المشهد المصرية تحاور احمد اسماعيل

حورية عبيدة

1-كتبت للطفل والقصة القصيرة والدراسات النقدية ، لكنك وجهت وجهك شطر المسرح، فما الذي يستهويك في الكتابة له؟
كان المسرح هو حبي الأول، وأنا فتى، ومن الطبيعي أن أعود إليه أينما نقلت فؤادي وتوجهت، غير أن هذا الحب كان للتمثيل، وحلماً بالصعود على الخشبة، ولأنني لم أستطع تحقيق هذه الرغبة بسبب الخجل الذي أبتليت به، فقد توجهت إلى مكتبة المركز الثقافي في مدينتي قامشلي الواقعة شمال شرق سوريا، لأقرأ  كل ما تقع يداي عليه من كتب مسرحية، وعندما بدأت اكتب له وعنه، وجدت فيه فناً قادراً أكثر من غيره على الوصول إلى الناس، وتحريكهم وتثويرهم، لاكتشف بعد زمن بأنني، وغيري من المسرحيين، قد أثقلنا كاهل هذا الفن الرهيف بأعباء ناء بحملها، وأقحمناه في معارك سياسية كبيرة وهو مايزال حديث الولادة في حياتنا وثقافتنا، فجاءت نتيجة هذا الخطأ مخيبة للجميع.
المسرح فن حضاري وليس سلاحاً حربياً، وسحره يكمن في جمالياته، وفي تنوير العقول أولاً. والإرتقاء بالذائقة. الأمر الذي بدأت أوليه اهتمامي بشكل كبير.
2-كيف تختلف الكتابة للمسرح عن بقية فنون الإبداع؟
كانت الكتابة للمسرح فناً أدبياً، تصاغ في تقنيات تتضمن امكانية التجسيد، وأولها الحوار بدل السرد في الرواية والقصة. ثم أخذت بوصلة المسرح تدفع بالكاتب نحو الفنية والدرامية في النص. فبدأت بالتخلص من الكلمة الأدبية المترهلة والمنمقة لصالح الكلمة الفعل، لأن المسرح فعل، ليصار بعدها إلى اعتبار الكلمة “وشي على ثوب الحركة والفعل”، حسب ميرخولد.
يمكنك ببساطة أن تعثري في الفنون الأخرى: الشعر والقصة والرواية، على صوت المبدع، فكره، وحتى مزاجه، بهذا الشكل أو ذاك، بهذا القدر أو ذاك، وهو مشروع. فيما يمنع على الكاتب المسرحي التجوال في نصه، حذر تعرض عمارته الفنية والفكرية للإنهيار. 
ولم يتم خرق هذا القانون، سوى ممن أتقن بناء عمارته الفنية بشكل هندسي وفكري مدهش. 
مما يؤسف له أن الكاتب المسرحي في بلادنا مهدد بالانقراض. وذلك بعد أن تم طرده من المسرح بتهمة استخدامه المفرط للكلمة، بناء على الفهم المغلوط لدعوات التجريب وموت المؤلف التي أُطلقت في الغرب، ولا غرابة في ذلك، فقد اعتدنا على التفسير الساذج والمغلوط لكل مفهوم مستورد معفى من ضريبة التمعن وإعمال التفكير: الديمقراطية مثالاً، والحرية والإشتراكية؟  
3- ماتقييمك للمسرح العربي حالياً مقارنة بعقود خلت؟
لست مطلعاً على حال المسرح العربي اليوم، وخاصة بعد الزلزال الذي ضرب وطني سوريا وغيرها من البلدان، وارتدادته في المنطقة، ومن ثم مغادرتي الوطن خشية الموت المجاني في هذه الحرب المجنونة. 
لا غرابة في أن يكون المسرح بالذات أول من استجاب لارتدادت هذا الزلزال، إنه الفن الأكثر حساسية وتأثيراً في المتفرج، شريطة ألا يعيد السيرة الأولى لهزيمة حزيران وخطأ توجيه البوصلة. فيقع ضحية الكيدية والسياسات الحزبية والاجتماعية الضيقة. 
نعم، ثمة خشية كبيرة من أن يسقط المسرح في خندق المتحاربين في الوطن، فيقذف ابن المؤسسة الرسمية كرة النار إلى مرمى الثورة، أو الخندق المضاد، واصفاً إياها بالإرهاب، وصنيعة الغرب والمتشددين والإرهابيين، ليقذفها الطرف الآخر نحو الأنظمة، بوصفها أصل البلاء، ومفسدة المجتمعات.
