؤلف أغلظ في القول بحق أغلب الشخصيات التي لا تنفصل عن الواقع..ص129 “.
ثم ما يعتقَد أنه الجواب الخاص بمؤلف الرواية بالذات:
” .. لم أعنون روايتي هكذا( لا قمامة في هذه المدينة)، إلا استجابة لمعايشة طويلة، ومكابدات روحية، فكانت هذه الزاوية في النظر إلى الأحداث في بلد لا أحد يستطيع الجزم بالنهاية الفعلية التي يمكن أن يعرَف بها، وإذا كانت القمامة هي في مقام البطل الأهم بلا منازع في الرواية، رغم عدم إيماني بالبطل الواحد بإطلاق، فلأنها يمكن أن تُرى يومياً في الحالات العادية…
ثم كانت الكلمات الأخيرة، حتى أنتم أنفسكم، وكل شهود العيان، ومن يتسقطون أخبارهم في الجوار، داخلون في عالم الرواية، ومعنيّون بالقمامة التي أنتم على بيّنة من نفاذ رائحتها إلى داخل القاعة، إنه التحدي القماماتي لكم جميعاً، فهل أنتم بمنجىً من خطر القمامة…..؟.ص135″.
وتلك النهاية اللانهاية :
” وقد حكمت المحكمة هكذا: يفرَج عن المؤلف السيد إبراهيم محمود، إن لم يكن محكوماً بجناية أخرى، وذلك بكفالة مالية، ولا يقبَل الطعن في الحكم، إلا إذا ظهرت هناك مستجدات أخرى..!ص136 ” .
أما بصدد قائمة من الأسماء التي تثير استغراباً، فأحسب أنني تقصدت من ورائها ما هو فاعل في تحفيز النفوس للسؤال عن خلفية اسم:
”  أما بصدد الأسماء التي تزكم الأنوف في الكتاب أسماء ربما يصعب حصرها ففي وسعي إعلام الباحث في دلالات الأسماء وحرصاً على سلامته النفسية والذهنية إلا إذا كان من أهل العناد أن يدعها وشأنها أي ألا يحاول إجهاد نفسه كثيراً في تحرّيها في السؤال عن مصدرها، مثلاً، أو لغتها أو تصريفها لأن لا قاموس جاهزاً يفلح في نجدته أو التخفيف من حدة فضوله المعرفية. ص6 ” .
في النص الروائي، أسماء يمكن للكوردي وحده، أكثر من سواه، أن يسائل حولها، مثل: لُقو، هَوْ، زيق، نيق، هَيْهو، هَرْوَر، كِيْنَكِي، قيقو، واي، أووه، واي، يانا، دِكُو….الخ، لا تنفصل عن إيحاءات موصولة ببنية العلاقات الاجتماعية.
إلى أي مدى يمكن للمثار أن ينبّه إلى ما هو قائم، وما كان عليه عليه بالأمس، وما يمكن أن يكون عليه غداً، وإمكان الربط بين حالات كثيرة ممثَّلة في أشخاص كثيرين، نعرفهم تماماً هنا وهناك، كما لو أن الرواية سمَّتهم قبل أن تتم تسميتهم واقعاً، أي من باب توقع ما يمكن أن يحدث، على خلفية من القمامة التي لما تزل تحاصر المكان وأهل المكان في قامشلو وأبعد منها بروائح عطنة من نوع آخر .
دهوك، في 27-8-2017 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…