لقد سبق أن عصفت بالمجتمعات العربية كوارث قوية هزت كيانه وثوابته، هزيمة حزيران نموذجاً، فتنطع لها كتاب ومبدعون كثر، واستطاعت قلة من هؤلاء المبدعين أن تشير إلى أس الهزيمة بشكل أقل إبهاماً وتورية من الكثرة الكاثرة التي كتبت عن هذه الهزيمة وغيرها. 
محمود دياب وسعد الله ونوس ونجيب سرور..وآخرون، غير أن نقد هؤلاء المبدعين للسلطة تحول إلى ما يشبه العتب والتنفيس، لأنه، وببساطة شديدة، تم في مؤسسات السلطات التي دجنت المسرح، وفصلت بين المبدع وشريكه الجمهور بوسائل شتى، ليستمر الجمهور  العربي في المسرح أيضاً، كما في الحياة السياسية، مجرد متلق سلبي. ولتصبح مقولة الجمهور شريك المسرح وسيده، طرفة شبيهة بطرفة الحديث عنه في السياسة بصفته: مواطناً!   
أما عن الأساليب الفنية، فالتجريب الذي بدأ منذ  أكثر من عقدين، مايزال مستمراً، في الكتابة والعرض، وأعتقد أن المرحلة الحالية قد أدخلت المسرح في منعطف جديد، إنها مرحلة مختلفة عن كل ما سبقها من مراحل زمنية، ويحق للمسرح ، والحال هذه، زيادة جرعة التجريب، فنياً وفكرياً، كي لا يتخلف عن شريكه الجمهور الذي بدأ التجريب في مسرح الحياة منذ حوالي العقد من الزمن.    
4- سر اهتمامك بالطفل خاصة، وماذا قدمت له، وهل استطعنا التعبير عنه بصدق وعن طموحاته وتطلعاته وأحزانه؟
أعتقد أن سرّ خلاصنا يكمن في الطفل، خلاصنا من العنف والتخلف والجهل وحتى من الإستبداد، ومن العجب أننا نبحث عن هذا الخلاص في كل الأماكن، في الداخل والخارج، ونبذل من أجله الغالي والرخيص من: دماء وأرواح ومال وحريات.. ونتجاهل الطفل الذي بيننا؛ منقذنا في المستقبل: الحاكم والطبيب والكاتب والعامل والفلاح، شريطة أن نكف بداية، وقبل كل شيء، عن التعامل معه بصفته، الرجل الصغير، أو العجينة والصفحة البيضاء. 
من يتأمل هذا الخراب العميم في مدننا وساحاتنا سيدرك حجم فشلنا في تربية الطفل وإعداده، فإرهابي اليوم والسفهاء منا ..كانوا بالأمس أطفالأً أشقياء، فأصبحوا اليوم على ما هم عليه. لقد عققناهم في صغرهم، فعقونا في كبرنا.  
لقد اجتهدت في الكتابة للطفل منذ عشرين عاماً تقريباً، فقدمت له نصوصاً وقصصاً ومقالات..
وكنت قبل ذلك معلماً له في مدارس مدينتي لمدة ربع قرن، وقد عُرضت مسرحياتي في أغلب العواصم العربية ومهرجاناتها، وفازت بعضها بجوائز كان آخرها الجائزة الأولى في مسابقة الهيئة العربية للمسرح سنة 2010. 
ولم أحدْ يوماً عن التعامل معه شريكاً ومتلقياً ذكياً، فاحترمت وعيه، وتعاملت معه كند لي، لا كتلميذ. كما حرصت على حضور الحكاية بأبهى صورها في النص، لأهمية هذا العنصر في أدب الطفل خاصة.
لقد أصبت في جوانب، وفشلت في جوانب أخرى..فالوصول إلى الطفل إبداعياً ليس بالأمر الهين.
يؤسفني أن أقول أن أغلب كتاباتنا الموجهة للطفل، لم تكن لطفل واقعي، ماثل أمامنا، هو طفلنا، بل كانت لكائن آخر، هو الطفل الذي في دواخلنا، المأمول أو المقموع،  لنكرر، “إبداعياً” السياسة التربوية للسلطات في المدارس، ومواعظ رجال الدين في أماكن العبادة، والتربية العائلية المتخلفة في البيت. 
أعتقد أن أقصر طريق للخلاص، وأكثره دواماً؛ هو منح الطفل ما يستحقه من اهتمام وتربية، وثقافة واحترام، طبعاً إذا أردنا لهذه المآسي أن تكف عن التكرار، حقبة تلو الحقبة.
5-أدب الثورات موجود بشكل أو بآخر في كتاباتك، فما الذي تود قوله؟
لقد فتحت عيني في بيئة فقيرة ومضطهدة، كل شيء فيها يدعو إلى التمرد والثورة: العادات، التقاليد، والتربية، وأولاً وقبل كل شيء، الاستبداد السياسي الذي تمارسه السلطات. أساس البلاء المقيم.
لقد مارست هذا التمرد سياسياً في بداية شبابي، لفترة زمنية لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما وقعت على زيف مزاعم الأحزاب المعارضة، التي وجدتها، تمارس الدجل السياسي مثل السلطة وأتباعها، وتبيع الأوهام للناس، وما تمردها على النظام سوى لحيازة السلطة. لا لتغيير منظومتها وبنيتها القامعة.
فيممت وجهي جهة مملكة الأدب الديمقراطية، ولقد كانت القصة التي كتبتها عن مجزرة حلبجة التي نفذها الديكتاتور صدام حسين بحق بلدة حلبجة الكردية سنة 1988وراح ضحيتها خمسة الاف كردي، كانت  هذه القصة جواز سفري لدخول هذه المملكة.
كتبت العديد من المواد التي تدعو إلى التثوير والتمرد على الظلم والاستبداد، والمفارقة أنني كتبت قبيل ثورة تونس والربيع العربي، نصاً مسرحياً للأطفال بعنوان “الطائر الحكيم” والذي فاز بالجائزة الأولى في مسابقة الهيئة العربية للمسرح 2010 أدعو فيه للثورة على الخوف والظلم، وقد قدم النص في الشارقة ويافا وفي أماكن أخرى.
غير أن النص الذي جعل أمن النظام يسارع إلى استدعائي والتحقيق معي سبع ساعات في قبو فرع أمن الدولة في مدينتي قامشلي، كان نص” القربان” سنة 2010 ، والذي قُدم في الشارقة في مهرجان المسرحيات القصيرة، سنة 2013. تناولت فيه واقعة اسقاط تمثال الرئيس في بلدة عامودا الكردية الواقعة في الشمال الشرقي من سوريا أثناء انتفاضة الثاني عشر من آذار سنة 2004. 
قلت ما أود قوله رغم كل شيء، وفي الجعبة الكثير مما طرأ في هذا الربيع القارس: الانتصار لكرامة الإنسان وحريته، ونزع الأقنعة عن الوجوه المزيفة. غير أن الصدمة التي منينا بها في أجواء هذا الربيع جعلتني، مثل كثيرين؛ أعيد النظر في كل ما كنا نتوسله من آداب وفنون.. وسياسات وقناعات وأفكار ومفاهيم.. من أجل تحقيق الهدف الأسمى: كرامة الإنسان. 
6-تمسكك بقوميتك الكردية ، كيف تراها وماذا فعلت من أجلها، وهل تراها لم تذب في النسيج العربي؟
لو لم أكن كردياً لكنت نصيراً لهذه القومية المضطهدة، كما أنا الآن نصير لكل من يقع عليه الحيف والغبن: المرأة والطفل والفقير وسجين الرأي والأقليات الدينية والقومية..الأمر الذي يجعلني أبقى على قيد الإنسانية، لا خنزيراً يدير ظهره لمصائب ومعاناة الآخرين. 
رغم كل ما تعانيه هذه القومية من تصدعات وجروح وشروخ ومآس وإنكسارات بفعل فاعلين يريدون لها الصهر والفناء. فقد سعيت دائماً لخدمتها، ولم أتجاهل واجبي نحوها، طبعاً بصفتي كاتباً يعمل في مجال المسرح. 
أما عن ذوبان الكرد في النسيج العربي؛ فإن ذلك جار على قدم وساق، من قبل السلطات الشوفينية، ومن يعتنق مذهبها، وذلك من خلال محو هوية هذا الشعب: لغة وتاريخاً وعادات وحقوق. فكانت النتيجة الطبيعية هي دفع الكردي إلى خانة رد الفعل. ليسهل تحويله في مصنع الإعلام المناهض، من مجني عليه إلى جانٍ.
ومايزال الكردي بانتظار العقلاء من القوميات الأخرى: العربية والتركية والفارسية ليسعوا إلى تزيين النسيج الوطني في أوطانهم بمواطنيهم الكرد، وبغيرهم من الأقوام المختلفة، لا إذابتهم. لأن كل مسعى إلى الواحدية مصيره الفشل والدمار، ليس على مستوى الفرد والسلطة، بل  على مستوى الأوطان  والشعوب أيضاً، وتجربة هتلر، وغيره من الطغاة العنصريين أمثال ستالين وصدام، ماتزال ماثلة في الأذهان، لأن الواحدية ببساطة شديدة مبدأ إلهي لا بشري، ومن يسعى إليها كافر بنواميس الطبيعة، وبالله أيضاً. الذي جعل البشرية شعوباً وقبائل لتتعارف، لا لتنصهر في بوتقة واحدة، ولو شاء ذلك لفعل منذ بدء الخليقة.  
اسمحي لي أن أورد هذا القول للباحث الكردي أحمد خليل:
(فالكُرد قد عاشوا في وطنهم كُردستان منذ عهود سحيقة، كما هو شأن جيرانهم العرب في بلاد العرب، والفرس في فارس، والأرمن في أرمينيا، وأما جيرانهم التُّرك فكل قارئ للتاريخ يدري أنهم دخلوا البلاد التي تسمّى الأناضول (أناتوليا = مشرق الشمس) بعد معركة (مَلازْكُرد) سنة (1071م)، ولولا عبورهم من بلاد الكُرد، ولولا تعاون الكُرد معهم، ولولا استعانتهم بموارد كُردستان أرضاً وبشراً، لما استطاعوا التوغّل غرباً، ولما نشأت دولة سلاجقة آسيا الصغرى، ولما كانت من بعدها الامبراطورية العثمانية، ولما تأسّست الدولة التي تسمّى اليوم (تركيا) )
7-كتابة التاريخ تتأرجح بين رؤية البعض لسهولتها، بينما يراها آخرون شديدة الصعوبة، حيث يقع المبدع في فخ  “التاريخ” وما هو بمؤرخ، فما رؤيتكم، وبأي وجهة نظر تكتبون؟
_ ليست صياغة مادة تاريخية إبداعياً، ومسرحياً تحديداً، كما يعتقد البعض، بالأمر الهين، وإن كانت مغرية لما تحتويه من تسهيلات درامية كثيرة. فالظروف جاهزة والأحداث مكتملة، والشخوص حية ومعروفة .. ولكن العمل، ورغم ذلك، يحتاج إلى عناء الخلق والإبداع.
لا شك في أن استسهال الأمر من قبل الكاتب سينعكس لا محالة على نتاجه الفني الذي سيخرج عملاً مبسطاً جداً، بعيداً عن الصدق رغم مطابقته للمادة التاريخية، وسيسيء للتاريخ وللمتفرج أيضاً، الذي ينفر من كل عمل فارغ من العمق الفكري أو الإسقاط الواقعي . 
ولعل من أولى شروط استخدام المادة التاريخية في المسرح: التركيز على الخطوط الكبرى والشخصيات الأساسية، ومن ثم منحها مفاهيم ومعان جديدة ومعاصرة، إذ لا معنى من كتابة نص أو عرض مسرحية تاريخية كما وقعت أحداثها بالفعل في زمنها الماضي، بل كما يمكن أن تقع في زمننا الحاضر، أو في المستقبل، وذلك من خلال شحن الأحداث التاريخية بمعان معاصرة، أو ابراز ما تحتويه من إيحاءات لها علاقة ما بأحداث واقعية، أو ما له صدى في زمننا من أفكار ومبادئ، دون تزييف أو تزيين للتاريخ، بل كشفاً لحقائقه بوعي الفنان القارئ لأحداث الماضي بعين المعاصر. ومن أجل خلق عمل فني يعالج الحاضر ولا يسيء إلى الماضي. 
إن العمل على صياغة مادة تاريخية مسرحياً هو تدخل فاعل للفنان في التاريخ على أسس واعية ومدركة وإبداعية. ولقد كانت لي تجربة متواضعة في هذا الشأن إذ كتبت ثلاث نصوص مسرحية مستوحاة من التاريخ الكردي موجهة للأطفال. حاولت الإلتزام بهذا الأمر إلى حدّ ما؛ لما للتاريخ الكردي من خصوصيات متشعبة وإشكالية، لأنه غير مدون، ومحل خلاف، وغير مقروء، كما أن نصوصي كانت موجهة للأطفال، الأمر الذي جعلني أميل إلى الإلتزام بالوقائع الحقيقية كثيراً، ورغم ذلك وجدت أن من الخطأ الفادح الانتصار للتاريخ على حساب الفن. 
8-بعد التمزق الذي أصاب الخريطة والقومية العربية، تُرى المسرح مهيئاً الآن لأحياء القومية الكردية، كما يفعل الأمازيع في بلاد المغرب العربي؟
يقول الطبيب والباحث المصري فهمي الشناوي في كتابه “الأكراد يتامى المسلمين” الصادر سنة 1991 “كلُّ مَن حَوْلَ الأكراد يتباهى بالوطنية صباح مساء، ويجعل منها أيديولوجيا، ويتغنّى بتراب الوطن، ويتشدّق بالموت في سبيل الوطن، حتى إذا طلب الأخ الكُردي أن يكون له وطن مثلَهم لا أكثر ولا أقل، أنكروا عليه ذلك، واعتبروه معتدياً على ما في يدهم” (ص20).
أوردت هذا الاقتباس كرد على الأصوات التي تجد في مطلب الكرد أن يكون لهم مكاناً تحت الشمس أسوة بهم؛ جريمة وخيانة وعمالة للآخر. 
لم تكن القومية الكردية يوماً ميتة كي تحيا، وما نهوضها في الظروف الحالية، سوى نتيجة تراخي قبضة السلطات القوية عنها، وتعرضها لأضواء الإعلام.
لعل من يجهل تاريخ هذه القومية وحقيقتها يظن أنها حديثة العهد في التاريخ، وهو بذلك يخلط بين حداثة معرفته بها وتاريخ وجودها، كمن يخلط بين زمن اكتشاف قانون الجاذبية ووجود الجاذبية، أو قانون الطفو ووجوده، أو حتى وجود الله عزَّ وجلّ وظهور الديانات السماوية !!! 
سيتعرف من يقرأ التاريخ الكردي على العديد من الثورات الكردية التي اندلعت منذ زمن أبعد بكثير جداً من زمن تقسيم المنطقة على يد سايكس بيكو، وقيام البلدان والدول العربية، تعود إلى عقود، بل قرون من السنين، “قبل وجود إسرائيل وتغول امريكا”، اندلعت ضد العثمانيين والفرس، ومن ثم ضد المحتل الأجنبي، وفيما بعد ضد الحكومات العربية التي لم تكتف بإنكار حق الكرد في الحياة، بل سعت بكل ما تملك من أدوات الموت إلى وأدهم.  
لمعرفة الجاني في تمزيق الخريطة العربية حديثاً، وشعوبها..ابحثوا عن الإستبداد.
9-تعيش في ألمانيا، فكيف ترى خريطة سورية من الخارج؟
كانت سوريا بلداً، فأحالها الطغيان إلى مزرعة وسجن، وعندما نهض شعبها من أجل أن تصبح وطناً، ويصبح سكانها مواطنين لا رعية، حولها الطاغي إلى ساحة حرب.
ما أن أذكر للأخر بأنني سوري، حتى يقرن هذا الاسم بالحرب لا ببلد ووطن، فلا يسأل عن أوابدها ومعالمها وسكانها ولغتها.. بل عن أخبار الحرب وتجارها وضحاياها.
قبل فترة احتدم نقاش بيني وبين صديق لي على صفحة الفيسبوك عن أولوية الوطن والمواطن، أيهما أولى، فانتصر هو للوطن وذكر أمثلة عن دول تشكلت “كوطن” بجرة قلم من الاستعمار، ثم تحول الجميع إلى “مواطنين”، فيما انتصرت أنا لأولوية المواطن.
كم من بلد كان قفراً فتحول بيد مواطنه إلى بلد مزدهر، والإمارات عربياً نموذجاً ساطعاً، وكم من بلد كان جميلاً وغنياً فتحول إلى قفر وجهنم: سوريا والعراق أمثلة ناهضة.
لقد قسموا الطغاة بلدانهم، وسوريا حالياً نموذجاً، إلى ملل وشيع وأحزاب ومذاهب وطوائف بالدم. فزادوا على فعل سايكس بيكو مرات ومرات. وإذا كان بمقدور الدول الكبرى إعادة سوريا إلى ما كانت عليه جغرافياً بقوة السلاح، فمن العسير عليها، وعلى غيرها، إعادتها إلى وطن، بل إلى بلد وشعب واحد، سوى بقوة الديمقراطية والمساواة والقانون، وذلك، للأسف الشديد، بعيد بعيد.  
10- كونك كردياً/عربياً، هل كان أزدواجاً أم تكاملاً؟ هل أضاف لإبداعك أم خصم منه؟
 لم يعد أحد بمنأى عن الإزدواجية الثقافية، شاء أم أبى، سعى إلى ذلك أم أحجم، لقد أصبح العالم قرية صغيرة بالفعل، والإزدواجية حادثة بفعل العولمة أو التفاعل والحوار الحضاري، غير أن إزدواجية الكردي لا تشبه بأي حال إزدواجية ثقافة العربي مع الثقافات الأخرى، لأن ذلك لم يكن خياراً وتفاعلاً، بل غبناً سياسياً، وصهراً له ولثقافته ولكل ما ينتمي له. 
أما عن إزدواجيتي عرقياً: فأنا كردي من جهة الأب ولست كذلك من ناحية الأم، التي تنتمي إلى طائفة ملتبسة الهوية” كردية البيئة والمنشأ، عربية اللغة. سريانية الأصل”.
تكاد تكون الثقافة العربية المصدر الوحيد لثقافتي، التي نهلت منها ما وسعني ذلك، لأكتب بها بخصوصية كردية، وهذا عامل غنى بالتأكيد.       
11- تردد دوماً أنك تخشى الموت ، هل أنت مهدد بذلك فعلاً؟ ولم؟
لست من القوة الإيمانية والفكرية إلى درجة لا أخشى فيها الموت.
كلنا نخشاه، ولذلك نعمل ونكتب ونضحك ونحب.
بالنسبة لي أعتقد أن لموت أبي المبكر وأنا طفل صغير دوره في ذلك، إذ بقيت صورة وجهه المتقلص وهو ممدد وسط الغرفة جثة هامدة والجرح الغائر في جبهته يصدم العين، إثر حادث أليم، منطبعة في ذاكرتي زمناً، بل حتى الآن، واستغربت حينها كيف للموت أن يهزم رجلاً مثل أبي الذي كان أشبه بالسيد أحمد عبد الجواد في منزله: صارماً وحازماً وقوياً. لتقودني خطاي بعد ذلك بسنة تقريباً إلى شارع قريب من بيتنا، وهناك شاهدت رجلاً يقتل ابنه الشاب بسكين كبيرة. كان منظراً مرعباً أثر في نفسيتي كثيراً، وما أن خفت حدة تلك المشاعر مع الزمن، رغم مشاهدتي لحوادث مشابهة أخرى، حتى ايقظتها القيامة السورية، ومشاهد القرابين البشرية التي تقدم على مذبح الطغاة والمتطرفين الممسوسين الذين تحولوا إلى دمى متحركة في يد اللاعب الدولي. وخشيتي هذه لم تقتصر على موتي، بل على موت كل ما هو جميل من حولي، الأقرباء والأصحاب والأطفال والنساء والأشجار والأمل. 
وثمة حادثة طريفة في حياتي، روتها لي أمي، رحمها الله، أكثر من مرة، قالت: حين ولدت وسط فرحة العائلة الصغيرة، لم تكف عن البكاء، وبعد أن عجز طبيب المدينة عن التشخيص، وبدأ صوتك يوهن ويتحول إلى أنين، أيقن الجميع أنك ميت الساعة لا محالة، فسارع جارنا إلى حفر قبر لك، وفي تلك الأثناء، دخلت أم جودت، جارتنا العجوز، بيتنا، وبادرت إلى دهن جسدك وفركه، ثم راحت تحشرك تحت ثوبها وتخرجك منه وهي تخاطبني: لقد خرج هذا الولد من عهدتك ودخل في عهدتي. إنه ابني وليس ابنك يا زكية. كانت العجوز تقول ذلك ليقينها، ويقين الجميع، أني أنجب أولاد ضعفاء، لا نصيب لهم في الحياة كما سبق أن حدث لابن بكر لي لم يعش سوى شهر واحد. وبالفعل، حدث ما هو غير متوقع، سرعان ما تماثلت للشفاء، ولم تمت..وها أنت تعيش والحمد لله!!
أما قبري الذي لم يردمه أحد من شدة الفرحة، كما أكدت أمي، فقد بقي شاغراً.. بانتظاري.
صحيقة مصرية أسبوعية العدد 254 
 10 يوليو 2018 
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…